آراء

محمود محمد علي: انقلاب السودان.. لماذا أطاح البرهان بالمكون المدني في السلطة؟ (1)

محمود محمد عليإذ ظننا أن السودان قد مضى قدمًا في سبيل استقراره السياسي والاقتصادي والاجتماعي على قاعدة صلبة، من الإرادة الشعبية والتوافق الوطني بين قواه- بما فيها قواته المسلحة- وأنه استطاع أن ينهى تكرار معادلة "حكم حزبي يصل لطريق مسدود"، فيعقبه أو ينهيه "تحرك من الجيش"، فيما يمضى وقت يطول أو يقصر ويحدث الاحتقان والتحرك، فيأتي "حكم حزبي"، وهكذا كما يقولون "دواليك"، في الفترة الممتدة من نيل السودان لاستقلاله في الخمسينيات!.

قصدت هذه المقدمة لأقول بأن السودان الشقيق أضاع أكثر من سنتين من عمره المعاصر في مرحلة انتقالية بلا معنى. كان شعارها تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين إلى حين إجراء انتخابات حرة. تم توريط الجميع في مثل هذه الثنائية المُخادِعَة والقاتلة التي اعتبرها البعض عنوان ثورة، وصَدَّق آخرون أنها جوهر المشكلة. ولم ينتبه فريق ثالث أن عالم اليوم أصبح يتجه إلى الوحدة بين ما هو مدني وعسكري لصعوبة التمييز.

وهنا نجد أن الحدث الأبرز علي الساحة العربية هذه الأيام هو ما يجري في السودان، وما يجري في السودان يطرح لنا ثلاثة أسئلة  رئيسة وعشرات الأسئلة الفرعية؟ .. والسؤال الرئيسي هنا الآن: لماذا أقدم الجيش علي الانقلاب علي المدنيين في يوم 25 أكتوبر الجاري 2021؟ .. ولماذا في هذا التوقيت تحديدا؟ .. والسؤال الثاني: ما دور القوى الخارجية المختلفة سواء كانت قوى إقليمية أو دول كبري في قرار الجيش؟... والسؤال الثالث: ما هي السيناريوهات المتوقعة في الأيام المقبلة بعد هذه الخطوة الدرامية؟

إن محاولة الإجابة على هذه الأسئلة تقتضي أولا أن نعود إلي التاريخ وكيف وصل السودان إلى ما وصل إليه اليوم يوم 25 أكتوبر الماضي، حيث يجب ألا ننسي كيف أن الرئيس السوداني المخلوع حسن البشير كان قد وصل إلى السلطة بعد انقلاب عسكري في عام 1989 وظل في السلطة لنحو 30 سنة  بدعم من مكونين رئيسيين: الجيش والأجهزة الأمنية من ناحية وجماعة الإخوان المسلمين من ناحية أخرى، لكن مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وطول بقاءه في السلطة ثار عليه الشعب السوداني وتحديدا بداية من ديسمبر 2018 واستمرت الثورة ضده حتى إلى إبريل 2020 عندما قرر آلاف السودانيين الاعتصام أمام المقر العام للقوات المسلحة السودانية ووقتها أدرك الجيش أنه لا يمكن للبشير البقاء في السلطة فقرر الإطاحة به في 11 أبريل 2020 .

لكن كان من الواضح من عدة مؤشرات أن الجيش لم يكن راغبا في التخلي عن السلطة، والمؤشر الأول علي ذلك هو تشكيله بداية لمجلس عسكري انتقالي  لإدارة شؤون البلاد، الأمر الذي رفضه المعتصمون وواصلوا اعتصامهم، والمؤشر الثاني هو فض هذا الاعتصام بالقوة والتسبب في مجزرة الخرطوم في يونيو 2020..

علي كل حال أدرك الجيش وما يسمي بقوات التدخل السريع أنه لا يمكن أبدا الاستئثار بالسلطة وقبلوا بمشاركة المدنيين في إدارة المرحلة الانتقالية التي بدأت في يوليو 2020 واتفقوا أن تستمر لثلاث سنوات حتى يوليو 2023 عندما تقام انتخابات برلمانية ورئاسية وينتهى دور المرحلة الانتقالية، وهذه المرحلة تتم من خلال مجلس السيادة، وهذا المجلس يضم مجموعة من المدنيين والعسكريين، وقد تولى الجانب العسكري" الفريق الركن عبد الفتاح البرهاني" رئاسته، على أن يسلم رئاسة المجلس للمدنيين بداية  من نوفمبر 2021.

أي  بعد حولي عدة أسابيع معدودة من انقلابه علي المدنيين ووظيفة هذا المجلس هو إدارة المرحلة الانتقالية واتفق المجلس السيادي علي تشكيل حكومة برئاسة الاقتصادي السوداني " عبد الله حمدوك"، ونجح المجلس السيادي والحكومة المدنية في إنجازات كثيرة لإخراج السودان من عزلته الدولية ؛ لكنهم أيضا أخفقوا اخفاقات كبيرة .

لكن في كل الأحوال علي مدار العامين الماضيين تصاعدت الخلافات بين المكون العسكري والمكون المدني (هناك خلافات بين الجيش والجيش والمدنيين والمدنيين ) وقد تصاعدت الخلافات لا سيما بعد محاولة انقلابا في سبتمبر 2021 ؛ حيث اتهم المدنيون الجيش بأنه دبر حتى يظل في السلطة ويتخفف من التزاماته بنقل السلطة إلى المدنيين في موعدها في نوفمبر المقبل 2021، واتهم الجيش المدنيين وقوى الحرية والتغيير بالتسبب فيها ومحاولة جر البلاد إلى حرب أهلية وزع الفتنة في الجيش وزادت الخلافات على ملفات كثيرة وانتهي الأمر بقيام عبد الفتاح البرهان بحل الحكومة وإعلان حالة الطوارئ وإلقاء القبض على كثير من أعضاء الحكومة وعلي رأسهم " عبد الله حمدوك"، والكثير من المعارضين والسياسيين، وقراره بأنه سوف يدير الجيش المرحلة الانتقالية حتي يوليو 2023 .

وهذا يأخذنا إلى السؤال الأول الذي كنا قد طرحناه وهو لماذا أقد البرهان على هذه الخطوة  والتي من شأنها أن تعيد المربع السوداني إلى المربع رقم "1" والدخول في متاهة لا يعلم عقباها إلا الله وحده سبحانه وتعالي متي يمكن أن يخرج منها .

من الملاحظ  أن " البرهان" في أكثر من مؤتمر صحفي بعد انقلاب 25 أكتوبر الماضي من مخافة أن يقال ما وصفه انقلاب أكد أنه ليس انقلابا ولكنه تصحيحا للمسار الانتقالي إلى الديمقراطية مؤكدا أنه ملتزما ببنود اتفاقه مع المدنيين باستثناء يعض البنود التي كان يجب التخلص منها حتى تستقيم الأمور وقال أنه بدلا الحكومة التي قمت بالإطاحة بها فسوف تأتي حكومة مدنيين لكنهم تكنوقراط لا يعبرون عن انتماءات سياسية وأكد أن الانتخابات سوف تجري في مواعيدها في يوليو 2023 مؤكدا أن الدوافع التي دفعته إلي  الخطوة هي انقاذ السودان من حرب أهلية كاد هؤلاء المدنيون بقلة كفاءتهم وسعيهم علي مصالحهم الخاصة في أن يجر السودان إليها واتهمهم أنهم حاولوا زرع الفتنة .

وبرر البرهان قرار الإطاحة بحكومة رئيس الوزراء حمدوك بأنه اتُخذ لتجنب "حرب أهلية"، متهما قوى سياسية بالتحريض ضد القوات المسلحة و"زرع الفتنة". وخصّ البرهان ما أسماها مجموعة في قوى الحرية والتغيير بالاستفراد بالمشهد على حساب قوى أخرى.

وتعهد البرهان بالتزام الجيش بتسليم السلطة إلى حكومة انتقالية، موضحا أن الوثيقة الدستورية لم "تلغ بل عطلت بعض بنودها". وتابع بأنه سيلغي قانون الطوارئ فور تشكل المؤسسات، كما كشف عن أن الحكومة القادمة لن تضم أي قوى سياسية وستكون "حكومة كفاءات وواصل البرهان بالقول إن المكون العسكري في السودان قدم تنازلات على مدار الفترة الماضية لتحقيق طموحات السودانيين. وفي المؤتمر الصحفي الذي أعقب خطابه قال "..كنّا نفكر في العبور سويا (مع المكون المدني) لتحقيق أحلام الشعب"، متحدثاً عن حالة من عدم الثقة سادت في الفترة الماضية. واتهم مجموعات سياسية بالاهتمام بمصالحها فقط دون الانتقال إلى مختلف مناطق السودان لحل مشكلات الشعب. في المقابل، قال إن الجيش قام بمعالجة بعض الأزمات التي أهملتها الحكومة. وتعهد بإعلان هياكل المؤسسات القضائية بما في ذلك مجلس القضاء العالي والمحكمة الدستورية بحلول نهاية الشهر الحالي. وجدد الالتزام باستكمال الانتقال بالتعاون مع القوى المدنية.. وللحديث بقية...

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...........

المراجع

1- سيد جيبيل: انقلاب البرهان: الدوافع والعواقب. ماذا يجرى فى السودان؟.. يوتيوب.

2- عبدالرحمن الراشد: مراهنات خطيرة في السودان، مقال منشور ضمن عين الإخبارية بتاريخ الأربعاء 2021/10/27 10:50 ص بتوقيت أبوظبي.

3-أحمد الجمال: السودان.. والأمل، مقال منشور ضمن المصري اليوم بتاريخ الأربعاء 27-10-2021 03:27

 

 

في المثقف اليوم