آراء

كيف تعاملت الدولة المصرية في عهد محمد علي مع طاعون الكوليرا؟

محمود محمد عليمن الضروري فهم الأسباب في المرض والأوبئة بالذات، فرغم التقدم العلمي والنقلة العلمية الكبيرة التي حدثت في القرن الماضي المنصرم ؛ حيث تم اكتشاف التطعيمات والأمصال والمضادات الحيوية المهمة كالبنسلين، فإنه علي مدار القرنين الماضيين احتلت الأوبئة والأمراض المستشرية أو "المعدية" واجهة من واجهات التاريخ البشري، وقد توقف عندها المؤرخون بصفتها حروباً مستترة أو غير معلنة، استطاعت أن تقضي على أعداد هائلة من البشر على مر العصور؛ وليس وباء الكورونا الخطير الذي يرعب العالم اليوم ويجتاح بلداناً وأصقاعاً إلا نموذجاً من الأوبئة الشهيرة التي غزت التاريخ وأحدثت هزات عنيفة في الحياة الجماعية، متخطية التخوم الجغرافية والسياسية، مخلفة وراءها مآسي ما برحت محفورة في الذاكرة العالمية، وذلك كما قال عبده وزان في مقاله" الأوبئة تجتاح الروايات... من "طاعون" ألبير كامو إلى كوليرا ماركيز".

وعندما تولى محمد على باشا حكم مصر عام 1805، كان لديه مشروع بناء دولة وأن تكون دولة حديثة، ومنذ أن سقطت دولة المماليك المصرية على يد سليم الأول سنة 1517 لم تكن هناك دولة مصرية؛ كانت هناك مصر الجغرافيا والشعب؛ وكان يقال عنها فى أدبيات ذلك الزمان «الديار المصرية» أو «ولاية مصر» التى تتبع السيادة العثمانية بكل مقتضياتها؛ وبناء الدولة له متطلبات عديدة من أهمها : بناء الفرد، الإنسان؛ الذى تقوم عليه الصناعة وبه تتقدم الزراعة وتؤسس المدارس وتبنى الجيوش وتتكون؛ وهكذا اتجه محمد على إلى الحفاظ على حياة الإنسان ليكون منتجًا، وكان لزامًا عليه أن يواجه الأوبئة التى قد يتعرض لها الإنسان والمجتمع؛ ولا يجب أن يتعامل معها باعتبارها قضاء مكتوبا يتم الاستسلام له؛ أو أنها غضب وانتقام إلهى، وذلك كما ذكر حلمي النمنم في مقاله بالمصري اليوم كورونا .. محمد علي والجبرتي.

ومع بداية ومنتصف ثلاثينيات القرن 18 انتشر وباء الكوليرا في مصر، ووصل عدد ضحاياه إلي أكثر من 150 ألف نسمة، واجتمع قناصل الدول الأوربية في الاسكندرية خوفاً من تسرب الطاعون للدول الأوربية بالإسكندرية خوفاً من تسرب الطاعون للدول الأوربية، وشكلوا فيما بينهم مجلساًً للصحة، وكان هذا المجلس يهيمن علي الأمور الصحية، ويشرف علي إنشاء معازل ؛ حيث قام بفرض معازل وأماكن حجر صحي في مواني دمياط ورشيد والعريش لمنع انتشاره إلي دول أخري.

ويذكر "محمد الدسوقي" في كتابه "تاريخ الطب في مصر"، أن مؤسس مدرسة الطب في مصر "كلوت بك"، أن وباء الكوليرا عام 1831م، القادم من مكة المكرمة لمصر، كان النواة الأولى لإقامة مكاتب للصحة في دمياط ورشيد والعريش، إذ أنشأت هذه المكاتب عام 1832م وأنشئ معها محجر صحي بالإسكندرية لتكون هذه المكاتب هي أول نواة لمكاتب الصحة في مصر للسيطرة على الأمراض والأوبئة ومن بينها الكوليرا، قبل إنشاء مقر وزارة الصحة في ثلاثينيات القرن الماضي، واهتم كلوت بك الذي حاصر الأمراض مع تلاميذه في بلاد الشام بالقضاء علي الأمراض التي كانت منتشرة في مصر أولاً، مثلما يؤكد المؤرخون، فاستخدم التطعيم للقضاء على مرض الجدري الذي كان يؤدي لهلاك 60 ألفًا من الأطفال كل عام، حيث قام هو وتلاميذه بمعالجة المرضى وفي عام 1837م نقلت المدرسة الطبية من أبي زعبل إلي القاهرة وتم افتتاح مدرسة لتعليم القابلات الولادة.

ومن هنا أصبحت العناية بالصحة العامة من أهم أولويات محمد علي لا سيما في بلد كثرت فيه الأمراض والأوبئة، وقد شكلت هذه الأمراض الوبائية عائق أمام أفكار ومشروعات محمد على لتحديث مصر، حيث أزهق الطاعون والكوليرا أرواح آلاف من الضحايا، وأثار ذلك انتباهه إلى خطر ضياع الموارد البشرية مما جعله يفكر في تطبيق نظام الحجر الصحي.

وبالفعل قرر محمد علي باشا اتخاذ العديد من الإجراءات الوقائية، بدءً من إقامة «حجر صحى» فى الجيزة؛ وقد اختار الجيزة على النيل مباشرة، ربما لأنها محطة القدوم من الصعيد إلى العاصمة والعكس؛ وهكذا أراد الحجر الصحى لمنع انتقال المرض وتفشيه فى أنحاء مصر؛ وطالب باتخاذ العديد من الإجراءات الصارمة فى النظافة وغيرها؛ وبمعيار اليوم فهى إجراءات مهمة وضرورية، وهنا اقترح طبيب محمد على باشا الإيطالي جيتاني بك Gaetani عليه أن يحد من دخول السفن الآتية من إستانبول التي أصيبت في ذلك العام بوباء الطاعون. وفي العام التالي انتشر الطاعون في مختلف نواحي الدلتا، ولذلك عبر الباشا عن رغبته في إقامة حجر صحي (كورنتينا) في الإسكندرية، يحجز فيه المسافرين والبحارة والسفن الذين يصلون من مناطق مصابة بالطاعون، على أساس أنه من المحتمل أن يكون المرض منتشر بينهم وذلك للمتابعة والعلاج وذلك كما إبراهيم العسكري في مقال" الأوبئة والأمراض وتاريخ الحجر الصحي فى مصر بالعصر الحديث".

وفي عام 1835 شكل محمد علي لجنة أخرى للإشراف على الحجر الصحي سميت (بمصلحة الكورنتينة) كانت تحت إشراف القنصل الإنجليزي (كامبل)، والقنصل الروسي (دوهاميل)، وظلت كذلك حتى عام 1856 ؛ حيث اتحدت مصلحة الكورنتينة التي تختص بمنع دخول الأوبئة إلى البلاد مع مجلس الصحة الذي يختص بالشئون الصحية الداخلية في مجلس واحد سمي (مجلس الطب الخصوصي)، ولقد تم تغير اسمها في سبتمبر عام 1880 إلى (مجلس عموم الصحة المصري ومشورة الكورنتينات المختلطة بالإسكندرية)، ثم تحول الإشراف على الحجر الصحي إلى (مصلحة الصحة البحرية والكورنتينات) في ديسمبر 1880، وغير اسمها مرة أخرى إلى (مجلس الصحة البحرية والكورنتينات) بالإسكندرية وأصبح عمله مقصورًا على مسائل الحجر الصحي، بينما نقل مجلس عموم الصحة إلى القاهرة وأصبح مختصًا بجميع المسائل الصحية الداخلية للبلاد.

وكان يوجد بالكورنتينة إقامة للمرضى ومؤن من الطعام، وتعيين لزوم إقامتهم، وكان يقيم بها حسب وثيقة غرة صفر 1275 هـ /1858م، حوالى 87 من المرضى والفقراء «المقاطيع» وعند خروجهم كان يصرف لهم من المؤن و«البقسماط»، وكان منهم عابرو سبيل الذين لا تسمح حالتهم بالإقامة فى الأحواش، والتى كانت بمثابة فنادق ربما كانت أسعارها ليست فى متناولهم، وقد عينت الحكومة لتلك الكورنتينة حراسا أشداء لحماية الأطباء والممرضين والمرضى من اعتداءات اللصوص، وكذلك دفع أجرة لهم لتوصيل الحجاج إلى بئر عنبر فى قفط. وفى عام 1864، تم تعيين الدكتور «كارل بنيامين كلوسنجر»، العالم والطبيب ألمانى الجنسية فى عهد الخديو إسماعيل، لمدة عشر سنوات فى نفس موقع المستشفى، وكانت تسمى الرسوم والعوائد الصحية بالصحة والكورنتينات، وأضيفت بعض المبانى للحجر الصحى وجرت ترميمات فى عهد سعيد باشا.

أما حي "الكرنتينا" في الإسكندرية، فله قصة أخرى، ذكرتها الباحثة لافيرن كونكه في كتابها "الصحة العامة في مصر القرن التاسع عشر"، إذ تشير إلى أن إقامة "الكرنتيلات" في الإسكندرية يعود إلى زمن تفشي وباء الكوليرا في عصر محمد علي عام 1831، والذي كان أكثر الأوبئة فتكا في تاريخ مصر، ففي غضون شهرين أودى الوباء بحياة 150 ألف من مجموع السكان البالغ عددهم ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة.

في ذلك الوقت اقترح محمد علي على القنصليات الأوروبية تنظيم مجلس لحماية المدينة الساحلية من الوباء، وذلك وفقًا لما ذكرته الباحثة كونكه. واجتمع 17 من ممثلي القناصل وعينوا لجنة من خمسة رجال ليكونوا أول "مجلس حجر صحي" بالإسكندرية، وقد تمثلت الخطوة الأولى في تطويق المدينة ونشر الأطباء.

لم يكتف محمد علي بذلك بل بني عدة "كرنتينات" في أنحاء مصر، وهي مكاتب خاصة بالحجر الصحي في المناطق الحيوية التي تطل على الموانئ البحرية، وذلك لعزل القادمين إلى البلاد أربعين يومًا، لحين التأكد من سلامتهم، وقد كان من بينهم "كرنتينا" الإسكندرية، الواقعة بالقرب من الميناء، كما كانت تسمي "لازاريت"، وهي حي الأزاريطة بالشاطبي الأن، حيث  يمثل أول "محجر صحي" على غرار المعازل الأوروبية، وقد سمي بهذا الاسم نسبة إلى أول حجر صحي في فرنسا، والذي كان يستخدم لحجز المجذومين، وتحول هذا المبني الأن الي مقر المركز الأفريقي لصحة المرأة أمام مسجد القائد ابراهيم.

وجدير بالذكر أن محمد على باشا كان أسبق من الدولة العثمانية في تطبيق نظام الحجر الصحي بمصر، إذ أنشىء مجلس الحجر الصحى فيها عام 1831 م، بينما أنشىء مجلس الحجر الصحى فى الدولة العثمانية عام 1838م. وبالتالي فإن التاريخ يؤكد أول حجر صحي في مصر كان بالإسكندرية في عهد محمد علي، والذي قرر أن يكون الحجر الصحي على نفس نمط المحاجر الصحية أو المعازل الأوروبية، وعُرف باسم "كورنتيلة" أو "لازاريتو"، في مكان مبنى منظمة الصحة العالمية بجوار الميناء الشرقي، وتم تحريف اسم مكان الحَجْر الصحي في عصر محمد علي (لازاريتو) ليصبح (الأزاريطة) في عصرنا الحديث، وهي اسم المنطقة الواقع بها المبنى حاليا"..

وقد عرفت مصر خلال القرن التاسع عشر اثنين من الأوبئة الفتاكة هما الكوليرا التي كانت انتشرت بشدة في أعوام 1831، 1848، 1865، 1883، والتى كانت غالبا ما تأتي إلى مصر مع الحجاج العائدين من الحجاز، أما وباء الطاعون فقد فتك بالمصريين خاصة في عام 1801 وعام 1835، بالإضافة إلى مرض الجدري الذي حرصت الحكومة المصرية على التطعيم ضده أجباريا.

ويرسم شيلدون واتس فى كتابه «الأوبئة والتاريخ.. المرض والقوة والإمبريالية» صورة متخيلة للزائرين المعاصرين الذين يقفون أمام ضريح محمد على باشا فى مسجده بالقلعة حيث يسمعون تنهيدة يتبعها صوت محمد على قائلا: «لكني أخيرا فزت بالنصر على الطاعون".

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم