آراء

بول بريمر ومخطط إسقاط الجيش العراقي (1)

محمود محمد عليمن المعروف أن السياسة الامريكية الحالية ومن سبقها من الادارات الاخرى، تتركز على بعدين خارجين رئيسين في الشرق الاوسط، وهما قاعدة امنية قابلة للبقاء في المنطقة من جهة، وهو هدف قصير الأمد، واعادة تشكيل السياسيات الاقتصادية  والثقافات الداخلية في المنطقة عن طريق اصلاحات ليبرالية من جهة اخرى. من خلال نزعة الافتراء بالعمل وشن الحروب الوقائية وعمليات التغير للأنظمة جزءً من العقيدة الرسمية، وهذا التوجه فسر قرار الرئيس الامريكي، بان الولايات المتحدة الامريكية لن تترك العراق قبل ازالة الارهاب، واقامة انظمة سياسية حديثة و مستمرة وديمقراطية.

وقد اشار محمد حسنين هيكل في بحثه (حلم الامبراطورية الامريكية) المنشور في 10/3/2003م، ان العراق هو نقطة الانطلاق للمشروع الامريكي في المنطقة، وقد جاء في الصفحة الرابعة من هذا التقرير ما يلي:”حاول وزير الدفاع الامريكي السابق دونالد رامسفيلد ان يجرب طرح المشروع الامبراطوري ظاهرا وصريحا لعله يغري المنطقة بهذا التحول” فهذا يؤكد ان العراق هو الهدف، فكانت الفكرة الامريكية الاطاحة بنظام صدام حسين والاتيان بنظام جديد يدين بولائه للولايات المتحدة الامريكية من اجل بسط نفوذها في المنطقة وذلك لضمان أمن وسلامة اسرائيل وحماية وصول أمريكا الى نفط الشرق الاوسط ، واعتبر غزو العراق هو الخطوة الاولى بالنسبة للمحافظين بإعادة تشكيل الشرق الاوسط بأكمله.

ولاسيما فإن تقسيم العراق الى ثلاث دويلات طائفية وعرقية وتحويله الى دولة مكونات هو مخطط اسرائيلي منذ زمن بعيد، فقد صرح (مناحيم بيغن) رئيس وزراء اسرائيل الاسبق في جريدة (بديعوت احرنوت) بتاريخ 11/12/1980م، قائلا: (العراق هو العدو الاكبر لإسرائيل لذا يجب تقسيمه الى ثلاث دول، دولة كردية في الشمال العراقي، وأخرى شيعية في الجنوب، وثالثة سنية في الوسط) .

وتطمح اسرائيل إلى اضعاف العراق، وتفتيته لأسباب تاريخية وسيكولوجية تتعلق بمخاوف الصهاينة المتجددة من عقدة تدمير الدولة العبرية، وذلك عن طريق غزو قادم من المشرق العربي وبالتحديد من العراق، على غرار محنة السبي البابلي لليهود في التاريخ القديم، عندما اطاح البابليون العراقيون بمملكة اسرائيل القديمة، وسبوا الاسرى اليهود في سلاسل إلى العراق القديم، ويتحدد تخوفهم اليوم من زيادة قوة التحرك الاسلامي، وهذا اذا ما ربط بين  ضرب العراق لإسرائيل في حرب الخليج الثاني لعام /1991م وبين الهاجس القائم في الوعي واللاوعي السياسي لقادة اسرائيل بالغزو القادم من الشرق لتدمير دولتهم، فان  تفتيت أو تمزيق أو اضعاف العراق كونها تخشى منه وايضا تخشى دوما من توحيد الجبهة العسكرية العربية، والتي قاعدتها التحالف بين (مصر وسوريا والعراق) واعتبرت ذلك دوما بأنه يشكل خطراً جسيماً على مصير إسرائيل، ولهذا ترغب اسرائيل في ألا تقوم للعراق قائمة مرة أخرى.

وكذلك ما أكده (جون يو) استاذ القانون في جامعة كاليفورنيا والباحث في منظمـة اليمين المتطرف بحث باسم (American Enterprise Institute) والذي اقترح فيه تقسيم العراق الى ثلاث اقاليم، ويبرر ذلك بأن العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كان مجموع عدد الدول المستقلة (74) دولة والان بلغ "193" دولة ويذكر دور امريكا في تمزيق الاتحاد السوفيتي وعدد من دول أوربا الشرقية، وقرار التقسيم بذلك يكون وسيلة للتأثير في قرارات الدول والانظمة الحليفة للولايات المتحدة الامريكية، فخطط تقسيم خطط قد وضعها أيضاً كل من ” جوزيف بايدن” رئيس العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ  و“ليزلي جليب” رئيس مجلس العلاقـات الخارجية بواشنطن، وكلاهما يؤيدان تقسيم العراق وتفتيته مثلما تم تفتيت يوغسلافيا في التسعينات .

وهذه الاستراتيجية الصهيونية بدأت تطبق في العراق عندما قام (بول بريمر) الحاكم الأمريكي السابق في العراق بعد احتلاله، بحل الجيش العسكري العراقي. والذي جاء هذا القرار الأمريكي (بالحل المفاجئ) للجيش اي بمثابة خدمة مباشرة للمخططات الصهيونية تجاه العراق.

ذكر "بوب وود ورد في كتابه "خطة الهجوم" الذي كتبه عن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، أن هذه الاستراتيجية الصهيونية بدأت تطبق في العراق عندما قام الرئيس الأمريكي جورج بوش (الابن) عقب غزوه لأفغانستان باحتلال العراق بحجة أن صدام حسين ما زال يمتلك أسلحة الدمار الشامل التي تهدد العالم!! .

وبدأ مساعدو بوش سباقاً محموماً لإيجاد تلك الأدلة التي لم تكن متوافرة، ويصف وود ورد المناقشات والخناقات التي دارت في مقر الإدارة الأمريكية من أجل خلق تلك الأدلة، واتهام الإدارة لكولن باول، أحد رموز تحرير الكويت بالتردد والخوف، ثم تجميد دوره، وقد كان وقتها وزيراً للخارجية.

بالطبع فقد نفّذ بوش حلمه وغزا العراق ثم لم يجد أي دليل على ما أراده، ويكشف وود ورد بأن الكثيرين حاولوا صرف بوش عن خطته الجهنمية ليبينوا له بأن فتح جبهة جديدة على العراق في الوقت الذي يخاطر فيه الجيش الأمريكي في أفغانستان يعتبر مغامرة سيئة يجب تجنبها، ولكن بوش كان مُصراً على رأيه، وفي تصوري بأن هذا الإصرار كان بسبب عقيدته التوراتية التي تدفعه إلى إحتلال العراق.

ولذلك كانت رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في هزيمة صدام حسين والقضاء علي الجيش العراقي بدعوي وجود أسلحة دمار شامل لديه من أهداف التدخل الأمريكي في العراق؛ ولما كان لدي الأمريكيين حساسيات من فكرة التدخل البري المباشر، كما حدث في فيتنام والصومال في خمسينات القرن الماضي وتسعيناته ؛ عملت الولايات المتحدة ومؤسساتها المختلفة، وخصوصا وزارتي الخارجية والدفاع ( البنتاغون) علي الاستعانة بالشركات الأمنية والعسكرية علي حد سواء للقيام بمهمات متنوعة، بداية من الحماية الشخصية لكبار المسؤولين الأمريكيين، وفي مقدمتهم الحاكم المدني "بول بريمر"، وصولا إلي المشاركة المباشرة في القتال، بهدف تدمير الجيش العراقي .

وفي التاسع من أبريل 2003 قامت القوات الأمريكية باحتلال بغداد، ثم قامت بتعيين الجنرال الأمريكي "جاي غارنز" حاكماً عسكريا للعراق . جوبهت هذه الخطوة بانتقادات عديدة لكونها إعلانا صريحاً وتطبيقاً عملياً للاحتلال، وحكماً عسكرياً لبلد مستقل، مما اضطر الحكومة الأمريكية لإقالة غانز وتعيين السفير بول بريمر حاكما مدنياً (الذي عمل مساعداً لهنري كيسنجر اليهودي، وقال عنه كيسنجر بأنه مهووس بحب السيطرة)، وذلك في مطلع مايو 2003 . ومنصب بريمر هذا يشابه منصب المندوب السامي البريطاني الذي كانت تعينه بريطانيا في مستعمراتها في العالم .

تولي بريمر مهامه كرئيس للإدارة المدنية في العراق مع بداية شهر يونيه 2003،  ومنذ توليه اتخذ قرارات مهمة تخص الشأن العراقي . ومن هذه القرارات وأهمها استبعاد أعضاء حزب البعث من العمل في الدوائر الحكومية والمدارس والجامعات، كما استبعدوا من المشاركة في الحياة السياسية . كما قام بريمر بحل الجيش العراقي وإلغاء وزارتي الدفاع والإعلام مما أفقد مئات الألوف من العراقيين وظائفهم وأصبحوا عاطلين عن العمل بلا مصدر للدخل . كما أعاد بريمر هيكلة المؤسسات العراقية العامة والاقتصاد العراقي بشكل جذري، فأصدر أكثر من مائة مرسوم شامل، ونذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: منها قرار رقم 81 الذي نص على منع المزارعين العراقيين من استخدام البذور المحمية ولا يسمح لهم بحفظ البذور، ولا مشاركتها مع غيرهم، ولا يحق لهم اعادة زراعة البذور المحصودة . ومنها ايضا قرار رقم 39 الذي يسمح بخصخصة 200 من الشركات المملوكة للدولة العراق إذ أصبحت ملكيتها اجنبية بنسبة 100% وتعامل معاملة الوطنية من حيث تحويلات الارباح والاموال الاخرى المعفاة من الضرائب والقيود، والتراخيص الملكية لمدة 40 عاما. ومن القرارات التي اتخذها بريمر قرار رقم 12 الصادر في 2003 وتم تجديده في 2004 ومفاده تعليق الرسوم الجمركية والضرائب على الواردات ورسوم الترخيص الاضافية للسلع التي تدخل أو تغادر العراق، وجميع القيود التجارية الاخرى التي تنطبق على مثل هذه البضائع. ومنها قرار رقم 17 الذي منح المقاولين الأجانب بما في ذلك شركات الامن الخاصة، حصانة كاملة من القوانين العراقية، بالإضافة إلى قانون 30 المتعلق بالإدارة المالية ومنع التصدير اذ منع بريمر العراق من تصدير العديد من المنتجات الصناعية والمواد الأولية. ولم يكتف بذلك بل علق كل التعريفات، والرسوم الجمركية، ورسوم الاستيراد، ما فتح الاقتصاد العراقي أمام تأثيرات التجارة الحرة بعد سنوات من الحصار .

وجهت انتقادات كثيرة لقرارات بريمر الخاطئة، حيث حصلت مشاكل كبيرة بسبب استعباد البعثيين وحل الجيش العراقي، والذين تظاهروا احتجاجا علي هذه السياسة، كما هدد بعضهم بالانضمام إلي المقومة العراقية إذا لم يتم إعادتهم إلي وظائفهم. واعترف توني بلير رئيس الوزراء البريطاني "أن عملية حل الجيش العراقي السابق بالكامل كانت خطأ " . وأوضح " اعترف بأنه ربما تم ارتكاب خطأ واحد وهو حسب ما اعتقد حل الجيش العراقي بأكمله . وأن إزالة جميع عناصر حزب البعث من مناصبهم في السلطة العراقية تم بسرعة كبيرة" .

علي أية حال  كان حل الجيش العراقي في مايو 2003 وإعادة تأسيسه من جديد وحصره في مهمات الأمن الداخلي من أهم القرارات الأولي لبريمر.. وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

................................

المراجع

1- إبراهيم خليل العلاف: الولايات المتحدة الأمريكية ومحاولة أقلمة وتدويل قضية الأمن في العراق، المؤتمر العلمي السنوي لمركز الدراسات الإقليمية، جامعة الموصل، دار ابن الأثير للطباعة والنشر، جامعة الموصل، 2007، ص 10-12.

2- جيرمي سكاهيل: بلاكووتر أخطر منظمة سرية في العالم، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، لبنان، 2010،.

3-  شون ماكفيت: المرتزقة الجدد- الجيوش الخاصة وما تعنيه للنظام الدولي، ترجمة إبراهيم البيلي محروس وآخرون، مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث، 2016.

4- د. السيد مصطفي أحمد أبو الخير: الجوانب القانونية والسياسية للشركات العسكرية   الدولية الخاصة، دراسة نشرت في مجلة شئون خليجية العدد(52) يناير2008م.

5- أحمد أنور صيتان العزام: دور الشركات الأمنية المتعددة الجنسية في الحروب والصراعات العسكرية في الوطن العربي (2003- 2015):دراسة في حالة العراق، رسالة ماجستير غير منشورة بكلية الآداب – جامعة اليرموك، الأردن، 2016.

6- جيمس بول وسيلين ناهوري: الحرب والاحتلال في العراق تقرير المنظمات غير الحكومية، مركز دراسات الوحدة العربية واللجنة العربية لحقوق الإنسان، بيروت، 2007.

7-  إبراهيم حسن الغالبي ونزيهه صالح: مستقبل العراق في خضم التحولات الإقليمية، ط1، مطبعة الساقي، مركز العراق للدراسات، 2013.

8-  محمد حسنين هيكل: الإمبراطورية الأمريكية والإغارة علي العراق، دار الشروق، القاهرة،  ط3، 2004.

9- بدر حسن شافعي: إشكالية العلاقة بين الجيوش الوطنية والشركات العسكرية الخاصة، بحث منشور ضمن كتاب الجيش والسياسة في مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، الدوحة، قطر، 2016.

10- بوب وود ورد: خطة الهجوم، تعريب فاضل جنكر، مكتبية العبيكان،1425هـ

 

 

 

في المثقف اليوم