آراء

لماذا التعنت الأثيوبي في ملئ سد النهضة؟ (1)

محمود محمد عليتعد إشكالية مياه النيل واحدة من أهم وأبرز قضايا الأمن القومي التي تواجه مصر، وهي قضية شائكة ذات أبعاد متعددة، ومنها البعد المادي ؛ حيث إن الحصة المائية الثابتة المقررة  لمصر والمحددة بـ55.5 مليار م3 لم تعد تتوافق وحجم الزيادة السكانية المطردة ما أدي إلي انخفاض نصيب الفرد المصري سنوياً لأقل من 700م3؛ أي أقل من حد الفقر المائي المتعارف عليه عالمياً بألف م3، ولما كانت حل هذه القضية مرتبطاً إلي حد كبير بوعي الجمهور العام والقيادات السياسية لها ولأبعادها المتباينة ولما كان للإعلام من دور حاسم في تشكيل هذا الوعي، ومن خلال معايشتي للواقع في هذا الوقت، فقد لاحظنا تصاعدا في أزمة مياه النيل كما وجدنا اهتمام من بعض وسائل الإعلام بتناول تلك الأزمة، ومن هذا المنطلق نجيب في هذا المقال علي هذا التساؤلات التالية: لماذا تعثرت المفاوضات الأمريكية التي كانت في خلال شهر فبراير الماضي والتي حاولت تقريب النظر بين البلدان الثلاث: مصر وأثيوبيا والسودان، مع العلم أنه كان هناك اجتماع في 26 فبراير وكان من المفترض أن يشهد توقيع المسودة التي أعدها الأمريكيون بعد مشاورة الدول الثلاث؟ ولماذا أعلنت أثيوبيا أنها لن تحضر للتوقيع وأنها تحتاج وقت أطول إلي ما بعد الانتخابات التشريعية في مايو المقبل؟

لا شك في أن غياب أثيوبيا أبرز لنا بجلاء ووضوح الخلاف بينها وبين مصر في المفاوضات، وهنا لا أتحدث عن الخلافات الجوهرية والتي بدأت في أن مصر قالت لهم لا تبينوا السد، بينما أثيوبيا تقول سوف أبني السد، وإنما سأتحدث عن الخلاف المتمثل في آخر مرحلة من المفاوضات، وهي أن السد قد تم بناءه بنسبة 70 %، وأثيوبيا تستعد الآن إلي مرحلة ملئ خزانه، والذي يبلغ 74 مليار متر مكعب في يوليو المقبل كما أعلن الأثيوبيون ... فالخلاف في تفاصيل ملئ السد الذي سيحتجز كمية من المياه التي تأتي عبر النيل الأزرق .

وقبل أن نتوغل في عرض المشكلة علينا أن ندرك جيداً بأن مياه النيل تمثل حوالي 84 مليار متر مكعب، وتقريبا كلها تذهب لمصر والسودان، ومن 84 مليار م3 والذي نصيب مصر رسميا منه 55 مليار متر مكعب سنويا فإن أكثر من 50 % من مياه النيل كلها تأتي من رافد النيل الأزرق في عدة روافد، منها النيل الأزرق والذي يأتي من أثيوبيا والنيل الأزرق يمد نهر النيل بحوالي 50 مليار متر مكعب أو أقل بقليل.

وسد النهضة الغرض منه توليد الكهرباء، وهذا التوليد لا يستهلك مياه إلا المياه التي يستخدمها في البداية لتوليد الكربونات، وأي مياه بعد ذلك تأتي تولد كهرباء، ثم تجري إلي المجري تستقر فيه ولا تؤثر علي دول المصب، وفقط تحتاج أثيوبيا لتوليد الكهرباء من السد مياه كحد أدني حوالي 20 أو 24 مليار م3 حتي تبدأ تشغيل التربينات الأولي، وهنا نجد مصر تقول لها " احتجزي الكمية هذه ولكن في أطول فترة بحيث لا أتأثر .. أثيوبيا تقول لها " أنا أريد احتجاز هذه الكمية في أسرع وقت ممكن " ... مصر تقول لها " إذا أردتي الاحتجاز في أسرع وقت ممكن لا بد أن تراعي وضع المياه وحجم الفيضان الذي يأتي؛ بحيث إذا زاد الفيضان احجزي.. أما إذا حدث جفاف فهناك مأزق حيث سيكون هناك جفاف طبيعي وجفاف صناعي وفي تلك الحالة سوف يحدث لدي الضرر مرتين " .

كذلك تمت المناقشة حول كميات المياه، فمصر قالت "إن أقل كمية من الممكن أن أقبل بها وهو 40 مليار متر مكعب بدل من 50 تأتي من النيل الأزرق" ... أما الأثيوبيون فقد قالوا بأن "أقصي كمية يمكن أن نسمح بمرورها أثناء فترة التخزين هي 31 مليار متر مكعب" .. وهنا تدخل الأمريكيون وتوصلوا إلي حل وسط وهو 37 مليار متر مكعب ..

قبلت مصر ورحب الأثيوبيون في البداية قبل أن ينسحبوا، لكنهم أثاروا مشكلة أخري، وهي أنهم اتفقوا علي رقم 37 مليار م3، ولكن لا تكون أثناء ملئ فترة ملئ الخزان فقط، بحيث يكون الـ 37 مليار هو الرقم الثابت الذي تحصل عليه مصر في النهاية ؛ بمعني يجب تقليل حصة مصر والسودان من النيل الأزرق من 48 ونصف إلي 37، وهذه الفكرة قد رفضتها مصر، والمفروض أن هذا يضر بالسودان، ولكنهم لم يتكلموا ... وهنا تدخل الأمريكيون وقالوا علينا أن نتكلم الآن عن مرحلة ملئ السد وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث ... رفض الأثيوبيون الحضور والتوقيع علي المرحلة الأولية وهي مرحلة ملئ السد في البداية كما علمنا جميعا ..

والسؤال الذي ركز عليه كل الخبراء طوال مرحلة التفاوض طيلة السنوات التسع، لماذا التعنت الأثيوبي في ملئ سد النهضة؟

الإجابة هي أنه لا توجد هناك مشكلة كبيرة ؛ بمعني أنه يمكن للأثيوبيين أن يحققوا أهدافهم المعلنة بتوليد الكهرباء دون الإضرار بمصر، بل كان يكفيهم إقامة سد أصغر من سد النهضة الضخم لتوليد الكهرباء، بل ويمكن التفاهم علي فترة الملئ، وإيجاد حلول وسط كثيرة، والصيغة التي توصل إليها الأمريكيون، والتي تغيب عن توقيعها الأثيوبيون بعد أن وافقوا مبدئيا، وبالتالي لا توجد مشكلة فنية بقدر ما هي تمثل مشكلة تاريخية وسياسية بين البلدين.

إن مصر للأسف الشديد مرتبطة في أذهان بعض النخب الأثيوبية المؤثرة في صنع القرار بالدولة الاستعمارية العدوانية، الراغبة دائما في إبقاء أثيوبيا دولة فقيرة وضعيفة ولا تحظي بأي فرصة للتنمية، وصورة الصراع تاريخية ترجع إلي القدماء المصريين وأوبرا عايدة والخلافات القديمة بينهم، وتستمر حتي العصر الحديث ؛ إذ دائما ما تتحدث النخب الأثيوبية بمرارة عن محاولات مصر في حكم الخديوي إسماعيل غزو أثيوبيا في نهاية القرن 19، وكذلك يتكلمون بمرارة عن دعم الرئيس جمال عبد الناصر لما سمي بحركات التحرر في الخمسينات والستينات وحركات التحرر وقتها كانت تعني بالنسبة لأثيوبيا دعم حركات انفصالية عن الحكومة المركزية.

كذلك بعض النخب الأثيوبية ممتعضة جداً من الدور الكبير الذي لعبته مصر في ضم الصومال لجامعة الدول العربية، حتي أنهم يقولون : لماذا سعت مصر لضم الصومال لجامعة الدول العربية وعلي أي أساس ؟ .. لماذا تضموها مع أنه لا علاقة للصومال للغة العربية .. أنتم ضممتم الصومال فقط لمناكفتنا والتضييق علينا ومحاصرتنا ...وكل هذا للأسف كلام مغلوط .

ومن جهة فإن الكثير من المصريين وأنا واحد منهم ننظر للنخب الأثيوبية الآن بكثير من الريبة ولا نثق فيهم، بل نخشي إن سلمنا لهم بحسن نية مسألة إقامة السد أن يضروا بنا وبمصر الحبيبة، ولنا في التاريخ عبرة وعظة .. يكفينا أن نتذكر مثلا تجارب الأثيوبيين في إدارة السدود مثل سد تركانه مثلا وهذا أدي إلي جفاف نسبة كبيرة من بحيرة تركانه في شمال كينا والإضرار بمئات الآلاف من الكينيين ... وما عملوه في سد جوبا وشبيلي وكيف استخدموا السدين في أنهما علي نهرين يصلان إلي الصومال لعقاب الصوماليين، إما بتعطيشهم أو بإغراقهم وكيف استخدموا ذلك استخدام سياسي في الإطاحة بالرئيس الكيني "شيخ شريف".. وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

............................

المراجع

1- فاتن محمد حسن الطنباري : معالجة الفضائية المصرية لأزمة مياه النيل وعلاقتها باتجاهات المراهقين نحو علاقات مصر وإفريقيا، جامعة عين شمش، كلية الدراسات العليا للطفولة، مج79، ع79، 2018.

2- سيد جبيل: لماذا تصر إثيوبيا على بناء سد يهدد حياة المصريين؟ - YouTube

3- سيد جبيل: ما هي خيارات مصر في مواجهة السد الاثيوبي ؟ - YouTube

4- مقالات هاني رسلان حول سد النهضة.

5- ستراتفور: مصر وإثيوبيا.. صراع تاريخي مستمر على الماء النفيس، ترجمة: محمد الصباغ.

 

 

في المثقف اليوم