قضايا

وزارة التعليم العالي و(قاط لهلدكمة)

علي المرهج(فصل قاط لهالدكه) مثل عراقي قديم ينطبق عليه ما تفعله زارة التعليم العالي العراقية، فهي تُطالب أساتذة الجامعات العراقية بأن ينشروا بحوثهم في مجلات (أنكلو أورو أمريكية) (سكوبس) أو مجلات ذات معامل تأثير عال (انباكت فاكتور)، وهي مجلات فصلتها مؤسسات أكاديمية تتساوق اهتماماتها البحثية مع طبيعة تأسيس تلك المؤسسات البحثية التي تعتمد نظام (الخصصة المعرفية) و (الخصصة الانتاجية) التي لا يهتم أصحابها ومؤسسوها بتقييمات تُضفي عليها الاعتراف من خارج اهتماماتها البحثية وامكانتها العلمية، فمثل هكذا تصنيفات عالمية لا تبحث جامعات رصينة ومؤسسات علمية وأكاديمية عنها ولا أظن أنها تُعير أهمية تُذكر لها، لأن مثل مؤسسات التصنيف هذه تستمد بناء رؤيتها لمفهوم الجودة والأداء من هذه المجامعات لا العكس، فجامعة مثل هارفرد أو كاليفورنيا، أو جامعة يابانية لا يشغلها بأي حال من الأحوال أن تنتهج طريقة في تفعيل البحث الأكاديمي والعلمي تسترضي به مؤسسات أو مجلات يدَعي أصحابها أن لها (معامل تأثير عالمي) لا لأنها تتنكر لقيمة البحث العلمي، بل لأنها تحترم نتاج كوادرها العلمية واقدامهم على تقديم ما هو أفضل لتصحيح مسار الفهم أو تغيير مسار النظرية العلمية، لذا فإن كل هذه المؤسسات التي يدعي مالكوها أن لهم وصاية على تقييم نتاج مؤسسة أكاديمية ما لا يتأتى من تبعية الجامعات الرصينة لمقاييسها، إنما مقاييس هذه الجامعات هي التي تكون خط سير و "مسطرة" لتقييم عمل علمي في العلوم الطبيعية أو الإنسانية.

سأروي لكم حادثة أن أخي وهو أستاذ جامعي (بروفيسير) في اللغة العربية وأدابها شارك في مؤتمر بتركيا، كان مُغريات هذا المؤتمر والمُنظمين له هي: أن كل بحوث المُشاركين فيه ستُنشر في مجلة من ضمن مجلات (سكوبس)، الاشتراك في المؤتمر هو 550دولار، وذكر لي أن عدد المُشاركين في المؤتمر في العراق يتجاوز عددهم المائة وخمسون مُشاركاً، وإذا ضربنا 550 دولار في 150 مشاركاً سيتجاوز الرقم الثمانون ألف دولار فقط قبضه مُنظمو المؤتمر من المُشاركين العراقيين، فسألته، هل هُناك حضور وحورات مُحتدمة في المؤتمر؟ فأجابني: (علي اشبيك تصعد للمنصة تقرأ بحثك وهُناك القليل من الحاضرين، لا يُصغون لما تطرحه. خويه أكلك بس من العراق أكثر من 150 باحثاً يا هو يسمعك)!!.

وفي (الانباكت فاكتور) تدفع مبلغاً بعد مطالبتك بالتعديل إن وجد، وبعدها يُنشر بحثك، هكذا ذكر لي أخي أستاذ الكيمياء المُساعد، بل أخبرني بما هو أدهى وأمرَ من ذلك، فذكر ليَ أن مجلة تصدرفي الهند في منطقة نائية حصلت على معامل التأثير (سكوبس) صدرت في عام 2017 يتم الاعتراف بأصالة البحوث التي تُنشر فيها في وزارة التعليم ولا يُعترف ببحث قيَمه أساتذة مُحترفون من جامعات عراقية تقدم به الباحث لنشره في مجلة عراقية  ـ لربما ـ عُمر اصدارها تجاوز الخمسين سنة!!.

زدَ على ذلك أنك كُلما أكثرت من جلب كُتب المشاركة في المؤتمرات باحثاً أو حاضراً تزيد نقاط تقييمك العلمي!!، وأنا يعرف الأصدقاء أنني من الناشطين  في المؤتمرات مُشاركة وحضوراً، ولكنه ليس مقياساً، ولن يكون للحُكم على علمية أستاذ جامعي، فأنا أعرف وأنتم تعرفون أن هُناك العديد من أساتذة الجامعة العلماء في اختصاصهم لا يعرضون بضاعتهم في سوق النخاسة العلمي، على قاعدة لعبة الزهر (ذب زايد تاخذ زايد) فهم لا يرتضون لأنفسهم وهم كبار في العمر والنتاج أن يعرضوا جهدهم العلمي كما يعرض (الدلَالون) والباعة المتجولون بضاعتهم!!.

ذكرتُ أمثلة لأساتذة درَسونا مثل: مدني صالح، ود.حسام الآلوسي، وعرفان عبدالحميد، وكامل مصطفى الشيبي، ود.ياسين خليل، وآخرون كباراً يعترف بهم أهل الغرب والشرق بأنهم أصحاب أصالة في افكر والكتابة البحثية ولو كانوا بيننا اليوم طبقاً متطلبات الوزراة هذه والجامعات لما حصلوا على تقدير أربعين من مجموع التقدير فـ (ما هكذا توُرد الإبل) يا وزارتنا!!.

أعرف أشخاصاً يُتقنون فن بناء العلاقة لتجدهم يكتبون في كل ما لا علم لهم ويحصدون قبولاً وتقييماً كبيراً، ولكن على قاعدة (احنه أولاد الكرية، كل واحد يعرف أخية) نعرف تمام المعرفة أن جُلهم لا يُجيدون كتابة سطراً واحداً إن طلبت منهم أن يكتبوه من دون الاستعانة بطالب أو صديق أو (قص ولصق) لنصوص مُفكرين أو فلاسفة ورصفها، والأغلب الأعم منهم فرح بما أتاحت له تعليمات الوزارة في أن يكون اسمه بمعية من نشر بحثاً من طلابه في الماجستير أو الدكتوراه، وهو من حقه أن يتقدم به للترقية!! وفق المثل القائل (ايجد أبو جزمه وياكل أبو كلاش)!!.

أُذكر (إن نفعت الذكرى) القيَمين على تحسين التصنيف في وزراة التعليم العالي والجامعات العراقية بما كتبته من قبل، إن كان فيهم من يعرفنا أو قرأ لنا من قبل: أن الغرب له مقاييسه وفق نظامه (الرأسمالي)، ونحن ينبغي أن تكون لنا مقاييسنا وفق نظامنا (الريعي)، والغرب جامعاته استثمارية وجامعاتنا استهلاكية تستجيب لمُتطلبات المُتغيرات السياسية، واتخاذ قرارات وفق المُتغيرات الاجتماعية وتبدل أحوال السلطة وتبدل قراراتها بمُجرد مجيء رئيس وزراء أو وزير جديد، لأننا لا نعمل لنبني دولة تغيير الحكومات فيها لا يعني تغيير السياسات، لأن سياسات وزارة ما يبنيها في الدول الراسخة أناس مُختصون لا تتاثر ولا تتغير وفق أهواء وزير جديد.. 

يُقبل الجميع في الكُليات!!. تُخصص مقاعداً للسُجناء السياسيين وأبناء الشُهداء في الدراسات العُليا!!. تُخصص مقاعد لأصحاب القبول الخاص من الذين يتقدمون للدراسة على نفقتهم الخاصة. لا قيمة للامتحان التنافسي في الفضيل لأن من له مُعدل كبير بحكم تميزه في البكالوريوس أو بحُكم علاقاته سيُقبل سوا نجح في الامتحان التنافسي أم لا!!.

السُجناء وأبناء الشهداء يُكرمون، وهذا حقهم، براتب مُجزي أو بقطعة أرض، ولكن (لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، فعلى الوزارة أن تتخلص من تعميماتها في الاستثناء الذي أخلَ بمستوى المؤسسات الأكاديمية وتميزها في حال مُقارنتها بمؤسسات بدول لم تكن لها دراية لا بالعلم ولا بالتعليم!!، ولكم في جامعات الخليج العربي درس وعبرة، ولكم في عُمان وقابوسها تعلم ودراية في تأصيل بناء الدولة علمياً وتربوياً، بل وحتى سياسياً، ولأ أقول دولة الإمارات التي كان يحلم الشيخ زايد يوماً ما أن تكون دولته شبيهة بما وصل له أهل البصرة من تمدن!!.

أذكر لكم من التاريخ حوادثاً تعرفونها، فالمستنصرية كانت مدرسة أهل العلم في العصر العباسي، فكان أهل الغرب يُخيطون (قاطاً) لـ (دُكمة) صنعناها نحن العرب والمُسلمين فعرفوا قيمتها في التجميل والخياطة المعرفية، ولم يكن من قبل عندهم (سكوبس) ولا (انباكت فاكتور)، لأن (اسكوبسنا) هو أحق أن يُتبع، و (انباكترنا) نموذج معرفي وعلمي يُحتذى.

(قل اعملوا فسيَر الله عملكم) و (العمل عبادة) ولكنها عبادة من نوع خاص تجعل من نفسك مثالاً يُحتذى، لأ أن تجعل من نفسك تابعاً تستجدي الاعتراف بكم مشاركات لا قيمة علمية لها... (كافي مو ملينه)!!.

لو كان علي الوردي اليوم يعيش بيننا لضحك على ما نحن فيه من بؤس وقصور تفكير، فالعلم لا يُبنى بتقليد أعمى، إنما العلم يبنيه أهله بعقل نقدي وقَاد نتحدث فيه عن تجاربنا في العلم والحياة ولا نستنسخ تجربة من مُجتمع تليق به التجربة ولا تليق بنا. لنترك دهشتنا بكل ما أنتجه الغرب، ولنكن بُناة حضارة لا أن نكون (ببغاوات) نُجيد ترديد ما يقوله الآخر، ولنتخلص من هيمنة "المثقف اللَاحوك" = (المُتفرنج) بعبارة علي الوردي، ذلك المثقف الذي لا يُتقن سوى ترديد ألفاظ واتباع لمناهج لها صلاحية توظيف بـ "تربة معرفية" أخرى، ولا صلاحية لها و نمواً ولا اخضرار لها في تربتنا. هذا لا يعني بأي حال من الأحول رفضاً لنتاج الآخر والافادة من رؤيته في خلق معارف علمية مُتقدمة، ولكن لا بنسخها كما هي، إنما بعبارة محمد عابد الجابري "تبيئتها" وفق مُقتضيات الحال وتغير الأحوال في مُجتمعاتنا بما لا يجعلنا نؤكد القول بتميز العقل الغربي على العقل الشرقي من جهة التكوين والنشأة، وكأن (التقدم) سجية في الغرب و(التخلف) يليق بأهل الشرق!!. 

على وزارة التعليم العمل بصورة جادة على الرُقي بمجلاتنا العلمية التي تُصدرها مؤسساتنا الأكاديمية، وأن يتخلص القيَمون على أمور التعليم والبحث العلمي من "التبعية" والقبول بالوصاية "الثقافية"، فما كان صالحاً للغرب لا مشروطية علمية ولا فكرية ولا ثقافية ولا اجتماعية بالضرورة أن يكون صالحاً لأهل الشرق.

(كافي مو ملينا)، سوي (بروفايل)، سوي (غوغل سكولر)، سوي ( أورسيد)، سوي (ريسيرجر كيت) ربما في كل مُنتجات الثورة المعلوماتية هذه فوائد جمَة، ولكن أن يعتمد الكثيرون هوامشاً من بحثي أو بحث آخر لا يعني أن هذا البحث مُهماً، فضع ضحكة هستيرية وانشرها ستجد آلافاً إن لم يكن ملاييناً يدخلون لمستوعبك البحثي هذا ليُشاهدوا ضحكتك، وهي ضحك على الذقون لا تعلم فيها لعلم ولا اتقان فيها لثقافة أو فنون!!.

هٌناك أغان هابطة وصلت مُشاهداتها لمئات الملايين، ولكن أغاني أم كلثوم ـ على سبيل المثال ـ لم تصل مشهاداتها لمئات الآلاف، فهل يعني هذا أن (محمد السالم) أو (نور الزين) أو (غزوان الفهد) صاحب أغنية (ودي أمك بطيارة) هُمَ أفضل من أم كلثوم لأن مشاهدات أغانيهم تجاوزت مئات الملايين!!.

كل وزير يأتي يؤكد أنه يتبى فكرة استقلالية الجامعة، ولكنه بعد حين يُلغي قرارات ويستحدث قرارات وهيأة الرأي لا حول لها ولا قوة تطبيقاً لمقولة (امحمد العريبي) في مجلس الأعيان "اموافج"، فالوزير السابق لغى نظام التحميل، وحينما باشر الوزير الجديد لغى قرار الوزير الجديد وأعاد نظام التحميل..(زين هيأة الرأي مو هي نفسها...وجميعهم رؤساء جامعات ومدراء عامون في الوزارة وهم ذاتهم من وافقوا الوزير السابق على مُقرراته، شحدى ما بدى وتغير الحال، وأي مُستجد استجد بين يوم وآخر، فتغيَر القرار)!!. هذا يعني أن لا رأي لهم!!، وهم هيأة رأي على قاعدة (شاورهم في الأمر فاذا عزمت فتوكل)، والوزير الحالي له رأي، وشاورهم  في الأمرـ ربما ـ ولكنه عزم فتوكل، وكل رئاسات الجامعات وعمادتها وأساتذتها التي لا استقلالية لهم خارج ارادة الوزير إنما مهمتهم تنفيذ ما قرره معالي الوزير من دون ابداء رأي وإن كان أغلبهم من (أهل الرأي)، هكذا يوصفون (هيأة الرأي) !!.

رغب الوزير بحُكم اطلاعه على تجارب جامعات (أنكلو أورو أمريكية) بتطبيق نظام المُقررات، ونحن قد حدَثنا نظامنا السنوي ليكون نظاماً فصلياً، ولا زلنا لم نُكمل تخريج دفعة بنظامنا السنوي المعمول به من قبل والذي تزامن معه تطبيقنا للنظام الفصلي، ولأن الوزير على دراية بأهمية (نظام المُقررات) فقد فضله على النظامين السابقين، فأمر بتطبيقه على (التو واللحظة) في السنة القادمة، ولم يكن ـ كما أظن ـ لهيأة الرأي رأي، فسارع رؤساء الجامعات بالعمل على تنفيذ أمر الوزير ودائرة البحث والتطوير في الوزارة وجهاز الاشراف والتقويم العلمي فيها أصدرتا الأوامر لتشكيل اللجان لتطبيق (نظام المُقررات) هذا، وعلى عجل أكملت اللجان أعمالها من دون دراسة لامكانية العمل بهذا النظام واقعياً، فسيُصار العمل في جامعاتنا هذه السنة بنُظم ثلاثة في الوقت ذاته: نظام سنوي يشمل المرحلة الرابعة، ونظام فصلي يشمل المراحل الثلاث، وفي السنة القادمة نعمل على المرحلة الأولى بنظام المُقررات!!.

لم يأخذ (أهل الرأي) بنظر الاعتبار عمل اللجان الامتحانية، فكل مجموعة منها تعمل على "شيتات" مرحلة بنظام مُختلف!!.

وكان بالامكان التريث بتطبيق قرار (نظام المُقررات) لسنة قادمة بعد أن تتخرج الدفعة في المرحلة الرابعة التي درست وفق النظام السنوي ليكون لدينا نظامان: نظام الكورسات، ونظام المُقررات.

وأظن ولست بجازم أن لا أحد من (هيأة الرأي) قد أوصل هذه الفكرة لمعالي الوزير، وربما أكون مُخطئاً، ويكون هُناك من تحدث مع الوزير حول اشكالات التطبيق لنظام المُقررات وفق ما شرحت ووضحت، إن كان هُناك من شرح وأبان لمعالي الوزير ولكن الوزير أصرَ على تطبيق ثلاث أنظمة دراسية في سنة واحدة، وإن كان ذلك كذلك فالمُشتكى لله وحده!!.

معالي وزير التعليم العالي المُحترم، أعرف أنك أستاذ جامعي كُل غايتك الارتقاء بالتعليم العالي ولا أشك بصدق نواياك لترصين التدريس والبحث العلمي، ولكن مقاسات أمم سبقتنا في التقدم ومحاولة اتباعها (حذو النعل بالنعل) كما يُقال إنما فيه تغييب لمقدرة العقل العراقي في الفهم المُغاير للمعرفة والوجود وعلاقة الإنسان بهذا الوجود.

ربما يُغرينا بعض المُدَعين بتقليد واتباع، ولكن التقليد والاتباع لا يخلق عقلاً يُفكر بحرية، والأمر متروك تقديره لك من قبل ومن بعد.

استعار الغرب فكر ابن سينا والغزالي ومن بعدهما ابن رشد في رؤيته الفلسفية التي أوَلها الغرب وأسس عليها تنويره في ما سُميَ بـ "الرُشدية اللاتينية" فكان ابن رُشد العربي المُسلم منارة علم وتنوير، ولنا القدرة أن نخلق لنا مستقبل أفضل خارج التقليد والاتباع وفق مقولة (فاليري) "الذئب مجموعة خراف مهضومة"، فلولا الخراف لم يكن الذئب ذئباً، ولكن الذئب ليس خروفاً، وهكذا هو الفكر، فهو هضم واستيعاب وتمثل وتأويل لأفكار سبقت وأفكار عباقرة حضرت، والناجح هو من يتمكن من هضمها وتمثلها لا اعاددة طرحها بقول مماثل لما أنتجه آخرون من ثقافة مُختلفة أو مُغايرة.

أقول قولي هذا حرصاً لا رغبة بالنقد، وإن كان في النقد تقويم ومحاولة لجعل الحياة أفضل، فكل الأمم التي نهضت وارتقت إنما كان النقد أداتها في تقييم تجاربها السابقة والكشف عن مواطن الضعف فيها.

 

ا. د. علي المرهج – الجامعة المستنصرية       

 

في المثقف اليوم