قضايا

لماذا تنتصر الدول الضعيفة علي الدول القوية بحرب العصابات؟! (2)

محمود محمد علينعود للجزء الثاني من مناقشة بحث "أندرو ماك عن "لماذا تخسر الدول الكبري الحروب؟، حيث يمكن القول بأن دراسة "أندرو مارك" كان لها تأثير كبير علي صناع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نبهتهم إلي تغيير استراتيجيات وتكتيكات نمط الحروب، إذ بدأوا يلجأون إلي نوع جديد من الحروب، وهو الحرب بالوكالة أو ما يسمونها حروب الجيل الرابع، وهي حروب تستهدف تحطيم القدرات العسكرية عن طريق نشر الفتن، والقلاقل، وزعزعة الاستقرار، وإثارة الاقتتال الداخلي، بحيث تقوم تلك الحروب على تفتيت الأمة من الداخل، فالجيش ينقسم على نفسه، والشرطة والقضاء تكون ضد الجيش وضد بعضه ؛ أي عملية شرذمة للجميع واقتتال داخلي بحيث تنهار الأمة من الداخل.

ومن هنا حروب الجيل الرابع هي عبارة عن استراتيجية تم وضعها خصيصا لإفشال الدول، ويتم تنفيذها ببطء عبر العمل على إنهاك الدول المستهدفة، والنخر فيها من الداخل إلى أن تتآكل وتصاب بالعجز، وينتهي بها الأمر إلى الركوع والخضوع، لإرادة وهيمنة الدولة المستهدفة. لذلك حرب الجيل الرابع يعرفها الخبراء، بأن من ضمن أهدافها، إشعال الفوضى في الدولة المستهدفة، لتتحول إلى دولة فاشلة، يسهل زعزعة استقرارها، وإن حرب الجيل الرابع لا يمكن إشعالها، إلا باستخدام وكلاء محليين، ويكون ذلك إما بترتيبات للتعاون مع قوى خارجية، سواء عن وعي بما تريده هذه القوى، أو أن تكون المنظمة الإرهابية جاهلة بالهدف الحقيقي للجهات الأجنبية، وغافلة عن أن ما تفعله، يخدم في النهاية هدفاً استراتيجياً أعم وأشمل، وأن هذه المنظمات مجرد أدوات للتنفيذ .

ويستخدم في هذه الحروب ما يُعرف بحرب المعلومات وتعتمد على شقين : الأول دفاعي يحمى أنظمة الدولة، والثاني هجومي مُوجه ضد أنظمة الدولة المعادية، وتستخدم الحرب، والعمليات النفسية، والاستخبارات، ومهاجمة الوسائط، والهاكرز، وأعمال التجسس، وزرع العملاء إلي أن يتكون مناخ عدائي بين أطراف الأمة ومؤسساتها ونسيجها الوطني ليبدأ الصراع الداخلي.

كما أن حروب الجيل الرابع تمثل “حالة من الحرب تمتاز بدمويتها وطول مدتها وتعدد جبهاتها، ويصعب فيها التفريق بين المقاتلين وغير المقاتلين، والجندي، والمدني، والسياسي، والحرب”، وهناك من يعتبرها ” حرباً تقوم إرغام العدو على تنفيذ إرادتك – أي حرب بالإكراه، والإكراه يقوم على مصادرة إرادة الخصم بغض النظر عن الوسائل، والأساليب، والأدوات المستخدمة في الوصول إلى هذه النتيجة، لذلك يمكن الوصول إليها دون حاجة إلى استخدام جيوش وأسلحة وقوات كبيرة ؛ بمعنى أنه يمكن الوصول إليها دون اللجوء إلى استخدام النيران والسلاح “.

فمنذ نهاية حقبة الرئيس بوش الابن، بدأ الحديث عن جيل جديد من الحروب، يغنى عن الجيوش والطائرات والمدافع، حيث يتم تسخير إرادات الغير في تنفيذ مخططات العدو، ومع بداية القرن الحادي والعشرين، تحددت ملامح هذا الجيل في بعض دول أوربا الشرقية المعادية للولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك في بعض الدول في بعض البلاد العربية، حيث تم التخطيط لما يسمي بالثورات الملونة وثورات الربيع العربي، حيث تقوم الولايات المتحدة بالتخلي عن الأنظمة بعد العمل على إسقاطها شعبيا، واستباق الخروج المفاجئ لهذه الأنظمة في ثورات شعبية، تأتى بأنظمة وطنية لا تخدم المصالح الأمريكية، وتفجير هذه الثورات ودعمها، وفق حسابات دقيقة لتنصيب أنظمة جديدة لا تخدم الولايات المتحدة.

والغرض من هذه الثورات ليس إصلاح حال تلك الدول، وإنما هو زعزعة الاستقرار، وزعزعة الاستقرار لدولة ما له عدة أشكال وأنواع، كما يمكن الوصول إليه بعدة طرق، وأساليب تختلف عن بعضها البعض؛ ومن أبرز هذه الأشكال والأساليب؟

1- العمل على أن تصبح الدولة دولة شعوبية، حيث يمكن استغلال الاختلافات الدينية والمذهبية، والاختلاف في العرق والأصول والمنابت، من أجل تقوية إشعال فتيل وجذوة التعصب.

2- من خلال العمل على تحويل مناطق وأراضي الدولة المعنية إلى مسرح للجريمة من قتل، وخطف واغتيال، وقنص تقوم بها عصابات ومجموعات مسلحة ومتمردة، الأمر الذي يخل بأمن المواطنين ومؤسسات الدولة على اختلاف الدولة على اختلاف أنواعه، وينال من السلطة المركزية، وبالتالي فتح الطريق بسهولة أمام تحويل الدولة إلى دولة فاشلة .

3- يمكن استخدام بعض مواطني الدولة نفسها لتحقيق هذا الهدف، عبر تضليلهم وإغرائهم بالمال وتقديم السلاح لهم بعد تدريبهم عسكرياً وشحنهم بأفكار متطرفة وحاقدة، وهذا ما يغنى عن الحاجة إلى تحريك قوات نظامية أو جيوش أو قطاعات عسكرية من مكان إلى آخر، كذلك يمكن أن يشترك في هذه الأعمال من المواطنين: الرجال، والنساء، وحتى الأطفال.

4- يمكن استخدام ما يسمى بالطابور الخامس في هذا الإطار، وهذا الطابور هو الذي يملك استعدادات للتعاون مع أي جهة ضد دولته مقابل مكاسب معينة يحصل عليها مالية أو غيرها .

وعندما يتحقق مثل هذا الهدف المنشود تصبح الدولة فاشلة، وبالتالي تكون مهيأة للتدخل الخارجي بكل أشكاله ودرجاته السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والعسكرية، والأمنية المخابراتية، حتى يمكن أن تكون مهيأة لما هو أكثر، لأن الهدف الذي يرتكز على شل إرادة الخصم، وجعلها غير قادرة على الاستقلال، وغير قادرة على امتلاء القدرة اللازمة لاتخاذ القرار الوطني المستقل، يجعلها فريسة للتدخل، والإملاء، وعرضة للارتهان للأجنبي أو بالأحرى للآخر .

إذن في مثل هذه الحالة التي يكون فيها المجتمع في أية دولة منقسما على نفسه، طائفياً أو عرقياً، ومذهبياً، ودينيا وتسوده الخصومات السياسية، والاختلافات المتعددة الأوجه، يكون الوصول إلى الدولة الفاشلة أسهل بكثير، ويقود بالتالي إلى إسقاط هذه الدولة بشكل نهائي.

كذلك توصف حروب الجيل الرابع بأنها تمثل حرب اللاعنف، وهي حرب يراد بها إسقاط الانظمة بلا سلاح مباشر عبر المظاهرات، والإضرابات، والاعتصامات، والعصيان المدني، وتعطيل سير الحياة اليومية، وإقامة حكومة بديلة، ومحاصرة المقرات السيادية للدولة واحتلالها سلمياً، هي حرب سياسية محضة، ليس فيها جانب عسكري حرب نجحت في أوروبا الشرقية وابتدأت في النجاح في الدول العربية، التي قامت فيها ثورات، لكن الأنظمة الدكتاتورية استطاعت تحويل وجهة هذه الحروب إلى الجيل الرابع (حروب الارهاب والحروب الأهلية).

ويعد الإعلام أهم أسلحة حروب الجيل الرابع على الإطلاق، وذلك باستخدام أجهزة الإعلام التقليدية مثل قناة الجزيرة أو تجنيد الإعلاميين أنفسهم لقيادة الرأي العام والتأثير عليه وغيرها من القنوات وأجهزة الإعلام الجديدة، مثل مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف تشتيت الرأي العام، وتوجيهه والسيطرة عليه، والتجسس عليه ولاكتشاف من يمكن تجنيدهم كعملاء من خلال أفكارهم التي يطرحوها على مواقع التواصل، وقد تم تجنيد العديد من منظمات المجتمع المدني، والمعارضة، والعمليات الاستخبارية، لتشمل جميع الأدوات التي من شأنها زيادة النفوذ الأمريكي في أي بلد، لخدمة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وسياسات البنتاجون .

ولذلك تستخدم وسائل الاتصال المختلفة كإحدى أدوات حروب الجيل الرابع وما تلاه من أجيال، وتعمل الدول المُحاربة على تجنيد أكبر عدد من إعلاميي وصحفيي الدول المستهدفة، وممن يمتلكون القدرة على التأثير في الجهور وصناع القرار،وأصبح صناعة الخبر وبث الشائعات والفتن وتضخيم أحداث بعينها في مقابل تجاهل خبر آخر أمراً يسيراً، ويستغل الإعلام في التأثير على مواطني الدولة المستهدفة وكسب تعاطفهم مقابل التنفير من الحرب والنظام الحاكم، الأمر الذي من شأنه زعزعة أركان الدولة وجعل الإعلام أداة أكثر فتكاً من الجيوش العسكرية .

وازدات الأهمية التي تلعبها شبكات التواصل الاجتماعي في هذا الصدد، لتميزها بسهولة الاستخدام وسرعة الانتشار ومساهمتها في نشر الأفكار عالميا، وتوفير مادة معلوماتية – كتابة، أو صوت، أو صورة، أو فيديو – والتي قد تكون مغلوطة ومفبركة لتوجيه الأذهان، نحو قضية ما وكسب التعاطف، لصالح طرف بعينه،استغلت ولازالت تستغل الولايات المتحدة الأمريكية سيطرتها على الإنترنت وجميع وسائل التكنولوجيا الحديثة في إحكام قبضتها على العالم ومحاصرة من يعارض مصالحها، فأهم وأغلب محركات البحث، وشبكات التواصل الاجتماعي، والتطبيقات الالكترونية، ومشغلات الهواتف الذكية أمريكية الجنسية .

في كل ما تقدم من استنتاجات يمكن الجزم بأن أمريكا أصبحت من خلال الإعلام قادرة علي إسقاط أي دولة من خلال التكتيكات التالية:

1- أمريكا تسيطر علي وسائل الإعلام الجديد من الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، وجميع وسائل التكنولوجيا الحديثة، حيث إن أهم محركات البحث الإلكتروني أمريكية، وجميع شبكات التواصل الاجتماعي أمريكية وجميع البرامج والتطبيقات الإلكترونية أمريكية وجميع مشغلات الهواتف الذكية.

2- أمريكا تتحكم وتسيطر علي أكبر المؤسسات الإعلامية التقليدية ووكالات الأنباء العالمية الرئيسية حول العالم حيث تتحكم في صناعة الخبر وتوجيهه أيضا.

3- أمريكا أصبحت النموذج العالمي للشباب، بواسطة السينما، والبرامج الفنية، وأصبحت النمط للحياة العصرية أو ما يسمي بــ (Life Style) .

4- أمريكا من خلال عولمة العالم حسب معاييرها ومقاييسها وقوانينها، أصبحت السلطة التشريعية للعالم أو بما يسمي العولمة، وبالتالي أخضعت المنظمات الدولية بما فيها منظمات الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي ..الخ – حسب مزاجها، وقوانينها، ومصالحها.

5- كل منظمات المجتمع المدني العالمية، انبثقت من أمريكا، وتخضع للقانون الأمريكي وتتصرف حول العالم حسب المعايير الأمريكية وقوانينه.

6- أمريكا تمول قوي المعارضة المختلفة حول العالم في أمريكا وخارج أمريكا وتستخدمها بمزاجها وحسب مصالحها وفي الوقت المناسب الذي تختاره .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم