آراء

تسع دقائق هزت الولايات المتحدة الأمريكية!

محمود محمد عليهناك كتاب لفريد هاليداي بعنوان "ساعتان هزت العالم"، وهذا الكتاب هو شرح لتفاصيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر .. قصدت الاستشهاد بهذا الكتاب لأقول : إذا أردنا أن نؤلف كتاباً نتناول فيه لحظة مقتل جورج فلويد علي يد الضابط الشرطي لقلنا " تسع دقائق هزت الولايات المتحدة الأمريكية"، بحيث نبدأ كلامنا فنقول : عندما أعلن مينيابوليس الصمت لمدة 8 دقائق و46 ثانية علي روح جورج فلويد .. صمت السكان المدة التي استمر فيها الشرطي بالضغط علي رقبة فلويد حتي فارق الحياة .. تجمع السكان عند النصب التذكاري الذي أقيم لفلويد وأمام لوحة جدارية رسمت له.. هذه اللوحة تعلن للجميع هذا القول " إذا زلزلت الولايات المتحدة الأمريكية زلزالها، وأخرج  الديمقراطيون أثقالها.. فهل تكون النهاية هنا لترامب؟!".

وهنا نقول كمحللين بأن هذا الحادث يحمل أكثر من سياق .. السياق الأول أن الدولة  الأمريكية برئاسة ترامب فعلت ما يجب أن تفعله، وهذا غريب للغاية رغم كل هذه الاحتجاجات فإن الدولة الأمريكية تصرفت إزاء هذا الحادث بما يتناسب مع الحدث، حيث أول شئ فعله الرئيس ترامب أنه تواصل مع شقيق جورج فلويد، وأعرب عن أسفه وأبلغه بتعازيه  .. السياق الثاني الذي فعله ترامب أنه أحال الضباط المتسببين في مقتل فلويد للتقاعد والمحاكمة .. السياق الثالث أن هناك ضباط شرطة أمريكيين آخرين تضامنوا مع الحركة السلمية المعادية لهذا الضابط ..

ما فعله الرئيس ترامب بعد ذلك أنه أعلن أن العدالة ستأخذ مجراها في هذا الموضوع بأقصي ما يمكن .. وعلي الرغم من ذلك فالموضوع أخذ منحي ثقافي واجتماعي وتاريخي، وقد أسفر هذا المنحي علي أن السود أكثر عرضة للقتل بشهادة صحف أمريكية أخذت تظهر الأرقام المتوفرة للحوادث التي تطلق فيها الشرطة النار على الناس وتقتلهم، أن فرصة مقتل الأمريكيين من أصول أفريقية بإطلاق النار من قبل الشرطة أكبر بكثير مقارنة بعددهم من إجمالي عدد سكان الولايات المتحدة..

لم تكتف تلك الصحف بذلك بل أكدت بأن رغم أن الأمريكيين من أصل أفريقي يشكلون أقل من 14 في المئة من السكان حسب إحصائيات عام 2019 الرسمية، إلا أنهم كانوا يمثلون أكثر من 23 % من بين كل 1000 حالة إطلاق نار أدت إلى القتل على يد الشرطة. وهذا الرقم ثابت تقريبا منذ عام 2017 في حين انخفض عدد الضحايا البيض منذ ذلك الحين.

والسؤال الذي نود أن نطرحه الآن: لماذا حدثت هذه التداعيات عقب مقتل جورج فلويد؟

تاريخيا يقال أن عام 2020 هو ذلك العام الذي ستحتفل فيه الولايات المتحدة علي مرور 150 سنة علي تحرير العبيد في أمريكا علي يد الرئيس العظيم "إبراهام لينكولن"، والذي قام بتحرير العبيد في أمريكا، وهذا الحدث العظيم لم يعطي للسود حقوقا كاملة ..

علاوة علي حدث آخر وهو أنه منذ 56  سنة نجح السود في نقل الحقوق المدنية إليهم، لكن للأسف كانت حقوقاً منقوصة غير كاملة .. وبالمثل منذ أعوام 2016 وحتي 2018 وما يليه في كل عام كان يوجد هناك حادث عنصري في أمريكا باستمرار .. أضف إلي ذلك  أن هناك شخصيات سمراء حكمت أمريكا، مثل باراك أوباما، وكولن باول رئيس الأركان،وكوندالزرايس مستشارة الأمن القومي .. الخ وشخصيات كثيرة كانت في قلب الإدارة والسلطة في أمريكا .. علي الرغم من ذلك كله إلا أن المجتمع الأمريكي يشعر بأنه لا تزال هناك تفرقة عنصرية وأن الملونينن يعانون، بل وأن السود لديهم مشاكل كبيرة جداً؛ وخاصة من ذوي الأصول الأفريقية نتيجة هذا الوضع ..

وهنا اكتشفت أمراً مهماً جعل الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية تصبح بهذه القوة، وهي متعلقة بالسياسة، ألا وهو الصراع الحزبي في الولايات المتحدة، فالولايات المتحدة الآن تختلف عن الولايات المتحدة بالأمس التي كنا نقول من خلالها الرأي والرأي الآخر ..

يقال في بعض الحالات إذا صار الخلاف الحزبي عنيفاً فإن هذا يؤدي ليس فقط إلي خلاف سياسي؛ بل يؤدي إلي تقسيم المجتمع، بل وتقسيم الدولة الأمريكية في بعض الأحوال، ولذلك كان ينبغي أن تكون هناك أسس ثابتة وطنية ومبادئ عامة للقوي السياسية المتصارعة ..

إن ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تنجح فيما مضي هو ما يمكن تسميته بـ " الهندسة السياسية " (علي حد تعبير الصحفي المبدع أحمد المسلماني) للولايات المتحدة الأمريكية، فأمريكا يوجد بها حزبان كبيران لا يوجد بينهما، والحزبان مرشحين للرئاسة، وكلاهما يمثلان جناحين في حزب واحد .. والحزبان يلعبان سياسة بطريقة واحدة، وفي نفس الملعب، وفي نفس الحدود ..

الرئيس ترامب يعد أول رئيسي أمريكي متمرد علي ما أطلقنا عليه بأنه يوجد به نوع من " الهندسة السياسية " .. فقد جاء نقيضا للبيت الأبيض، وجاء نقيض واشنطن، ويريد أن يعيد تغيير الخريطة الأمريكية .. كل هذا أدي إلي بروز اليسار المتشدد ضده (خاصة من الاشتراكيين والفوضيين) .. وهنا وجدنا الرئيس ترامب يتهم اليسار المتشدد له من أمثال منظمة "أنتيفا" بأنها منظمة إرهابية، وهذا مما فاقم من الموقف الاحتجاجي ..

يضاف لهذا الموقف أيضاً وهو أن الحزب الديمقراطي له الأغلبية في واشنطن العاصمة، ولهذا السبب وجدنا خلال الأيام الماضية ولاية واشنطن هي من أكثر الولايات الأمريكية اشتعالاً بالاحتجاجات .. فالتاريخ يقول أن 94 % أعطوا أصواتهم لهيلاري كلينتون من واشطن .. وبالتالي الرئيس ترامب أصبح بلا شعبية في العاصمة الفيدرالية واشنطن لأنها عاصمة ديمقراطية .. أما المكان الذي وقع فيه الحادث وهو مينيابوليس هو أيضاً مكان ديمقراطي، وبالتالي فهو معادي للرئيس ترامب ..

كذلك الحكام في الولايات الأمريكية الفيدرالية يوجد بها حكام جمهوريين وحكام ديمقراطيين .. الحكام الديمقراطيين تقاعسوا عن وهذا هو اتهام الرئيس ترامب لهم؛ حيث تقاعسوا عن استدعاء الحرس الوطني وهو الذي كان عليه أن يضبط الأمور في البداية، تقاعسوا في أمور كثيرة أخري يصعب سردها بالتفصيل ..

لماذا هذا التقاعس وكان هذا هو نفس سؤال ترامب لهم؟

والإجابة تتمثل في أن موضوع الديمقراطي أو الجمهوري لم يكن موضوعاً سياسياً إزاء حادثة مقتل فلويد، وإنما أضحت الأمور تمثل مشكلة وطنية متعلقة بأن يكون المواطن الأمريكي جمهورياً أو ديمقراطياً .. إذن واشطن تؤجج الاحتجاجات لكونها ديمقراطية .. وهنا يمكن القول : أليس من الرشد والحكمة أنه مهما يكن الصراع السياسي الموجود بين الجمهوريين والديمقراطيين، والذي بدا واضحاً في حدوث الفوضي،وكم السرقة،  وأعمال الشغب التي حدثت أن تدفع الديمقراطيين للتحدث بحكمة، وذلك بأن ينددوا بما حدث، وهذا ما جعل ترامب نفسه يتهم الديمقراطيين بأنهم مؤيدين للشغب والأحداث التي حدثت، ويريدون أن تستمر تلك الصورة بهذا الشكل لتصل صورة لجميع الأمريكيين أن الرئيس الأمريكي غير قادر علي أن يحتوي هذه الأمور، وبالتالي تصبح الأمور مشتعلة، وهذا ربما لا يصب في صالح الديمقراطيين ؟

لسان العقلانية  والعقلاء يقول بأن الوضع المثالي في أي نظام سياسي، هو أن يحدث ذلك، وهو أن يكون هدف الحزب الديمقراطي أمريكا أولاً، وكذلك  الجمهوري أيضاً.. لكن في الواقع؛ وبالذات في السنوات الأخيرة، ومع حدة الإعلام، والسياسة، ووسائل التواصل الاجتماعي، أضحي الهدف الرئيس لهذين الحزبين هو الوصول إلي السلطة فقط، وأصبح هذا الشعار للأسف وهو أن " السلطة فوق الدولة" و" السلطة أولاً" ..

أحد معايير الحياة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية حاليا، أن الديمقراطيين لا يهمهم الآن إلا إسقاط الرئيس ترامب بأي شكل كان، وقد بذلوا من قبل كل المحاولات (سواء كان منها الغالي والنفيس) لتحقيق ذلك لكنهم فشلوا ؛ فمثلا بذلوا كل المحاولات ألا يجيئ ترامب، لكنه جاء فجاء! .. بذلوا كل المحاولات ألا يبقي فبقي! .. بذلوا كل المحاولات أن يًحاكم، فنجا من المحاكمة! ..

في اعتقادي لو تمكن ترامب خلال الشهور القادمة أن يستتب الأمن وتهدأ الأمور، فإنه بلا شك سيصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية لفترة ثانية.. لكن الديمقراطيون يقولون لو نجح ترامب لفترة ثانية فإن فترة حكمة القادمة ستكون حاسمة في حكم أمريكا ؛ بسبب أن هناك وباء عالمي، وأزمة اقتصادية عالمية، وحرب باردة مع الصين، وحرب سابقة مع روسيا وبالتالي سيفشل ..

يعتقد كل الديمقراطيين الآن بأن حادث مقتل فلويد تعد هي الأفضل بالنسبة لهم للإطاحة بترامب، حيث أن : كورونا مع التظاهرات (والاحتجاجات) كفيلان بأسقاط حكم ترامب وعدم وصوله للسلطة مرة أخري ..

وهنا يؤكد أكثر المحللين أن هذا الأمر ربما يحمل أكثر من سيناريو .. السيناريو الأول وهو أن الديمقراطيين قد ينجحوا وبالتالي لا يتمكن ترامب من النجاح في الانتخابات لفترة المقبلة .. والسيناريو الثاني وهو أنه لو حدث أن توصل ترامب لعلاج قوي يقضي علي كورونا ربما يستطيع أن يتجاوز بهذا الأمر وينجح في الانتخابات .. والسناريو الثالث وهو أن العنف لو زاد أكثر من ذلك سيصب في مصلحة الرئيس ترامب؛ لأنه سيُنظر لهذا الأمر من كل العقلاء بأن هذا أمر غير مبرر ويجب أن يدان وبالتالي يحق للرئيس ترامب استخدام القوة لضبط الحياة الأمريكية..

يبدو أن الجميع أدركوا هذا السيناريو، وهنا وجدنا أن الأمور بدأت تهدأ، وأضحت تحت السيطرة .. وننتظر ما تسفر عنه الأيام القادمة .. وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوكط

.......................

المراجع

1-   فريد هاليداي: ساعتان هزتا العالم (كتاب)

2- مساء dmc - أحمد المسلماني يحلل: أمريكا أين؟ وإلى أين؟ (يوتيوب).

3- BBc عربي : مقتل جورج فلويد: كيف يُعامل السود أمام القانون في الولايات المتحدة؟ (تقرير).

4- 8 دقائق هزت العالم (يوتيوب)

 

 

في المثقف اليوم