آراء

أزمة سد النهضة الإثيوبي.. إلى أين؟ (1)

محمود محمد عليبارتفاع يبلغ نحو 145 متراً، وطولاً بنحو 1800 متر، وسعة تخزينية تصل 74 مليار متر مكعب من المياه، وباحتوائه علي 15 وحدة بإنتاج الكهرباء، قدرة كل واحدة منها تصل إلي 350 ميجاوات وبتكلفة إجمالية تقارب 5 مليارات دولار يوشك سد النهضة الأثيوبي أن يصبح أكبر سد مائي في القارة الأفريقية، والعاشر عالمياً في قائمة أكبر سدود منتجة للكهرباء،لكن في الوقت نفسه خلق بنائه احدي أكبر الأزمات السياسية والدبلوماسية في القارة، والأعقد في تاريخها الحديث؛ خاصة بين دول حوض النيل ..

أثيوبيا التي سيتيح لها السد إنتاج 6 آلاف ميجا وات من الطاقة الكهربائية، أضحت للأسف حريصة حسب تصريحات مسؤوليها الذين يزعمون علي عدم الإضرار بمصالح مصر والسودان المائية، وزعمت كذباً حين أكدت مراراً وتكراراً أن سد النهضة لن يؤثر علي حصة الدولتين من مياه النيل وفقاً لدراسات معمقة أجرتها .

كلام لم يقنع الغاضب والمتضرر الأكبر دولة المصب "مصرنا الحبيبة"، حيث ينطلق غضبها من خشيتها من تأثير سلبي محتمل للسد علي تدفق حصتها السنوية من مياه النيل البالغة 55.5 مليار متر مكعب، وعلي الطاقة الكهربائية التي ينتجها السد العالي المصري، التي قد تتراجع بما يصل إلي 40 %.

السودان الشقيق بدوره ورغم إرشادات المسؤولون فيه مراراً وتكراراً، أثار التفاوض مع أثيوبيا وإصدارهم عشرات البيانات الرسمية أشارت جميعها إلي أن المفاوضات تسير علي ما يرام لم يجد أمامه اليوم خياراً سوي اللجوء لمجلس الأمن الدولي لكبح جماح المشروع الأثيوبي مع اقتراب مرحلة بدء ملئ خزانه استعداداً لتشغيله ..

القاهرة والخرطوم المتخوفتان من أن يفقدهما السد كمية كبيرة من المياه تبلغ نحو 25 مليار متر مكعب تدفعان بقوة نحو مفاوضات مارثونية لم تفضي إلي نتيجة حتي اليوم باتجاه تقديم فترة ملئ الخزان لجعلها لا تقل عن 15 عاماً وبإشراف خبراء مشتركين مع شرط التوقف عن عملية الملئ في حال تراجع المنسوب إلي أقل من المتوسط العام .

وهنا في هذا المقال نركز حول أزمة سد النهضة بجوانبها المختلفة وأبعادها السياسية والديمغرافية والجغرافية ومخاوف مصر والسودان ووجاهة حجتيهما وانعكاسات الأزمة علي منطقة حوض النيل ودوله وفرص التوصل إلي اتفاق يرضي جميع الأطراف واحتمالية إقدام أثيوبيا فعلاً علي البدء لملئ خزان السد خلال الشهر المقبل كما يصرح مسؤولوها ..

ولذلك فوجئنا خلال الأسبوع الماضي في مصر باجتماع مهم للغاية وعلي مستوي عالي من مجلس الأمن القومي يجتمع ويحدد نقطتين مهمتين وهي ضرورة المشاركة في مفاوضات سد النهضة التي ستجري في السودان خلال الأيام المقبلة ولكن بشروط وهي : أننا سنشارك ونعلم مسبقا .. سنشارك ولكن بشرط ألا تكون هذه المفاوضات سبيلاً لملئ السد أو للتبضع بالوقت أو تبضع المواقف .. الخ؛ خاصة وأنه في الوقت الذي كان يدعو وزير الري السوداني إلي المفاوضات، كان رئيس الوزراء الأثيوبي أبي أحمد يتحدث عن وجوبية ملئ السد، وبالتالي كان البيان لافت جدا ووقفت أمامه عواصم كثيرة وتبعه مباشرة اتصالات كثيرة واعتقد أننا أمام لحظة مفصلية في هذا الملف ...

صحيح أن البيان صادر من مجلس الأمن القومي برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي كان بالغ القوة والحزم، وهذا كان رد فعل ضروري ولازم بسبب صريحات أبي أحمد والذي قال فيها : إنه تقرر ملئ السد في الشهر المقبل وهذا أمر حتمي ولا رجعة فيه وبالتالي هو وضع في أن تكون المفاوضات في موضع بأنه ليس لها أهمية ولا جدوي منها ..

إذن أبي أحمد حكم مسبقا أن هذه المفاوضات هي مرواغة جديدة وتضييع للوقت ومحاولة لخروج أثيوبيا من المأزق السياسي الذي وجدت نفسها فيه بعد انسحابه بل وهروبها من مفاوضات واشنطن،لأنه لو نلاحظ أن ما هربت منه أثيوبيا ..

إن ما هربت منه أثيوبيا هو عدم التزامها بالوثيقة أكثر من 90% متفق عليه من الأطراف و10% من خلال الولايات المتحدة بالتنسيق مع البنك الدولي أي من خلال طرفين محايديين لا يمكن اتهامهم بالتحيز لمصر أو للسودان أو لأثيوبيا وبالتالي حاولوا أن يراعوا فيها توازن المصالح بين الدول الثلاث .. إذن أثيوبيا الآن في مأزق والعطاء الإعلامي والذي كانت تحظي به من التعاطف مع الإعلام الغربي قد انكشف وأيضا اللغة التي كانت تقولها أثيوبيا والتي كانت تعلن فيها بأنها دولة فقيرة ولا تمتلك كهرباء ولا موارد ..

بالأمس أعلنت وزارتي الري المصرية والمصرية بعودة المفاوضات وعمل وثيقة جديدة للنقاش بشرط تنتهي تلك المفاوضات يوم الأثنين الموافق الخامس عشر من شهر حزيران الجاري .

والسؤال الآن :  ما الذي تعنية عودة المفاوضات السياسية مع المعطيات الأخيرة بقرب ملئ السد الأثيوبي؟

وللإجابة يمكن القول : ربما تكون محاولة في اللحظة الأخيرة حتي لا ينفجر الموقف، لأن إقدام أثيوبيا علي ملئ بلا اتفاق هو بمثابة إضرار كبير بالمصالح المصرية والسودانية معا، وكذلك بمثابة استهتار بالعلاقات الإقليمية، وضرورة أن تكون هذه العلاقات في إطار من التعاون ؛ حيث يهدد الإقليم بشكل أو بآخر، ويهدد أيضا المصالح الدولية في المنطقة بحيث تمثل بيئة صراعية، فلربما تكون ذلك محاولة للتوصل إلي اتفاق في اللحظة الأخيرة أو ما يسمي باتفاق اللحظة الأخيرة، حيث الموقف الأثيوبي بدأ يضعف نسبياً خاصة مع تراجع السودان علي دعمها المطلق لأثيوبيا والانتباه لمصالحها الذاتية فيما يتعلق بمسألة سد النهضة والمخاطر المحتملة له بضرورة وضع أسس واضحة لقواعد الملئ والتشغيل وضرورة ألا يكون هناك دولة تتصرف تصرفا منفرداً عن دول حوض النيل الأزرق .. كل هذه الأمور ربما هي مجمل المشهد في هذه اللحظة الراهنة ..

وهناك سؤال آخر نود أن نطرحه هنا، وهو أن هناك مصالح استراتيجية طويلة الأمد تريد أديس أبابا تحقيقها من خلال ملئ السد ؟ .. صحيح أن المشكلة أن المصالح الاستراتيجية طويلة الأمد الذي يثيره السؤال هي لا ترتبط بتوليد الكهرباء بقدر ما ترتبط بتسييس المياه وهذه هي الخطورة الحقيقية .. نحن أمام مشروع سياسي .. المؤشرات الفنية الأخيرة تقول أنه ليس سداً لتوليد الكهرباء يهدد السودان، وبالتالي إذا كانت هذه هي مصالح أثيوبيا، فهي بلا شك مصالح مهددة للإقليم، فليس هناك معني أن أقول بأن لدي مصالح استراتيجية ولكنها مهددة لمئات الملايين من البشر، ونعتبرها مسألة عادية .

إذن هناك ثلاثة مسارات رئيسية تسير معاً بالتوازي.. المسار الأول : هو اللجوء للقوى الدولية المؤثرة فى القرار الإثيوبي .. والمسار الثاني : إيجاد حلول سريعة لتعويض أى نقص محتمل لمنسوب نهر النيل .. ثم المسار الثالث:  الضغط على إثيوبيا بكل طرق الضغط الممكنة لإجبارها على التفاوض من جديد والالتزام بما تفضى إليه تلك المفاوضات .. أما عن الحلول العسكرية فهى بعيدة عن مجال مقالى هذا، وهى متروكة لتقدير القيادة السياسية الحكيمة التي ترى الصورة بشكل أشمل دون شك ..

لذلك نناقش في مقالنا غداً تداعيات الجولة الرابعة من المحادثات السودانية، المصرية، الإثيوبية، المنعقدة بالخرطوم الآن، بمشاركة مراقبين من الولايات المتحدة، وجنوب أفريقيا، ومفوضية الاتحاد الأوروبي؛ لبحث المقترح المصري بشأن ملء وتشغيل سد النهضة، وكذلك مقترحات إثيوبيا والسودان... وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم