آراء

نهر النيل كالكعبة المشرفة.. له رب يحميه!! (2)

محمود محمد عليبالأمس في المقال الأول الذي نشر علي صحيفة المثقف الزاهرة، كنت قد طرحت سؤالاً مهماً، وأود أن أجيب عنه خلال هذا المقال، وهو: ما هي الخيارات المطروحة الآن إزاء أزمة قضية سد النهضة؟

كنت قد طرحت عدة خِيارات) في مقالاتي السابقة التي نشرتها علي صحيفة المثقف بشأن التعنت الإثيوبي إزاء سد النهضة (ربما قد تلجأ إليها الدولة المِصريّة: الأوّل: أن تُدافع مِصر عن مصالحها وأمنها المائيّ، بضرب هذا السّد وتدميره وتحمّل النّتائج كاملةً، وهي تملك القوّة والطائرات القادرة على القِيام بهذه المهمّة. الثّاني: أن تُعلن حربًا بالإنابة طويلة الأمد ضِد إثيوبيا، وتدعم أعداءها في القرن الإفريقي، وتثوير حركة تحرير إقليم أوغادين الصوماليّة الذي ضمّته إثيوبيا، وكذلك الحركات الانفصاليّة الإسلاميّة الأُخرى داخل إثيوبيا، وتتبنّى وجهة نظر إريتريا في الخِلاف الحُدودي الأريتري الإثيوبي، وإعادة إحياء هذا الخِلاف بطريقةٍ أو بأُخرى.

ليس جديداً بأن تلجأ إلي تأجيل التوقيع علي أي عقد خاص بدراسات سد النهضة الاثيوبي يمكنها أن تأخذ به بشأن قواعد ملء السد، فقد اعتدنا علي هذه المراوغات والمماطلات المريبة، وتراكمت لدينا عقيدة بأن مسار التفاوض في ملف السد صار مخادعة هزلية، تعتمد علي الغموض والتهرب من أي استحقاقات؛ بالضبط كما تفعل اسرائيل في مفاوضاتها الهزلية مع أشقائنا الفلسطينيين حول حل الدولتين.

إن إثيوبيا تسير علي نفس النهج الاسرائيلي، مدعومة بخبرة وتأييد حكومة نتنياهو الارهابية، التي لا تقيم وزنا لقانون أو قرارات أو اتفاقات.. وأبسط دليل أن الاتفاق علي المكاتب الاستشارية تم في أغسطس ..2014 وبرغم ذلك فالتوقيع علي العقود التي تحدد المهام والدور القانوني والاستشاري للمكاتب لم يتم؛ وبدا واضحاً لكل ذي عينين أن النية مبيتة لإغراقنا نحن المصريون في تفاصيل التفاصيل حتي يكتمل بناء السد .

المشكلة أننا أعطينا اثيوبيا ثقة لا تستحقها، واعتمدنا علي حسن النية، بينما كانت استراتيجية اثيوبيا تقوم منذ البداية علي المماطلة والمراوغة لحين فرض الامر الواقع، وللأسف مازالت هذه الاستراتيجية تطبق بنجاح باهر.

والسؤال الأن: هل تَلجأ مِصر إلى الخِيار العسكريّ بعد انهِيار أكثر من تِسع سنوات من المُفاوضات “العبثيّة” مع إثيوبيا حول سدّ النّهضة على غِرار مُفاوضات أوسلو الفِلسطينيّة الإسرائيليّة؟

في مقالاتي السابقة قلت بصريح العبارة لا نملك الإجابة، ولا نَستبعِد التّأجيل والتريّث تَجنُّبًا لمخاطر الحرب، خاصّةً أن المنظومات الدفاعيّة الإسرائيليّة هي التي تُوفِّر الحِماية لسد النهضة، والمُستشارون الإسرائيليّون هُم الذين يَقِفون خلف هذا الموقف الإثيوبي المُتشَدِّد.

