قضايا

حوارات مع جاري الملحد (6): حوار عن الروح

وليد كاصد الزيديبدأ جاري بالقول: هل تؤمن بالروح؟ أنا أشكك في وجودها.

أجبته: أنا أؤمن بها كما جاء بها القرآن، وهي التي لم تنكرها الاديان السماوية كالمسيحية واليهودية.

فالمسيحية ترى الروح هي الكينونة الخالدة للإنسان، وأن الخالق بعد موت الإنسان إما أن يكافئ الروح أو يعاقبها، وفي العهد الجديد من الكتاب المقدس وعلى لسان السيد المسيح ذكر الروح وشبهها برداءٍ رائعٍ أروع من كل ما كان يملكه الملك سليمان.

أما لدى اليهودية فإن أهم تفاسيرها هو "كبالا" Kabbalah، الذي قسّم الروح الى ثلاثة أقسام، ويرى البعض أن هناك تشابهاً كبيراً بين هذا التقسيم، وما سار عليه "سيغموند فرويد" في وصفه لللاوعي حينما قسمه إلى الأنا السفلى، والأنا، والأنا العليا.

قاطعني متلهفاً، وكأنه نصب لي فخاً لأقع فيه، قائلا: ماذا قال عنها القرآن؟

قلت له: هنالك عدة آيات عن الروح في القرآن تثبت وجودها، منها: قول الله " فاذا سويته ونفخت فيه من روحي ".

عاد ليقاطعني: أسألك تحديداً عن ماهية الروح في القرآن.

فعرفت ما يروم اليه، وأجبته دون تردد، يجيب القرآن عن سؤالك: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ".

فابتسم صاحبي، وهو يقول: هذا يعني أن ماهية الروح غير مُعرّفة في الاسلام ولاسيما في كتابه.

رددتُ عليه: ألستَ تؤمن بأّن الكثير من الاشياء يكشفها العقل والمنطق وليس فقط الماديات الملموسة؟

قال: بلى.

فأردفتُ في حديثي: هل تذكر جيداً حوارنا الأول عن الامام علي وصاحبك باسكال؟

قال: أذكر ذلك جيداً، ومازلت أحمل صورة طيبة عن شخصية (علي) من خلال حجته التي سبقت باسكال بعدة قرون، وما أرسلتَ لي من حكم رائعة له.

فقلتُ له: حسناً، مادامت لديك قناعة بهذه الشخصية فدعني أروي لك ما قاله للملحدين في زمانه حينما سألوه عن الله، فتطرّق في حديثه الى الروح أيضاً.

قال: كلي آذانٌ صاغية، فأنا أستمع لك.

بدأت بالقول: سأل الملحدون الدهريون الامام علي:

في أيّ سنة وُجـِد ربّك؟

قال: الله موجود قبل التاريخ والأزمنة لا أول لوجوده.

وأردف: ماذا قبل الأربعة؟

قالوا: ثلاثة.

قال: ماذا قبل الثلاثة؟

قالوا: إثنان.

قال: ماذا قبل الإثنين؟

قالوا: واحد.

قال: وما قبل الواحد؟

قالوا: لا شئ قبله.

قال: إذا كان الواحد الحسابي لا شئ قبله فكيف بالواحد الحقيقي وهو الله ! إنه قديم لا أول لوجوده.

قالوا: في أي جهة يتجه ربك؟

قال: لو أحضرتم مصباحا في مكان مظلم إلى أي جهة يتجه النور؟

قالوا: في كل مكان.

قال: إذا كان هذا النور الصناعي فكيف بنور السماوات والأرض؟

قالوا: عرّفنا شيئا عن ذات ربك؟ أهي صلبة كالحديد أم سائلة كالماء؟ أم غازية كالدخان والبخار؟

فقال: هل جلستم بجوار مريض مشرف على النزع الأخير؟

قالوا: جلسنا.

قال: هل كلمكم بعدما أسكته الموت؟

قالوا: لا.

