قضايا

هل ينبغي علينا أن نكترث لأمر الملحدين؟!

منى زيتونمن البداهة أن أتلقى جوابًا بالإيجاب على السؤال المطروح المعنون للمقالة، بل وغالبًا سيتعجب من يقرأ العنوان أن مثل هذا الموضوع مطروح للنقاش من الأساس! فالمفترض أن تدفعنا الإنسانية أن نسعى قدر ما نستطيع في سبيل إنقاذ الملاحدة من النار، التي نعلم حتمًا كما أخبرنا ربنا –وبعيدًا عن سفسطة المتفذلكين- أنها ستكون مصيرهم؛ لأن عملهم في الدنيا قد حبط بكفرهم. ولكن لي رأي آخر أنوي عرضه في هذا المقال لأنه أرقني حتى توصلت إليه.

وكي أكون أكثر دقة، فالملحدون الذين أعنيهم في هذه المقالة تحديدًا هم الدهريون الرافضون لفكرة وجود خالق للكون. ‏﴿‏وَقَالُوا مَا هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ‏﴾‏‏ [الجاثية: 24].

يقول الله عزَ وجلَ في كتابه العزيز، في وصف حال هؤلاء الأقوام، الذين أصبحوا يُعرفون في عصرنا باسم الملحدين، مقررًا أنهم لا تُرجى هدايتهم:

‏ ﴿‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ‏﴿‏6‏﴾‏‏ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ‏﴿‏7‏﴾‏‏‏﴾‏‏ [البقرة: 6 ،7]

‏ ﴿‏وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا‏﴾‏‏ [الإسراء: 82]

‏ ﴿‏قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏﴾‏‏. [فصلت: 44].

فهل ظلمهم ربهم سبحانه وتعالى –وحاشاه-؟!

يقول أصحاب القلوب الرقيقة إن هؤلاء قد أوصلتهم عقولهم القاصرة إلى تلك المواصيل، وينبغي أن نساعدهم ونكرر ونُلح لإعادتهم إلى جادة الصواب، أما أنا فأرى أنه بما أن الله تعالى قد خلق الإنسان من عقل وقلب وروح وجسد، فلا بد من التعامل معه على أنه خليط من ‏كل هذا دون تجاهل لأي مكون.

والمسيحية ركزت على القلب في التعامل مع أتباعها وبث الإيمان فيهم، ولا نجد فيها دعوة واضحة ومتكررة لاستخدام العقل؛ لأن ‏العقل لن يقبل الثالوث ولأنهم ينزهون الفضلاء عن الرغبات الجسدية، وقد تسبب هذا للغرب في ‏الوصول إلى انتشار الإباحية الجنسية من جهة وانتشار الإلحاد من جهة أخرى!

بينما الإسلام، وبالرغم من أنه يؤكد على قيمة العقل كمكون هام من مكونات الإنسان، وقد حثنا ربنا على استخدامه وميزنا به، لكن ‏الإنسان ليس عقلاً فقط من وجهة النظر الإسلامية، ولو تعاملنا بالعقل فقط لفقدنا روح الإيمان، ثم إن العقل الإنساني يتفاوت ‏حظ البشر فيه، فكم من حمقى وضعاف العقول، وكم من مفكرين وعلماء وجهابذة اختلفوا في ‏مسائل وكل كان له دليله ووجهة نظره المعتبرة، فالعقل الإنساني ناقص، والتعويل عليه وحده لا ‏يكفي.

‏ ﴿‏ …. الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ‏﴾‏‏ [الأنفال:65]

‏ ﴿‏وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏﴾‏‏ [الملك: 10]

ومن ثم فإنه رغم أن الملاحدة –كما أراهم ويراهم غيري من المؤمنين وكما أخبر عنهم ربنا- لا يعقلون ولا يفقهون، فإن ضعف العقل وحده ليس معفيًا لهم من عاقبة الإلحاد، ولا ملزمًا لنا بنقاشهم.

هناك بسطاء لا يدركون الله بعقولهم، ولكنهم يدركونه بأرواحهم. لن يستطيعوا أن ‏يردوا على أي تساؤل فلسفي عن الله والخلق والكون، وقد لا يفهمون صفات الله عندما تشرحها لهم ‏من وجهة نظر الأشاعرة أو المعتزلة، ولكنهم يعرفون أن لهم ربًا يدبر لهم أمورهم‎.‎

إن الطريق إلى معرفة الله سهل وميسر، والإنسان مفطور على أن يعرف ربه، والله تعالى قد بث في الملاحدة من روحه كسائر البشر، والروح هي طريقنا الفطري لتذكر الميثاق الذي واثقنا به سبحانه.

‏ ﴿‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ‏﴾‏‏ [الأعراف: 172]

بينما تقرير أي شريعة هي الصحيحة ليتبعها الإنسان أصعب كثيرًا من التيقن من وجود الله.

ولعل أجمل ما في حرب الإيمان والإلحاد أنني أرى المؤمنين بالله وبالخلق من أبناء الديانات السماوية يتترسون في خندق واحد، وينقلون عن بعضهم البعض.

ولكن إدعاء التعويل على العقل فقط، ثم إدعاء تعارض الإيمان مع العقل صارا من صرعات عصرنا، كما صار التعالم والحديث المتبجح عن العلوم من قبل الجهلة يسد عقدة النقص التي انتشرت لدى كثيرين؛ فالعلم يحتاج إلى مجهود وقدرات عقلية لا يملكها كثيرون، والأسهل بالنسبة لهم أن يتفلسفوا ويدعوا ‏تصديق ما لا يفهمونه من العلم الزائف مما يُشيعه رءوس الملحدين لنشر فكرة تعارض العلم مع الإيمان بوجود خالق.‏

‏‏ ﴿‏فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏﴾‏‏ [غافر: ‏‏83]

كما لم يعد هؤلاء الملحدين في عصرنا يستخفون بإلحادهم كما كان حال سابقيهم، بل صار الإلحاد دينًا جديدًا يبشرون به.

‏﴿‏يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ‏﴾‏‏ [الصف: 8]

ولا يتوانون عن بذل الجهد في عملية التبشير تلك بكل السبل؛ بالكذب على العلم وكتابة المقالات الزائفة التي تبث سمومهم، إضافة إلى الهرتلة والكلام الفارغ من كل قيمة ومعنى عندما تُقام عليهم الحجة في النقاش، فهم يسعون لجمع أكبر عدد معهم في ضلالهم، فربما يهدئ ذلك شيئًا ما من اضطراب نفوسهم.

‏ ﴿‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏﴾‏‏ [فصلت: 26]

‏ ﴿‏مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا‏﴾‏‏ [غافر: 4]

‏ ﴿‏وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ‏﴾‏‏ [غافر: ٥]

‏ ﴿‏زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا‏﴾‏‏ [البقرة: 212]

من ثم، فربما أن من ينبغي أن نكترث لهم فقط هم الملحدون حقيقة بحكم النشأة. هؤلاء ممن لم يخطر ببالهم احتمال أن الله موجود ‏حتى يناقشوه؛ فيكون علينا كمؤمنين أن نعرض عليهم ما يثير استفسارات بأذهانهم تدفعهم إلى البحث عن الحقيقة، أما المتفلسفون المبشرون بالإلحاد فقناعتي أن هؤلاء بما أنه قد ضُرب على سمعهم وعلى أبصارهم فهم لا يفقهون، بعد أن أنكرت أرواحهم معرفة ربها، فإعارتهم الانتباه يمثل إعطاء قيمة لهم لا يستحقونها، لذا قررت أن أكون ممن وصفهم الله في كتابه الكريم ﴿‏وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ‏﴾‏‏ [القصص: 55].

فإن كانوا يريدون أن يذهبوا إلى الجحيم فهذا شأنهم؛ والله سبحانه قد قطع معذرتهم بإرسال الرسل. ‏﴿‏رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏﴾‏‏ [النساء: 165].

والرسالات قد خُتمت بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله عنه: ‏﴿‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏﴾‏‏ [الشورى: 52].

وهو أحرص الخلق على هدى العباد. ‏﴿‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏﴾‏‏ [التوبة: 128].

ومع ذلك خاطبه الله عز وجل في كتابه العزيز قائلًا: ‏﴿‏إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ‏﴾‏‏ [النحل: 37].

والسموات مفتوحة، والمعلومات متاحة، وكل شخص بإمكانه الوصول للمعلومات التي يريدها إن أرادها حقًا، ومن يريد أن يصل للحقيقة لن يضل السبيل، فالله أجلّ من ألا يهدي من بحث عنه. أما من استحب العمى فلن تهديه رسالات الرسل، ولن يؤثر فيه إيضاحنا لأي شيء، حتى لو استعنا في محاولة إقناعه بالحقائق العلمية التي يدعي قيمتها بالنسبة له.

وأعتقد أن الأمر قد وصل في حرب الإيمان والإلحاد إلى منافسة في تدوين الردود على ما يسوقه الفريق الآخر، وإجابة المؤمنين على شبهات الملحدين، مع تيقن كل فريق أن كل ذلك الجهد لن يؤثر في رأي أحد من المعسكر الآخر، وأقصى ما يمكن توقعه هو أن يقلق أحد أعضاء الناديين الكبيرين مما طرحه المخالفون، موقنًا أنه سيجد إجابة لدى أعضاء ناديه إن عاجلًا أو آجلًا، ولكن دون أن يغير أحد موقعه.

 

د. منى زيتون

 

في المثقف اليوم