قضايا

الفلاسفة من طينة الذهب

احمد شحيمطسيكون الأمر ممكنا في عالم أفلاطون السياسي والاجتماعي . وفي أسطورة المعادن الناس ليسوا على درجة واحدة من الحكمة والذكاء والتمرس في قيادة المجتمع نحو العدالة والسعادة . عالم أفلاطون الحقيقي في إزاحة الغوغاء وتحييد الرعاع من السلطة الملفوفة بالمخاطر والمنفعة . ولعل في الأمر مدعاة للغرابة والدهشة أن يشير الفيلسوف للنظام الديمقراطي بأوصاف سلبية . في ظل سيادة هذا النظام فكرا وممارسة بمدينة أثينا من عهد بركليس في القرن الخامس قبل الميلاد . نظام رفع المدينة في بناء قواعد جديدة للممارسة السياسية والتقليل من الصراعات على السلطة والتباهي بين سائر الأمم والمدن الأخرى خصوصا مدينة اسبرطة المجاورة ونظامها العسكري . فهل كان في الأمر ما يستدعي أن يتصور أفلاطون نموذج للممكن في جمهورية مثالية تقود المجتمع نحو العدالة وتخليق السياسة وإرغام السياسي في تبديل قواعد الحكم المستبد ؟ القضية المركزية هنا كراهية أفلاطون للديمقراطية كنظام سياسي يتجلى أولا في إعدام معلمه سقراط الذي ناهز السبعين عاما من عمره وقضت المحكمة بالتهم الموجهة إليه في إفساد عقول الشباب وسب الآلهة . ويروي أفلاطون على لسان سقراط أطوار المحاكمة في بعض من المحاورات ومنها "الدفاع " . فالقوانين الوضعية جائرة ومتعسفة في حق رجل طالما ظل يعلم الناس فن الحكمة والفضيلة . ويجول في الساحة العمومية والأسواق يفند ويفحص الآراء ويطرح الأسئلة ويعلم الشباب أن المعرفة ممكنة بالتأمل والعودة للذات . سقراط الذي قال " أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك " . المعرفة تذكر والجهل نسيان . من عالم الظلال والأشباح والحقائق المزيفة إلى الصعود في مراتب العلم والمعرفة وتعلم الفضائل . لقد كانت أثينا بالفعل ظالمة في حق رجل امن بالقوانين ورفض الهرب والفرار من السجن ومن المدينة التي تنفس هوائها . جوهر القضية التي قال عنها سقراط أنها مسألة ادعام عام وليست قضية شخصية . سقراط أراد أن يغير العقلية اليونانية والتعليم السائد في الخطابة والجدال وإعداد الشباب الأثيني للمناصب السياسية . هكذا يمكن القول أن النهاية الحتمية للمعلم سقراط قادت أفلاطون أن يتأمل في غايات الفرد وأسس بناء المدينة . في العدالة والأخلاق والمجتمع . وفي العدالة الفردية والعدالة الاجتماعية من خلال النظر في التوازن بين قوى النفس والنظر في قوى المجتمع . فالتصور الأفلاطوني للجمهورية العادلة ليست بالأساس طوباوية ومستحيلة التحقق . بل هي مثال لما يمكن أن تكون عليه السياسة ومواصفات السياسي . المجتمع الحالم بالعدالة التي فصل فيه أفلاطون في محاورة " الجمهورية " . يفند تعريفات غير دقيقة للعدالة والإنسان العادل . وغالبا ما يتدخل قول سقراط للتعبير عن عدم اكتمال التعاريف في انجاز هذا المطلب الإنساني في بناء الدولة العادلة . يفحص قوى النفس  ويحددها في  ثلاث أشكال : القوة العاقلة والقوة الغضبية والقوة الشهوانية . وفي الطبقات الاجتماعية يبدو المجتمع الأفلاطوني تراتبي مقسم بين طبقة الفلاسفة وطبقة الجنود وطبقة عامة الشعب . وتتوزع وظائفهم بين الرئاسة والحراسة والإنتاج. ويناسبهم من المعادن كالذهب للفلاسفة والفضة للجنود والنحاس لعامة الشعب .وفي أعلى الفضائل هناك الحكمة للفلاسفة .والشجاعة للجنود والعفة والاعتدال للطبقة الأخيرة. ومن خصائص الفيلسوف الاتزان والاعتدال والفطنة والذكاء والفصاحة في القول والتعقل والميل للموسيقى والجمال .وكلها بالفعل خصائص من المفروض أن تجتمع في الفيلسوف عبر المران والتربية التي تعني أن الإنسان يجتاز اختبارات ويمر بتقنيات تحدد مكانته في أداء المهمة الموكولة إليه في المجتمع . فمن هو الفيلسوف الحقيقي عند أفلاطون ؟ هذا السؤال يتضمن بالفعل كذلك مواصفات الفلسفة والفيلسوف في عالم المعرفة التي لا يتساوى فيها الفيلسوف مع الإنسان العامي. الأول يخرج من عالم الكهف والمعرفة السطحية نحو الحكمة .ويتدرج في مراتب العلم والمعرفة . كالعلم الطبيعي والعلوم الحكمية والنظر بالعقل في عالم المثل والمعقولات لكل النماذج المثالية كالعدالة والجمال والخير الأسمى . يتحرر العقل  من قيود المعارف الجاهز التي تكبل الإنسان وتمنعه من رؤية الحقائق . الفيلسوف الذي يخرج من قيود العالم الحسي ويرتقي نحو عالم المثل يشاهد الحقائق ويتأملها ويزيل الجهل المستبطن وحواجز المعرفة الحسية وينتهي المطاف نحو تشكيل رؤية عقلية للوجود وإلمام بالفضائل النظرية والعملية وينتهي للتجاوز لكل ما هو محسوس ومشكوك فيه .

وفي قيمة التربية والتعليم أدخل أفلاطون الفلسفة والعلم إلى داخل المؤسسة عندما انشأ الأكاديمية وكتب عل بابها " لا يدخلها إلا من كان رياضيا " شرط التفلسف والتعلم في الولوج للأكاديمية . المؤسسة التي خرج منها أرسطو بفلسفة في غاية الشمولية والدقة بعد عشرين سنة من التحصيل . ظلت الفلسفة الأرسطية نموذج كبير في منح الفلسفة دلالة وقيمة كونية وشمولية في إرساء المباحث الكبرى للفلسفة كالوجود والمعرفة والقيم . فراح أرسطو يتفلسف ويعلم مبادئ الفكر والتفكير للاسكندر الأكبر . وينتج فلسفة كانت تأثيراتها جمة في الفلسفة المشائية وفي نهضة الغرب الحديث من جراء حوار متواصل

بين العلم الحديث وإسهامات أرسطو في العلم النظري والمنطق والفكر الفلسفي

حاول أفلاطون في نظرية العدالة والأخلاق أن يبني السياسة وفق تصور صارم للممكن . ونظر إلى النفس من خلال القوى الثلاث فوجد أن العدالة الفردية موجودة في التناغم بين المكونات النفسية . العقل كقدرة وطاقة في التفكير والتعقل والمنطق والغضب كصورة للانفعال وردود الأفعال المضادة في الإنسان . والغريزة كنزوع طبيعي تسعى للارتواء والإشباع . وفي محاورة " الجمهورية " ناقش قضية الرغبة في جوهرها دون أن يبدي تعريفا حقيقيا لها واكتفى بتصنيفها إلى رغبات مشروعة تتوافق مع العقل والقيم والاجتماعية ورغبات غير مشروعة ضد الأعراف والتقاليد وسلطة العقل . وطرح فكرة المساواة في غاية الأهمية للوصول إلى الفكرة الصحيحة في تحقيق العدالة الفردية عندما يهيمن ويوازي العقل بين الغريزة والغضب ويمنح للنفس اعتدالا وتوازنا. وينتقل أفلاطون للبحث عن التناغم في طبقات المجتمع في توزيع الأدوار بحسب الوظائف والقدرات الذهنية للأفراد. فالفلاسفة طبقة تقود المجتمع نحو تحقيق العدالة والانسجام وتمتثل باقي الطبقات للفلاسفة في حسن تدبيرهم للمجتمع العادل وما يتميزون به من حكمة وتعقل في القيادة والرئاسة. فمن الواضح أن الفلاسفة من معدن الذهب. وأعدل الأنظمة الممكنة في إقامة العدالة هي الجمهورية المثالية المضادة للحكم الاوليغارشي والحكم الديمقراطي والعسكري وغيرها من الأنظمة الفاسدة . ولما حاول أفلاطون الاقتراب من الحاكم الطاغية عندما كتب صديقه ديون رسالة من سيراكوزا يخبره فيها بوفاة ديونيسوس الأكبر وتولي الحكم ابنه . كان هذا الابن شغوفا بالفلسفة . وحلم أفلاطون أن يصير الملوك فلاسفة. والنموذج هنا الحاكم الجديد إلا أن النهاية كانت قاتمة دون أن تحقيق الآمال المعقودة في تحقق فكرة الحكم العادل في جمهورية عادلة .فرار أفلاطون وعودته من جديد إلى أثينا دون أن يتحول الطاغية إلى فيلسوف .وإقامة جمهورية عادلة بقوانين مدنية معتدلة .

يدرك الفيلسوف أن طبائع الناس متباينة في ميلهم نحو الخير والشر.  صفات موجودة في النفس بين القسوة والشدة . الاعتدال والتشدد .بين الحكم الرشيد والمستبد . وتلك والرؤى المتباينة بين الفيلسوف والسياسي في القيادة والحكم وفي التنظير والممارسة . ولهذا لا يرث الأبناء صفات القيادة من الآباء في اغلب الأحيان بل السياسة دهاء ومكر ومصالح وخطط يتعلمها الإنسان بالتجربة والاحتكاك . ويستميت السياسي في الحفاظ على حكمه بكل الوسائل الممكنة .

جمهورية أفلاطون تشترط أن يتنصل الفيلسوف الحاكم من الأبناء والنساء والملكية الفردية ويتفرغ أكثر لشؤون الدولة . ويبدأ الإعداد للفيلسوف بالتربية السليمة والقاسية في التعلم وولوج الخدمة العسكرية وتحصيل العلوم والمعارف . ومن يقرأ في عمق ما يرمي إليه أفلاطون يدرك النوايا الطيبة من مقاصده الهادفة إلى  تخليق السياسة واعتبار العدالة أم الفضائل واستقامة الحكم باستقامة النفس الإنسانية في الاعتدال والانسجام بين الميل نحو السعادة والخير أو تكريس الطغيان والاستبداد . فالفيلسوف من طينة الذهب يبنى بالانتقاء والاختيار وجدارة التفكير العلمي والمران النفسي والجسدي وصفات ممكنة في الفيلسوف للقيادة والتدبير . من هنا ندرك رغبة الفلاسفة في التنقيب والبحث في علم السياسة والحكومات الممكنة في تحقيق العدالة كإنصاف دون إفراط وتفريط شرط أن يوجد حكيم يطبق العدالة ويحقق الخير العميم للناس كما في فلسفة أرسطو . ونعثر في مبادئ السياسة عند الفارابي الميل نحو إقامة المدينة الفاضلة التي يسودها الاجتماع الفاضل . مدينة التكامل ضد كل المدينة الضالة والفاسقة والجاهلة ومدينة التغلب . يسود المدينة الفاضلة الاجتماع الفاضل ويطبعها التناغم والانسجام . فهي بمثابة الجسد التام . أما في مختصر ابن رشد في الشرح والتعليق  لكتاب السياسة لأفلاطون للبحث في مواصفات السياسة والسياسي .بالتأكيد الفيلسوف ينشد الكمال ويشترط الإلمام بالطرق البرهانية والاعتدال والاتساق في الفعل وذالك التدرج في التربية وتحصيل المعارف .وان تتوافر في الحكم خصال منها الحكمة وجودة الفطنة وحسن الإقناع وقوة المخيلة والقدرة على الجهاد في حال اكتمال القوة الجسمانية . فالنظر إلى تأويلات وتعليقات ابن رشد على كتاب السياسة أو الجمهورية لأفلاطون لا يخلو من اكراهات ذلك الزمان عند الحذر في القول الذي يتعارض مع الشريعة الإسلامية أو يمكن أن يتجاوز فيه ابن اشد الخطوط الحمراء في الحرية والقول . وفي النهاية يمكن القول أن السياسة ومرامي الفعل السياسي ستتجاوز الطرح اليوناني لإفساح المجال للمرحلة الحديثة في تبني الطرح التعاقدي والمجتمع الديمقراطي . وتجاوز النماذج المثالية في فلسفة القرون الوسطى .

 

احمد شحيمط : كاتب من المغرب

 

في المثقف اليوم