قضايا

المفارقات المنهجية في نشأة اللغة العربية (1)

محمود محمد عليما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأن العلم كما أكد أستاذنا الدكتور "حسن عبد الحميد" في رائعته عن "التفسير الابستمولوجي لنشأة العلم"، حيث قال " يمر في انتقاله من مستوي الممارسة التلقائية العفوية إلى مستوى الصياغة النظرية لقواعد العلم، الأمر الذي قد يحدث نوعاً من القطيعة المعرفية "، وهذه القطيعة الذي ذكرها الدكتور "حسن عبد الحميد"، أشبه ما تكون في نظري نوعاً من المغايرة النسقية.

ولتوضيح ما يعنيه هذا المبدأ يمكن القول  بأن أي علم على الإطلاق قد مر في تاريخه بمرحلتين أساسيتين ومتميزتين: مرحلة الممارسة اليومية التلقائية، التي يغلب عليها الطابع الأيديولوجي، ومرحلة الصياغة النظرية للقواعد الأساسية والمبادئ العامة التي تجعل من المعرفة معرفة علمية بالمعني الدقيق للكلمة.

أو هو الانتقال مما هو ضمني إلى ما هو صريح وواضح، فالطفل أو الرجل الأمي – على سبيل المثال - يستطيع كلاهما أن يستخدم اللغة استخداماً صحيحاً نسبياً ودون حاجة إلى تعلم قواعد النحو الخاصة بهذه اللغة أو تلك، ولو سألنا أحدهما أن يستخرج لنا قواعد اللغة التي يتحدث بها، وأن يصيغها صياغة نظرية، لما كان هذا في إمكانه.

والسبب في ذلك أننا ننقله في هذه الحالة من مستوى الممارسة اليومية للغة إلى مستوى الصياغة النظرية لقواعدها. والانتقال هنا هو انتقال من مستوى الممارسة اليومية العفوية للمعرفة إلى مستوى الوعي بالقواعد النظرية التي تنظم هذه المعرفة، وقد أصبحت علمًا .

وهذا الانتقال من المستوى الأول إلى المستوى الثاني لا يتم إلا عن طريق " قطع الصلة" (إلي حد ما) بالممارسات اليومية ذات الطابع الحدسي والتلقائي التي تسيطر علي المعرفة قبل أن تتحول إلي علم . والقطيعة المعرفية (أو المغايرة النسقية) هي " التغير الذي ينتج عنه أمراً جديداً كل الجدة، ولكنها عبارة عن مسار معقد متشابك الأطراف تنتج عنه مرحلة جديدة متميزة في تاريخ العلم "، ومعالم تلك القطيعة (أو المغايرة) يمكن تتبعها علي ثلاثة مستويات: "مستوى لغة العلم من جانب، ومنهجه من جانب آخر، ومستوى نظرية العلم من جانب ثالث".

والسؤال الآن: هل يمكن تطبيق هذا المبدأ على النحو العربي في مرحلة نشأته ؟

يذهب غالبية مؤرخي النحو سواء القدماء منهم والمعاصرون إلى أن النحو هو " علم بأصول تعرف بها أحوال الكلمات العربية من حيث الإعراب والبناء، أي من حيث ما يعرض لها في حال كونها مفردة أو مركبة"، وأن " سيبويه"  أول من صاغ بطريقة علمية نظرية هذا العلم الذي سبق تاريخياً كل العلوم في التأسيس، حيث يمثل كتاب سيبويه أفضل " صورة لما وصل إليه التقدم العلمي في النحو في أواخر القرن الثاني الهجري، لأن الكتاب ثمرة لهذه الجهود المتصلة في تلك المادة منذ أن بدأها أبو الأسود، وهو (يمثل كذلك أفضل) صورة لما كانت عليه دراسة النحو، في ذلك الحين من التعليل والقياس، والاستنباط، والتفريع، واستيعاب الفروض ..وهو الكتاب الأول والأخير في النحو، فالكتاب سجل لقواعد النحو، وقف العلماء عنده، ولم يزيدوا عليه، وكل من جاء بعده جعل الكتاب أساس دراسته"، وبهذا يعد سيبويه بشهادة الكثير من الباحثين والدارسين " أهم تلميذ للرعيل الأول من أئمة اللغة، كما يعد أول عالم يكرس مجهوده الذهني بصورة متخصصة، إلى حد كبير في الدرس النحوي بمعناه الواسع، فليس من شك في أنه قد مهد بذلك الطريق للمباحث النحوية، وهو أمر لم نعهده من قبل".

ومع احترامنا لهذا الرأي، إلا أن المنطق والتاريخ يؤكدان أن الناس لم ينتظروا صياغة لقواعد النحو حتي يفكروا، والإنسان حيوان مفكر منذ أن وجد على سطح الأرض . النحو كعلم يفترض – مسبقاً - المقدرة على الاستخدام المسبق للغة، فالعلم آيا كان لا يبدأ إلا حين يتجه المفكر إلى الواقع العملي لهذا العلم، وواقع النحو العربي، وخاصة في بداياته الأولى يكذب ذلك وينفيه، فحتى الآن لم ينكشف لنا الفهم الصحيح لطبيعة المرحلة، التي تنسب إليها نشأة الدراسات النحوية، ولا فهم لطبيعة اللغة العربية، التي تتناول نشأة نحوها بالدرس، والبحث، والاستقصاء، إذ قبل "سيبويه" لم تكن معالم الدرس النحوي واضحة، ولم يكن له تخطيط معين، ولا منهج محدد، فـ "لا يزال الباحث في حيرة من أمر النحو العربي، ومن الظروف التي لا بست نشأته، فلا القدماء أماطوا اللثام بطريقة معقولة عن هذا الغموض الذي لا نزال نحس به، ونتعثر في دياجيه، ولا المحدثون استطاعوا أن يتناولوا هذه المسألة بطريقة جدية فيتعمقوا فيها بعد أن يمهدوا لها بالدراسة الواسعة، والتفكير الحر، والمنطق السليم ".

ولذلك نحاول بقدر استطاعتنا أن نناقش نشأة النحو بطريقة منهجية، ونبدأ حديثنا بمناقشة الشخصيات التي يعزي إليها نشأة النحو، فنتساءل من صاحب الفضل في نشأته: أهو أبو الأسود الدؤلي (16 هـ- 69 هـ)؟ أم الأمام علي بن أبي طالب (13 رجب 23 هـ - 21 رمضان 40 هـ) كرم الله وجهه؟، أم شخصيات أخرى، مثل نصر بن عاصم (توفي عام 89 هـ)، أو عبد الرحمن بن هرمز (ت:117هـ) ؟

لقد اختلف المؤرخون في أول من وضع أبواباً من النحو أو تحدث فيه، وظهرت روايات متعددة بخصوص هذا الموضوع يمكن إجمالها كالآتي:

الرواية الأولى: يرى أصحابها أن الإمام علي بن أبي طالب هو الواضع الأول لعلم النحو .

الرواية الثانية: يرى أصحابها أن أبا الأسود الدؤلي هو الواضع الأول لعلم النحو بمشاركة نصر بن عاصم الليثي (توفي عام 89 هـ) وعبد الرحمن بن هرمز .

الرواية الثالثة: يرى أصحابها أن أبا الأسود وحده هو الواضع الأول لعلم النحو .

ولا بد لنا قبل تحديد هذا الوضع من أن نعرض لهذه الروايات، ومن قال بها .

أما بخصوص الرواية الأولى، فقد وردت في كتب علماء القرن الرابع الهجري، وما بعد ذلك، ورددتها المصادر التي تلت ذلك التاريخ، حيث ينقل لنا " أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي، (توفي عام 340 هجري) "في" أماليه"، رواية عن أبي الأسود الدؤلي أنه قال:" دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرأيته مطرقًا مفكرًا، فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين ؟ قال: إني سمعت ببلدكم هذا لحنا فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية، ثم أتيته بعد أيام فألقى إلي صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام: اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل، ثم قال: تتبعه وزد فيه ما وقع لك، واعلم أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر . قال أبو الأسود: فجمعت منه أشياء، وعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكرت فيها إن، وأن، وليت، ولعل، وكأن، ولم أذكر لكن فقال لي لم تركتها فقلت لم أحسبها منها فقال هي منها فزدتها فيها .

ونفس الشئ يؤكده "أبو بكر بن الأنباري" (271 هـ - 328هـ) فيقول: " الصحيح أن أول من وضع النحو الإمام علي (رضي الله عنه)، لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي ... وسبب وضع علي (رضي الله عنه) لهذا العلم ما روى أبو الأسود قال: " دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، فوجدت في يده رقعة، فقلت ما هذه يا أمير المؤمنين ؟ فقال: إنـّي تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء (يعني الأعاجم)، فأردت أن أضع لهم شيئا يرجعون إليه ويعتمدون عليه، ثم ألقى إليّ الرقعة وفيها مكتوب " الكلام كلـّه اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أُنبى به، والحرف ما جاء لمعنى " وقال لي: انحُ هذا النحو وأضف إليه ما وقع إليك .

ويعتمد الشيخ محمد الطنطاوي، في كتابه " نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة " هذا الرأي، ويعلل بأن ابن الأنباري: " أغناهم بهذا المقام، وقد سرد معظم نقول السابقين عليه مع جودة الترتيب، فذكر مختاره أولًا مع روايتين في سبب وضع الإمام "علي بن أبي طالب " كرّم الله وجهه، ثم ذكر مختار غيره مع روايات أربع في سبب وضع أبي الأسود رضي الله عنه ... ثم عاد مصرحاً برجحان اختياره".

وممن أكد نشأة النحو علي يد الإمام "علي بن أبي طالب " كرّم الله وجهه،  أيضا الزبيدي في " طبقات النحويين واللغويين، حيث يروى أنه قال:" تلقيته من علي بن أبي طالب رحمه الله "، وفي رواية أخرى قال: " ألقى إليّ عليٌّ أصولا احتذيت عليها ". أمّا ابن النديم (توفي 384 هـ) في كتابه (الفهرست)، فيقول: " زعم أكثر العلماء أن النحو أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وأن أبا الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " .

وهنالك شهادات أخرى كثيرة سجلها لنا القدماء غير ما ذكرنا عن "الزجاجي" و" محمد بن القاسم الأنباري  (الشهير بأبي بكر الأنباري) 271 هـ - 328هـ "و" المرتضى الزَّبيدي (1145 - 1205 هـ) " و" أبو الفرج بن أبي يعقوب النديم (المتوفي 384هـ-1047م)"، تؤكد إشارة الإمام "علي" (رضي الله عنه) وإرشاده وتوجيهه، فالسيوطي (أعني جلال الدين السيوطي " 849 هـ - 911 هـ") يقول وينقل ما يلي: " اشتهر أن أول من وضع النحو: علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) لأبي الأسود، قال الفخر الرازي في كتابه (المحرر في النحو): " رسم علي (رضي الله عنه) لأبي الأسود باب (إنّ)، وباب الإضافة، وباب الإمالة، ثم صنف أبو الأسود: باب العطف، وباب النعت، ثم صنف باب التعجب، وباب الاستفهام، وتطابقت الروايات على أنّ أول من وضع النحو: أبو الأسود، وأنه أخذه أولاً عن علي "، ووضح ذلك أيضا أبو الطيب اللغوي في (مراتب النحويين) قائلاً: " أخذ ذلك عن أمير المؤمنين "علي" (رضي الله عنه)، لأنه سمع لحنا فقال لأبي الأسود: اجعل للناس حروفا، وأشار له إلى الرفع، والنصب، والجر"، وابن كثير الدمشقي في (البداية والنهاية ) يذكر: " إنما أخذه عن أمير المؤمنين علي بن طالب ..ذكر له الإمام: "الكلام: اسم، وفعل، وحرف، وإنّ أبا الأسود نحا نحوه ..."، وابن خلكان في (وفيات الأعيان) يوضح أيضا أن " الإمام "علي" (رضي الله عنه) وضع له أقسام الكلام،ثم رخصه إليه وقال له: تمم على هذا " .

أما بخصوص الرواية الثانية التي تنسب وضع النحو إلى أكثر من واحد فهي متأخرة، يقول أبو سعيد السيرافي (284هـ - 368هـ): "اختلف الناس في أول من رسم النحو، فقال قائلون "أبو الأسود الدؤلي"، وقال آخرون "نصر بن عامر الليثي"، وقال آخرون "عبد الرحمن بن هرمز"، وأكثر الناس قالوا أبي الأسود " . وسار فى قوله الزبيدي الذي زاد على قول السيرافي " فوضعوا للنحو أبوابا، وذكروا عوامل الرفع، والنصب، والخفض، والجزم، ووضعوا أبواب الفاعل، والمفعول، والتعجب، والمضاف ". ثم تابعهما من جاء بعدهما ممن قال بهذا القول .

والذي يبدو من هاتين الروايتين أن تعاصر هؤلاء الثلاثة كما يري بعض الباحثين هو السبب المباشر في التباس الأمر على المؤرخين اللذين جاء أولهما بعد أبي الأسود بثلاثمائة سنة، وهي كافية للاختلاق والتزيد . أما "الزبيدي" فيبدو أنه أخذ ما نسب وضعها إلى أبي الأسود إلى هؤلاء جميعاً لكي تتم لهم المشاركة والمتابعة له في تطبيق نقط المصحف وهي نقط الإعراب .

أما فيما يتعلق بالرواية الثالثة التي تؤكد  ذلك، فهي تفرّد أبي الأسود الدؤلي بأنه واضع علم النحو، فقد أثبت له المؤرخون وكُتاب التراجم والباحثون في الأعمال القرآنية نقط الإعراب، وكانت جميع روايات المؤرخين تذكره عند تعرضها لوضع النحو أذكرته وحده أم مع الإمام "علي" أم مع معاصريه، وقد كان ذلك منذ أول نص وصل إلينا يتحدث صاحبه فيه عن النحو والنحاة حتي يومنا هذا . وللحديث بقية !!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم