آراء

سد النهضة والأبعاد الحقيقية للنزاع الأثيوبي المصري (2)

محمود محمد علينعود ونستأنف حديثنا عن الأبعاد الحقيقية لأزمة سد النهضة الأثيوبي، وفي هذا نقول : في نهاية السبعينات من القرن الماضي شهدت العلاقات بين مصر وأثيوبيا تحوّلاً أساسياً في ارتباطات مصر الخارجية في عهد الرئيس "محمد أنور السادات" (والذي اشتهر بجرأته وحنكته ودهائه السياسي إلي سدة الحكم في مصر)، عن الشكل الذي اتّخذته منذ الخمسينات والستينات، فقد تقدّمت مصالح واهتمامات مصر الوطنية على التزاماتها العربية والإفريقية، واستبدلت العلاقة مع الاتحاد السوفياتي بعلاقة ومشاركة مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب

لقد جاء السادات ليتخذ قراره الذي سبب ضجة بالعالم العربي بزيارته للقدس، وذلك ليدفع بيده عجلة السلام بين مصر وإسرائيل؛ وقد قام في عام 1978 برحلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية من أجل التفاوض لاسترداد الأرض وتحقيق السلام كمطلب شرعي لكل دولة؛ وعلي أثر ذلك تم وقف كل المشروعات التي كانت تنوي أمريكا وإسرائيل تنفيذها (مؤقتاً) قبل ذلك من بناء سدود للإضرار بمصر .

كذلك شهدت فترة حكم الرئيس السادات ظهور بعض التوتر فى العلاقات المصرية- الإثيوبية بسبب إريتريا بعد دعم الخرطوم لحركة تحرير إريتريا، ومساندة إثيوبيا لحركة جنوب السودان (أنيانا)، مما كان له التأثير السلبى على العلاقات المصرية الإثيوبية بعد إعلان السادات وقوفه إلى جانب السودان، وتوقيعه لمعاهدة الدفاع المشترك مع الخرطوم عام 1976، الأمر الذى أدى لتدهور العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا، بل وازداد الأمر سوءً عندما رفض السادات الحوار مع الوفد الإثيوبى الذى زار مصر فى فبراير 1976، مؤكدا ضرورة استقلال الشعب الإرتيرى.

وفى تلك الحقبة، بدأ ملف المياه يدخل دائرة التوترات بين مصر وإثيوبيا، وذلك حينما أعلن السادات عزمه مد مياه النيل إلى سيناء عام 1979 لاستصلاح 35 ألف فدان، ما أثار غضب وثورة أثيوبيا التي عارضت المشروع بشدة وقدمت شكوى رسمية ضد مصر عام 1980 إلى منظمة الوحدة الأفريقية، واستمرت هذه الأوضاع بهذا الشكل وصولاً إلى إعلان ست من دول منابع النهر التوقيع على معاهدة جديدة لاقتسام موارده بمدينة عنتيبي الأوغندية، ومنحت القاهرة والخرطوم مهلة لمدة عام للانضمام إلى المعاهدة لكنهما رفضا وأكدا أن الاتفاقية مخالفة لكل الاتفاقيات الدولية

ومن الطرائف والغرائب في ذلك ما تداولته صفحات وسائل الإعلام آنذاك ؛ حيث قيل بأن هناك جهات داخلية وخارجية أبلغت الرئيس السادات بأن أثيوبيا بدأت في بناء سدود علي مجري النيل ، وعلي الفور أرسل السادات لأثيوبيا علناً احتجاجا بأنها اخترقت الاتفاقات الدولية ، وأنه ليس من حق أي دولة علي مجري النيل أن تبني سداً دون موافقة جميع دول حوض النيل.. أنكرت أثيوبيا علناً بناءها لأي حدود .. وتعمد السادات أيضا أن يرسل علنا لأمريكا والأمم المتحدة والمنظمات الدولية احتجاجه علي بناء السدود الأثيوبية .. فردوا عليه علناً أيضاً أن أثيوبيا لا تنبني سدوداً .. سجل السادات جميع الردود العلنية بعدم وجود سدود في أثيوبيا ، وأرسل 6 طائرات ولونها بلون واحد وبدون علم مصر وضرب السدود كبها من مطار بجنوب السودان.. هاجمت أثيوبيا وأرسلت للأمم المتحدة وجميع المنظمات الدولية تشكو مصر أنها ضربت السدود ، وأرسلت الأمم المتحدة إلي السادات مستنكرة ضربه للسدود وتتهمه باختراق حدود دولة أخري.. أنكر السادات وقال : هل يوجد سدود في أثيوبيا !!!؟ ألم تبلغونا بعدم وجود هناك .. فكيف لنا أن نضرب شئ لا وجود له؟؟؟...

وبصرف النظر عن مدي صدق هذه الرواية من عدمها إلا أنه يمكن القول بأنه بعد أن أصبح زمام العلاقة بين مصر وإثيوبيا ملئ بالمشاكل والتوترات فى عهد السادات، جاء عصر الرئيس السابق محمد حسنى مبارك، ليشهد بداية مرحلة جديدة من العلاقات المصرية – الإثيوبية، وخفت حدة الخطاب السياسي بين البلدين، وبدأت تحل محلها انفراجة فى العلاقات المصرية الإثيوبية فى صيغة التعاون والتفاهم فى مختلف المجالات.