قال: هل كان قبل الموت يتكلم ويتحرك؟

قالوا: نعم .

قال: ما الذي غيره؟

قالوا: خروج روحه.

قال: أخرجت روحه؟

قالوا: نعم.

قال: صفوا لي هذه الروح، هل هي صلبة كالحديد أم سائلة كالماء؟ أم غازية كالدخان والبخار؟

قالوا: لا نعرف شيئا عنها!

قال: إذا كانت الروح المخلوقة لا يمكنكم الوصول إلى كنهها فكيف تريدون مني أن أصف لكم الذات الإلهية.

وهكذا فان الروح غير مرئية ولا ملموسة بل ولا معلوم كنهها. لذلك فإن جوابي هو ليس سوى جواب الله في الآية القرآنية التي سبق لي وأن ذكرتها لك، حينما قال:"ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا".

بدا لي ان جاري حاول التهرب من إجابتي أو لم يستطع الرد عليها، فقال لي: إن كبار مفكري الغرب المتنورين لا يؤمنون بالروح، فماذا تقول في ذلك؟

وكنت قد قرأت ملياً عن الخلافات حول الروح من وجهة نظر عدة مفكرين غربيين، فأجبته:

أنت تعرف جيداً "ديدرو" أحد أبرز مفكري عصر التنوير في فرنسا.

فقاطعني قائلاً: بالـتأكيد قرأت له كثيراً وأنا من المعجبين بكتاباته وآرائه.

فقلت له: ألم تقرأ ما قاله عن الروح؟ حينما قال: " الروح هي الكهف الذي تسكنه جميع الحيوانات النافعة والضارة، والرجل الشرير يفتح باب الكهف ويسمح الحيوانات الصارة وحدها بالخروج، اما الرجل صاحب الإرادة الطيبة فهو الذي يفعل عكس ذلك" . بل وحتى من سبق من المفكرين مثل هلفشيوس من مؤلفاته " عن الروح" De l'esprit، المنشور في 1758.

فرد جاري: ولكنه مُنِعَ من النشر في حينه وأُتهم مؤلفه بالهرطقة وحرقت نسخ مؤلفه هذا في شوارع باريس.

فأجبته: نعم، لقد اتهم بالالحاد الذي لم يكن مسموحا به في تلك الفترة، ولكنه رد على مهاجميه ومنتقديه بالقول: "بأي لون من الإلحاد والكفر يتهمونني؟ أنا لا أنكر في أي جزء من الكتاب التثليث أو ألوهية المسيح أو خلود الروح أو بعث الموتى أو أية ناحية أخرى من نواحي العقيدة البابوية، ومن ثم فإني لم أهاجم الديانة بأي شكل من الأشكال". وهو بذلك يؤكد عدم إنكاره للروح.

أجابني جاري: هناك من يؤمن بتناسخ الأرواح أيضاً، وهو رأي جاء منذ الحضارات القديمة كما لديكم في بابل ولدى المصريين القدماء واليونانيين وحتى الهندوسية والبراهمانية، جميعها كانت تؤمن بذلك، وجاءت بعدها في ايطاليا المدرسة الفلسفية الفيثاغورية وغيرها.

قلت لجاري: إذن، أنت ترى أن الأمم التي تؤمن بوجود الروح هم الأغلبية عبر القرون، فلماذا تنكرها.

فرد: ليست العبرة بالأغلبية، بل بما توصل اليه العلم الحديث.

بعد هذا الرد الذي لم يأت بجديد، بقدر ما هو أحد أسلحة جاري في التهرب من الحوار، لذا فضلت انهاء حوارنا هذا المساء، فإستأذنت من صاحبي وعدت الى داري بعد أن أسدل الليل ستاره وجاء البرد بما لا يأتي به مثيله في بلداننا.

 

د. وليد كاصد الزيدي – باريس

28 يناير 2017

 

في المثقف اليوم