لكن يبقي السؤال : ماذا لو فشلت كل الخيارات التي طرحناها أو طرحها حتي الآن كل الكتاب والباحثين وخلافهم، وهنا أعُلن أنني أطرح خيار أخير، وهو أن النيل كالكعبة المشرفة له رب  يحميه.. البعض هنا قد يتهمني باللاعقلانية، ولكن أقول نعم، وأصر، بأن نهر النيل الذي كونه الله نتيجةً لاتحاد نهرين رافدين: النيلين الأبيض، والأزرق؛ حيث ينبع النيل الأبيض من بحيرة فيكتوريا الواقعة بين كل من أوغندا، وتانزانيا، وكينيا. أما النيل الأزرق، وهو الذي يُغذّي نهر النيل بالنسبة العظمى من المياه؛ حيث ينبع هذا النهر من بحيرة تانا الواقعة إلى الشرق من القارة الأفريقية، وتحديداً في المرتفعات الإثيوبية. هذا ويتّحد هذان النهران في مدينة الخرطوم السودانية، ليُشكّلا نهر النيل الذي يكمل مسيره إلى أن يصل إلى مصبه في البحر الأبيض المتوسط، شمال جمهوريّة مصر العربية في الركن الشمالي الشرقي من أفريقيا.

نهر النيل يرجع سر عظمته إلي التكوين الطبيعي الذي حباه الله به، حيث إنه ينحدر من الجنوب الي الشمال حاملاً معه الماء والطمي الذي حول مصر من صحراء جرداء الي جنة خضراء، ولقد اقترن هذا العامل بجهد المصريين، فعملوا علي استغلال مياهه فأقاموا المقاييس، وشقو الترع، وشيدوا السدود، والجسور، ولم يقف نهر النيل عند هذا الحد، بل علم المصريين الكثير من القيم؛ ومن القيم التي علمها النيل للمصريين:-

1- الوحدة والتضامن. حيث كان فيضان نهر النيل سببا في توحيد المصريين جهودهم فشيدوا الجسور لحماية فيضان النيل فعاشوا شعبا واحدا علي مر العصور.

2- التكافل والتكامل؛ حيث ثتبادل المصريين المحاصيل ساعد علي تنشيط التجارة الداخلية بين الشمال والجنوب.

3- التواصل؛ نهر النيل ساعد المصريين علي الاهتمام بالسفن التي كانت تحملها المياة من الجنوب الي الشمال وتدفعا الرياح من الشمال الي الجنوب فادي الي تماسك المصريين وتواصلهم وانتشار الحضارة.

هذا النهر له رب يحميه ويصونه، مثل الكعبة المشرفة التي لا تًعظم لمجرد أحجارها، ولكن لمناقب عظيمة اختصت بها، فهي أول بيت وضع للناس، وقد عظم الله شأن الصلاة عندها، وجعل موضعها حرما محرماً، ودلت السنة على أن الحجر الأسود، وهو ركن منها - من الجنة؛ حيث روي أحمد والنسائي والترمذي واللفظ له مرفوعاً: نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بنى آدم. والحديث قال عنه الترمذي حسن، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط.

وكذلك نهر النيل أصله  نهر فى الجنة، فكيف تم ذلك؟.. يعتمد التراث الإسلامى على ما ذكره البخارى والصالحى والطبرانى من أحاديث الإسراء والمعراج، ووصول النبي الكريم عليه السلام إلى سدرة المنتهى؛ حيث جاء فى حديث البخاري ومسلم عن الإسراء والمعراج قوله صلى الله عليه وسلم "ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل فلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال أما الباطنان فنهران فى الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات" وجاء فى رواية للبخارى (فإذا فى أصلها أى سدرة المنتهى، أربعة أنهار) وعند مسلم (يخرج من أصلها) وعند مسلم أيضًا من حديث أبى هريرة (أربعة أنهار من الجنة النيل والفرات وسيحان وجيحان ) ووقع فى رواية شريك كما عند البخارى أنه رأى فى سماء الدنيا نهرين يطردان -يجريان- فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما. وجاء فى رواية البيهقى: (فإذا فيها -السماء السابعة- عين تجرى يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران أحدهما الكوثر والآخر يقال له: نهر الرحمة) وفى رواية لمسلم: (سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة) ووقع فى حديث الطبرى عن أبى هريرة: (سدرة المنتهى يخرج من أصلها أربعة أنهار، نهر من ماء غير آسن ونهر من لبن لم يتغير طعمه ونهر من خمر لذة للشاربين ونهر من عسل مصفى).

وفي الحديث الشريف الذي رواه "مسلم" في صحيحه (164)، أن النبي صلى الله عليه وسلم: رَأَى أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ، فَقُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الْأَنْهَارُ؟ قَالَ : أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ: فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ : فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. وروى "البخاري" في صحيحه (5610 ): عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ : نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ، فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ : النِّيلُ وَالفُرَاتُ، وَأَمَّا البَاطِنَانِ : فَنَهَرَانِ فِي الجَنَّةِ  .وقال النووى فى شرحه لصحيح مسلم: أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل السدرة، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها، ثم يخرجان منها.

كما روى "مسلم" في صحيحه (2839)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ: كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ  . قال الحافظ "ابن حجر" في "الفتح" (7/ 214): " وفي حديث أبي سعيد: (فإذا فيها عين تجري يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران، أحدهما : الكوثر، والآخر يقال له : نهر الرحمة . قلت: فيمكن أن يفسر بهما النهران الباطنان المذكوران في حديث الباب، وكذا روي عن مقاتل قال: الباطنان، السلسبيل والكوثر . وأما الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ ( سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة): فلا يغاير هذا، لأن المراد به : أن في الأرض أربعة أنهار أصلها من الجنة . وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيحون أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك . وأما الباطنان المذكوران في حديث الباب: فهما غير سيحون وجيحون والله أعلم . قال النووي في هذا الحديث : أن أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها، ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر فليعتمد "

وحتي لا يطول السرد في إثبات أن نهر النيل والكعبة ينبعان من الجنة، وأيضا لهما رب يحميهما، فإذا كان الله قد حمي الكعبة المشرفة من أبرهة الأشرم ـ وهو قائد جيش الحبشة آنذاك،  وذلك عندما قام ببناء كنيسة كبيرة وعظيمة وأسماها القليس، وذلك ليحرف مسار حج العرب إليها بدلًا من البيت الحرام، إلا أن رجلًا من بني كنانة قام بفعل مشين فيها فقد تغوط في الكنيسة، الأمر الذي أغضب أبرهة كثيرًا وجعله يقسم بأن يذهب إلى مكة ليهدم الكعبة، إنتقامًا لما فعله ذلك الرجل بكنيسته، لذا قام بتجهيز جيشًا جرارًا، يضم الكثير من الفيلة، وسار به إلى أن اقترب من الوصول إلى مكة وهناك قام بإرسال رسله لأهالي مكة يخبرهم أنه لا ينوي قتالهم وأن كل ما يريده هو هدم الكعبة فقط.

وأما عن موقف أهل مكة ففي البداية أغضب هذا الأمر أهالي مكة كثيرًا إلا أنهم أدركوا فيما بعد أنه لا طاقة لهم بقتال أبرهة وجنوده، فتركوه، و قبل أن يدخل أبرهة وجنوده مكة أمرهم بأن يقوموا بنهب كل ما يجدونه أمامهم من أموال، وكان من ضمن ما نهبوه مئتا بعير لعبد المطلب بن هاشم جد النبي -عليه الصلاة والسلام-، وبعد ذلك أمرهم بأن يأتوه بشريف مكة، فأحضروا له عبدالمطلب، وعندما وصل إلى هناك دهش أبرهة من مظهره، فقد كان عبد المطلب رجلًا جسيمًا ووسيمًا ذو هيبة ووقار، فأجلسه بجانبه وسأله عن حاجته، فقال له عبدالمطلب: "حاجتي أن يرد علي الملك مئتي بعير أصابها لي"، فتعجّب أبرهة من طلبه وقال له : "تكلمني في مئتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه؟".

ماذا فعل عبد المطلب بن هاشم؟

أجابه عبدالمطلب أبرهة قائلًا: "إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه عنك"، فقال له أبرهة: "ما كان ليمتنع مني"، فأجابه عبدالمطلب: "أنت وذاك"، وبعد ذلك رجع عبدالمطلب إلى قريش وأخذهم معه ليشكلوا حلقة حول الكعبة حتى يدعوا الله ويستنصرونه ليحمي الكعبة.

وجه أبرهة وجنوده إلى الكعبة لهدمها، إلا أنهم لم ينالوا مرادهم، فقد أتى أمر الله بإهلاكهم، بحيث بعث لهم طيورًا تحمل أحجارًا طينية صلبة لترميهم بها، وبعد فترة وجيزة من رميهم بتلك الأحجار لم يلبثوا إلا أن أصبحوا كأوراق الشجر الجافة والممزقة، وهزم أبرهة وجنوده شر هزيمة، والطيور التي كانت تحمل تلك الأحجار تسمى طيور الأبابيل.

الآن تجسد لدينا أبراهه جديد من أهل الحبشة اسمه " آبي أحمد، وما هو بأحمد، يريد فرض سياسة الأمر الواقع من خلال سد النهضة، وهذا السد يعد واحداً من أكبر 12 على مستوي العالم، ستكون له تداعيات على دول المصب والتى تعتمد بشكل كبير على مياه النيل فى الزراعة والصناعة وقبل ذلك كله، الشرب، وبخلاف ذلك فإنه سيمنح إثيوبيا أديس أبابا صلاحية التحّكم في تدفّق مياه النيل الأزرق، في خطوة من شأنها أن تُحدِث تحوّلًا في ميزان القِوى بالمنطقة، وبالتالي لن نقف نحن المصريون مكتوفي الأيدي، وإنما لدينا أدوات ضغط لا حصر لها من أهمها الدعاء والتضرع إلي الله بأن لهذا النهر العظيم .. له رب يحميه.. يحميه بألا يعطش هذا الشعب المصري العظيم، وكيف يعطش وأغلب أهله من المتضرعين إلي الله، وأغلب أهله من الأطفال الرضع والشيوخ الركع .. كيف يعطش والله حافظه منذ آلاف السنين .. كيف يعطش ووراءه جيش عظيم من أعظم جيوش العالم؛ جيش لم يقم علي مليشيات أو مرتزقة، وإنما جيش تظهر كراماته عند الشدائد، ومن كراماته الطيور الأبابيل .. وما أدراك ما الطيور الأبابيل .. الطيور التي تحمل حجارة من سجيل .. حفظ الله مصر وحفظ الله قواتنا الجوية التي تظهر كراماتها وقت الشدائد .. فإذا كانت سرت والجفرة كما أعلنا بأنها خط أحمر .. فكذلك نهر النيل خط أحمر.. ومن يفكر أن يُعطش هذا الشعب المصري العظيم فعليه بعقاب الطيور الأبابيل التي ترمي كل ظالم بجحارة من سجيل، فتجعله كعصف مأكول !!

 

د. محمود محمد علي

رئيس فسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

...................

المراجع

1- عماد الدين حسين في مقاله هل هو الموقف الإثيوبي الأخير بصحيفة الشروق.

2- أحمد إبراهيم الشريف : حكاية نهر النيل والجنة.. لماذا اعتقد المسلمون أنه قادم من السماء؟ (مقال باليوم السابع),

3- مؤمن الهباء : سد النهضة.. ومسارات جديدة (مقال).

 

 

في المثقف اليوم