وأعلن الدكتور عصمت عبد المجيد، وزير الخارجية المصري الأسبق، فى مؤتمر القمة الإفريقية العشرين، الذى انعقد بأديس أبابا حرص مصر على عدم التدخل فى الشئون الداخلية لإثيوبيا واحترام اختيارها السياسي، مؤكداً أن "إثيوبيا الواحدة القوية أحد عوامل الاستقرار الرئيسية فى القرن الأفريقى"، وقامت الدبلوماسية المصرية عام 1984 بجهود مكثفة واتصالات مستمرة مع السودان وإثيوبيا من أجل إنهاء الخلافات المتعلقة بالمشكلة الإريترية، فيما اتبعت مصر سياسة أقرب إلى الحياد حتى عام 1995، فيما يتعلق بالخلافات بين إثيوبيا والصومال، بسبب الصراع حول إقليم أوجادين.

ظلّت العلاقات بين مصر وإفريقيا تتأرجح بين التباعُد والتلاقي، ولكنها لم تعد إلى ما كانت عليه، وشهدت فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي دوراً إسرائيلياً مُتنامياً داخل القارّة السمراء، ووصلت الحال إلى أن ساعدت إسرائيل أثيوبيا بالسلاح، كما ساهمت في الزراعة والمياه.

ثم جاءت محاولة اغتيال حسني مبارك الفاشلة على يد إسلاميين هاربين من مصر، فى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 1995 سبباً فى تحول العلاقة بين البلدين ، فتوقفت أعمال المجلس المصرى الإثيوبى 17 عاماً كاملة، وتدهورت العلاقات بين مصر وإثيوبيا ، وهو ما تجلى فى الخلاف بين دول المنبع ودول المصب لحوض نهر النيل.

لقد أدي انسحاب مصر من القارة وخصوصاً في حقبة مبارك إلي وجود قوى أخرى تعملقت علي أثر هذا الغياب، وأدي ذلك إلي تراجع الدور المصري في القارة عموماً، وفي عمقنا الأفريقي بدول حوض النيل التي تحمل مصالحنا المصيرية معها، وذلك بتواجد نهر النيل عصب الحياة للمصريين ومصدر كل نشاط اقتصادي بها.

وكان من نتائج ذلك أن قادت إثيوبيا وشجعت توجه دول المنبع إلى التوقيع منفردة على اتفاق لإعادة تقسيم مياه النيل، رغم اعتراض مصر والسودان، فى اتفاق سمى باتفاق عنتيبى فى 4 مايو 2010. حتى اتهم رئيس الوزراء الإثيوبى الراحل ملس زيناوى فى عام 2010 مصر باحتمال لجوئها إلى العمل العسكري ضد بلاده بسبب الخلاف على مياه النيل، وإن مصر لا يمكنها أن تكسب حرباً مع إثيوبيا على مياه نهر النيل، وإنها تدعم جماعات متمردة فى محاولة لزعزعة استقرار البلاد، وهو الأمر الذى أثار دهشة القاهرة التى اعتبرت تلك الاتهامات عارية عن الصحة.

فى العامين الأخيرين من حكم حسنى مبارك ألح مليس زيناوى رئيس وزراء إثيوبيا على مبارك فى إنشاء سد على النيل الأزرق، ويقع بالقرب من الحدود مع السودان لا تزيد سعة بحيرته على 14 مليار متر مكعب، إلا أن مبارك كان يرى أن النيل الأزرق خط أحمر ولا ينبغى لإثيوبيا أن تترك كل أنهارها العديدة وتضع النيل الأزرق صوب عينيها فقط من أجل الإضرار بمصر.

هذا الرفض المصري أثار غضب رئيس الوزراء الإثيوبي وجعله يصدر توجيهاته بالمضي قدماً فى اتفاقية عنتيبى مع دول النيل الأبيض للاستقواء بهم ضد مصر ومحاولة لعزل مصر عنهم بوثائق ومعاهدة رسمية تقر بمواقفهم ضد مصر وسهولة الحصول على موافقة دول المنابع على بناء السدود الإثيوبية التى ينتوى الجانب الإثيوبي إقامتها على النيل الأزرق وذلك حسب قول د. نادر نور الدين محمد في مقالاته.

في أثناء ثورة 25 يناير 2011 استغل الجانب الإثيوبي الانشغال الداخلي وعظم التحديات الداخلية في مصر، وأعلن بشكل منفرد عن بناء سد النهضة أو سد الألفية، وعلي الرغم من المبررات والحجج الإثيوبية التي تم علي أساسها هذا الإجراء، فإن مصر لديها حقوق تاريخية مكتسبة ثابتة بحكم الاتفاقيات التي تم إبرامها منذ عقود طويلة وتحدد العلاقات بشكل ملزم بين مصر ودول حوض النيل، إلا أن الجانب الإثيوبي لا يعترف بتلك الاتفاقيات علي أساس أن تلك الاتفاقيات لا تمثل إلا من وقعها، والقصد هنا القوي الاستعمارية، وهذا يمثل خرقاً واضحاَ من جانب إثيوبيا لقواعد الاستخلاف في القانون الدولي والعلاقات الدولية التي تلزم الدول بالالتزام بمعاهداتها الثابتة في فترات سابقة بغض النظر عن النظام السياسي وطبيعته في البلاد ( وذلك حسب قول محمود في مقاله مناع سد النهضة .. تداعيات سياسية).

لذلك لم يكن غريباً أن تستغلّ الدولة الأثيوبية الاضطرابات التي حدثت بعد ثورة 25 يناير ، أن تعلن عن بداية بناء "سد النهضة"، ولم تتمكّن مصر من منعها من البناء، ولكنها سعت من خلال المفاوضات المستمرة وحتى الآن، إلى عدم تأثير السد على حصّة مصر التاريخية من المياه وقدرها 55.5 مليار متر مكعب سنوياً.

ودعونا نعترف (مع دندراوى الهوارى في مقاله "مصر تدفع الثمن.. فوضى يناير وزيارة نشطاء إلى إثيوبيا وراء بناء سد النهضة!!") بأن أخطر ما أفرزته ثورة 25 يناير من نتائج خطيرة، أربعة كوارث حقيقية، الأولى: فتحت الطريق أمام التنظيمات الإرهابية لتسكن أحشاء الوطن كالأورام السرطانية القاتلة. الثانية: جرّأت أقزام العالم للتطاول على قيمة وقامة مصر، مثل قطر وتركيا، ومنحتهما الفرصة الذهبية للتخطيط والتآمر لتمزيق أواصر البلاد، وإسقاط القاهرة فى بحور الفوضى العارمة، الثالثة: دمرت الاقتصاد المصري، ورسخت للانتهازية الاقتصادية والفهلوة فى الحصول على مكاسب دون عمل أو بذل أى جهد، واستباحت الممتلكات العامة والخاصة. الرابعة: أعطت للحكومة الإثيوبية الفرصة الذهبية لبناء سدودها، وأبرزها سد النهضة، فى إعلان صريح وواضح، لقتل المصريين عطشا. ومن النتيجة الرابعة، نعيش الآن خطر الموت عطشا وجوعا، ونقولها بصوت صارخ، إنه لولا حراك 25 يناير ما استطاعت إثيوبيا أن تبنى قالب طوب واحدا فى نهر النيل، وإنما وجدت ضالتها فى الحراك الفوضوى، وعبث المراهقة الثورية والمطالب الفئوية والاستغراق فى المحلية التى كانت عليها مصر، وبدأت خطوات بناء سد النهضة، وابتُليت مصر فى 2011  بسد «النهضة» وفى 2012 ببرنامج «النهضة» الفنكوش.

علي كل حال إثيوبيا ترى أنها لن تحقق التنمية إلا ببناء سد النهضة، وبالتأكيد مصر ليست ضد ذلك، لكنها ضد أن تكون هذه التنمية نهضة لأثيوبيا ونكبة على مصر وتعريض شعبها للخطر، ليس فقط بسبب نقص حصة مصر وتأثيرها على انتاجها الغذائى لتأثر الزراعة بنقص المياه فى فترة ملء السد، ورغم ذلك ظل خيارها دائما الدبلوماسية؛ حيث يؤكد العديد من الخبراء أن أكثر الدول المتضررة من استكمال بناء السد دولتا المصب والمجرى وهما مصر والسودان لعوامل عديدة لن تجعل عمر السد يتجاوز 50 عاما على أقصى تقدير لأسباب منها أن سد النهضة لم يراع فى إقامته دراسات مستفيضة وشروط الأمان الواجب توافرها فى مشروع ضخم مثل السد الإثيوبى فهو مقام على مرتفع يتجاوز 500 متر فوق سطح البحر على صخور بازلتية ضعيفة تزيد من احتمالات انهيار السد بسبب اندفاع المياه خاصة فى فترة الفيضان والذى يعنى غرق السودان خلال 4 أيام ليصل ارتفاع المياه العاصمة السودانية الخرطوم اكثر من 10 أمتار لقربها من مكان السد بكيلومترات قليلة كما أنها خطر على مصر التى يمكن أن تصل اليها مياهه المندفعة بقوة خلال 18 يوما وتدمر معها السد العالى وتجرف الخزانات...وما يزيد خطورة السد أن الشركة الإيطالية المغمورة التى تنفذ المشروع الإثيوبى لها تاريخ سجل سابق من الفشل فى بناء العديد السدود الصغيرة فى إثيوبيا بعضها انهارت بالفعل فلماذا إصرار الحكومة الاثيوبية على هذه الشركة التى أسندت لها العمل بالأمر المباشر؟!. (وذلك حسب قول نبيل السجينى في مقاله ســد النهضة!).. وللحديث بقية!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم