آراء

التفسير الفلسفي- السياسي لثورة 25 يناير المصرية (3)

محمود محمد علي(العوامل الخارجية – البرانية) (أ)

نعود ونكمل حديثا عن التفسير الفلسفي- السياسي لثورة 25 يناير المصرية، حيث نتحدث العوامل الخارجية – البرانية لتلك الثورة، وفي هذا نقول:  أدركت الولايات المتحدة الأمريكية بعد إنهاء الحرب الباردة التي كانت بينها وبين الاتحاد السوفيتي، ضرورة النظر في سايكس بيكو 1916م، وإن الولايات المتحدة الأمريكية ستعتمد في تجزئة المنطقة هذه المرة على الاثنيات والطوائف والأقليات، وذلك باتباع أساليب الإغراء، كإقامة كيانات سياسية مستقلة لها، أو الوعود بحمايتها وتلقى المساعدات منها، وغيرها من هذه الأساليب، وفى واقع الأمر ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية من وراء ذلك، هو جعل هذه الاثنينات، والأقليات، والطوائف أداة من أدوات سياستها الهادفة في نهاية المشوار إلى الهيمنة على المنطقة، والسيطرة عليها. وهذا لن يحدث إلا من خلال" تجزئة المنطقة إلى كنتونات أكثر مما هي مجزأة، بدلاً من الروابط القومية، والدينية أو الثقافية التي تربط بين أبناء المنطقة " .

إن من أهم الأهداف الأمريكية التي تسعي إلي تحقيقها في المنطقة العربية، هي تنفيذ مشاريع “التجزئة السياسية"Political Fragmentation ؛ التي تشمل دول الشرق الأوسط (الدول العربية، بالإضافة إلي تركيا، وإيران، وأفغانستان)، حيث تكشف الوثائق الأمريكية التي تعود إلي الثمانينيات من القرن الماضي عن مخطط صهيوني أمريكي، لإعادة هيكلة جيوسياسية جديدة للشرق الأوسط برمته، فقد تقاطعت مصالح ثلاثة قوي هي (الرأسمالية الأمريكية المتمثلة بالشركات العملاقة، اليمين الديني المتمثل بالمحافظين الجدد، اللوبي الصهيوني الأمريكي) وتمت بلورة وبرمجة أمريكي صهيوني قديم في عهد الرئيس الأمريكي "رونالد ريجان" Ronald Reagan، "يقضي بتفكيك عدة دول في الشرق الأوسط؛ وخاصة الدول العربية بهدف تحقيق مصالح سياسية واقتصادية، فضلاً عن إنشاء دولة إسرائيل الكبرى، وإعطاء إسرائيل دور الريادة، مع محاولة إلغاء الخلاف الحاد بين إسرائيل، ودول المنطقة والاعتراف بها، وبكل ما يتطلبه هذا الاعتراف" .

وتعود خطة تفتيت العالم العربي وتحويل دوله إلى دويلات تقام على أسس عرقية، أو مذهبية، أو طائفية إلى خمسينات القرن الماضي، حين خططت إسرائيل لذلك، كما ثبت من المناقشات التي دارت في إحدى جلسات الحكومة الإسرائيلية عام 1950، والتي نشرت محضرها صحفية إيطالية لقيت مصرعها بعد ذلك في ظروف غامضة. واعتبرت الدولة الإسرائيلية أنه ضماناً لأمنها القومي "لا بد من تفتيت العالم العربي حتى تمنع المحاولات التي كانت تبذل لتحقيق الوحدة العربية، والتي كانت من المطالب الأساسية لتيار القومية العربية، والذي كان في ذروة صعوده في تلك الفترة" .

ولكن الأحداث المتلاحقة التي جرت في الشرق الأوسط، وأبرزها الصدامات العنيفة بين الدولة الإسرائيلية، والحركة النضالية الفلسطينية، بالإضافة إلى المواجهات العنيفة بين إسرائيل، والدول العربية، والتي تمثلت "في سلسلة من الحروب التي بدأت بمشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 مع بريطانيا وفرنسا، كرد فعل على تأميم الزعيم "جمال عبدالناصر" لقناة السويس، ثم حرب يونيو 1967، ضد مصر وسورية، والتي تبعتها حرب أكتوبر 1973، كل هذه الأحداث والحروب لم تسمح لإسرائيل بتنفيذ خطتها الاستراتيجية في تقسيم العالم العربي، وتفتيت دوله وتحويلها إلى دويلات ".

والسؤال الآن: كيف تُقدم أمريكا الديمقراطية للشعوب العربية طبقاَ من الفوضى الخلاقة دون أن يشك أحد في النيات الأمريكية الخفية ؟

والإجابة هي أنه ببساطة وسهولة عن طريق إنشاء ودعم وتمويل كل من الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني ويمكن توضيح ذلك علي النحو التالي:

أ- الإعلام:

أما الإعلام فهو أداة للسياسة وهو القادر على التأثير على عقول الناس واتجاهاتها، حيث يؤكد لنا التاريخ أن الإعلام هو القوة الأكثر تأثيرا في مسار حياة الشعوب واتجاهاتها وقيمها، ويعمل بنفس قوة السلاح، والإعلام  بحد ذاته أداة إذا أحسن استخدامها استطاعت أن تؤثر كما تؤثر الأسلحة الفتاكة الأخرى، إذا ما وجهت نحو قضية أو شعب ما، فإنه يحدث بأسلحته المختلفة الكثير من الآثار والنتائج .

2- منظمات المجتمع المدنى:

تعد منظمات المجتمع المدني إحدى أهم أدوات السياسة الأمريكية التي ساهمت وبشكل واضح وفعال في التحولات الديمقراطية،لذا ارتأت السياسة الأمريكية أن منظمات المجتمع المدني قادرة، بأن "تسهم في تغيير بعض أنظمة البلدان العربية التي من الضروري تغييرها، وفق المشاريع الأمريكية في المنطقة عن طريق تدخلها بشكل مباشر وغير مباشر، والذي من شأنه أن ينتهى في نهاية المطاف، إلى تحقيق المصالح الأمريكية الاستراتيجية، تحت غطاء نشر الديمقراطية في دول المنطقة" .

وأخذت الولايات المتحدة الأمريكية بتمويل ودعم العديد من المنظمات الأمريكية غير الحكومية، مثل الصندوق الوطني للديمقراطية NED، ومنظمة فريدوم هاوس Freedom House وغيرها.

ولم تكن عمليات تمويل الولايات المتحدة الأمريكية لحركات التحرر والمناداة بالديمقراطية ودعم المعارضين في المنطقة العربية ودعمهم بالخبرات والتدريب أمراً غريباً، فالأمر لم يعد إلا استكمالاً وتهيئة لمشروع الشرق الأوسط الكبير، حيث "عملت الإدارة الأمريكية على ترويج الديمقراطية عبر بعض مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني التي عملت وفق برنامج دقيق لترويج مفاهيم الديمقراطية من جهة، وتهيئة وإعداد الناشطين والمعارضين في البلدان العربية من جهة أخري" .

والسؤال الآن: كيف يمكن تنفيذ مخطط تفتيت وتقسيم العالم العربي؟

والإجابة تكون من خلال النظام المخترق، وهذا النظام هو "نظام يكون فيه أطراف من خارج المجتمع الوطني يشاركون بطريقة مباشرة وسلطوية مع أطراف وطنية في قرارات توزيع القيم، أو حشد الدعم لأهداف يتبنونها". ويمكن أن نستشهد هنا بتقويم اثنين من الخبراء المحللين لسياسات الشرق الأوسط، حيث يقولان إنه " الإقليم الأكثر اختراقا بين النظم الإقليمية الأخرى" . والداعي إلي الاختراق عند الدول الرأسمالية الكبرى، علي حد قول أحدهما، هو "النفط، والصراع العربي –الإسرائيلي، وتفتيت القوي المحلية، وهي أسباب منطقية كافية تدعو إلي تدخل الدول الكبرى ".

وهناك مؤشرات للاختراق، منه اختراق السلطة من خلال "المستشار الخارجي في قطاع من القطاعات، أو المندوب الدولي في هيئات السلطة، واختراق المجتمع عن طريق ارتباط قوي سياسية معينة بقوي خارجية، واختراق النخبة الداخلية التي تتبني أهداف نخب خارجية" .

كما أن هناك ثلاثة أسباب تجعل الدولة قابلة للاختراق :الضعف الاقتصادي، والعجز العسكري، وافتقاد التماسك الاجتماعي، والحاجة إلي الاستعانة بالخارج، علاوة على أن هناك عاملاً مهماً، وهو "هشاشة النظام السياسي" الذي يجعل الدولة تطلب تأييداً خارجياً يحميها من انتقادات المنظمات الحقوقية الدولية ومحاسباتها، وربما من الثورات والانتفاضات الداخلية، أو يعينها علي توريث السلطة لمن يشاء الحاكم.

وفيما يتعلق بالبيئة التمهيدية التي توفر الظروف الملائمة لعملية الاختراق، فنذكر منها: "التهديد العربي، الدولة الإقليمية المركز، الإرث التاريخي والشركات المتعددة الجنسيات، والنخب العربية، الاختراق الخشن، الاختراق الإقليمي" .

وهناك أدوات اختراق مساعدة، نذكر منها " التسميم السياسي  political intoxication " الذي يهدف إلي محاولة زرع أفكار معينة، أو قيم دخيلة، من خلال الكذب والخديعة، ثم العمل على تضخيم هذه القيم تدريجياً، لتصبح قيم عليا في المجتمع المستهدف. وعملية التسميم السياسي، بهذا المعنى، "مرحلة من مراحل المعركة مع الخصم أو مقدمة لمعركة قادمة، وهي تستهدف تبديل القيم أو التحلل من قيم معينة بشكل تدريجي وغير مباشر. والأخطر من كل هذا أن التسميم لا يمارسه العدو مباشرة، وإنما يتم استعمال نخب فكرية وثقافية وفئات مختارة لتُنقل لها – في مرحلة أولى - الأفكار الدخيلة، ثم تُترك هذه النخب والفئات – في مرحلة ثانية - لتنقل تلك الأفكار إلى الجماهير من خلال أدوات الدعاية والإعلام المختلفة" .

ويتحدث " د. رفعت سيد أحمد" في كتابه (علماء وجواسيس) عن مراحل عملية التسميم فيقول: "وهذه العملية بكاملها تمارس من قبل مجتمع قوى في مواجهة مجتمع ضعيف"، وعملية التسميم السياسي تفترض ثلاث مراحل أساسية :

المرحلة الأولى: مرحلة استقاء المعلومات ومعرفة الخصم مجتمعياً وبشكلٍ جيد، بأساليب التجسس أو غيرها من الأساليب الحديثة التي تتجه أول ما تتجه إلى الفرد- الإنسان.

المرحلة الثانية: مرحلة التشكيك في الذات القومية، وفي التراث الحضاري، وفي الهوية القومية التي يُمجدها المجتمع والإنسان- الفرد.

المرحلة الثالثة: مرحلة القدوم العضوي إلى أرض المجتمع؛ حيث يسهل تطويعه تطويعاً سياسياً كاملاً، ينتج عنه أعلى حالات التبعية.

ويدخل في مجال التسميم السياسي ما يسمي" بـ" حلف الضواحي"، وهو محاولة الجهات المخترقة أن تعمل لتعزيز النزعات الانفصالية للثقافات الفرعية، وهي سياسة استعمارية قديمة عُرفت بسياسة "فرق تسود"، تحاول كل من الدولة العبرية وحلفائها في أمريكا وأوربا ترويجها في العالم العربي" .

ويمكن أن نضيف إلي ذلك مفهوم" الفوضى الخلاقة" التي" تهدف إلي تدمير بنية قائمة مختلة في نظر الدول الأجنبية، لتشيد بدلاً منها بنية جديدة تخدم سياساتها في المنطقة، كما عملت لذلك إدارة الرئيس "جورج بوش" عقب احتلال العراق للكويت ".. وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم