قضايا

هل الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة (1)

محمود محمد عليإذا كانت نشأة الفلسفة قد صارت منذ عصور بعيدة، مشكلة بين المشكلات التي تدرسها الفلسفة، في محاولة للإجابة عن السؤال: أين نشأت؟ عند اليونان أم في بلاد الشرق القديم، فقد انقسم الباحثون حيالها إلي فريقين : الأول يؤيد النشأة في بلاد اليونان، ويرى أن الشرقي لم يكن سوى فكر لاهوتي من ألفه إلى يائه . أما الآخر فقد رأى أن هناك فلسفة شرقية خاصة ترتبط بالدين أحياناً وتنفصل عنه أحياناً أخرى .

ولقد كان "أرسطو" أول من ردها إلى بلاد اليونان، عندما ذهب إلى القول بأن "طاليس هو مؤسس ذلك الضرب من التفلسف" - يقصد الفلسفة الطبيعية- وهكذا جعل الفلسفة تبدأ بالمدرسة الملطية -طاليس ومدرسته في القرن السادس قبل الميلاد ؛ في حين أن "ديوجين اللايرتى"، أول من أشار إلي أن الفلسفة نشأت عند الشرقيين القدماء.

وهكذا ظهر رأيان متعارضان، انعقدت السيادة للرأي الأول طوال العصور القديمة والعصور الوسيطة، واستمر حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين – من "أرسطو" في القرن الرابع قبل الميلاد حتى "برتراندرسل" في القرن الماضي؛ ثم ظهرت بحوث جديدة كشفت عن حضارات مزدهرة، وأفكار جديدة مما غير الفكرة القديمة التي غيرت الفكر الديني في حضارات الشرق القديم .

ومن هذه البحوث كتاب: "التراث المسروق: الفلسفة اليونانية- فلسفة مصرية مسروقة " للباحث الأمريكي جورج جي. إم. جيمس .

صدر الكتاب عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة (بجمهورية مصر العربية) وترجمه إلى العربية الكاتب المصري "شوقي جلال"، الذي وصف كتاب جيمس بأنه صدمة لأنه يكشف "أسطورة كبرى ومؤامرة حكمت التاريخ واستبدت بفكر الإنسانية، وهي جزء من سياسة عالمية امتدت قرونا" مشدداً على أن مثل هذه الأساطير لبست ثوب الحقائق وأصبحت مرجعاً يُستشهد به ويكتسب قدسية أكاديمية؛ وخاصة أن "جميع الغزاة" ناصبوا الثقافة المصرية "العداء القاتل" ولم ينتموا إلى مصر تاريخاً أو مجتمعاً، ولهذا تعمدوا تجفيف منابع الثقافة المصرية المادية والروحية بتدميرها أو نهبها، حتى لو تخفوا وراء أقنعة أيديولوجية باسم الحضارة .

ويقول جورج جيمس في هذا الكتاب المثير للجدل:" أن فلاسفة أثينا، وعلى رأسهم سقراط وأفلاطون وأرسطو، ليسوا إلا ناقلي قشور معارف مصرية بطريقة ملئها التلفيق والتضليل". ويستند جيمس وفقاً لجريدة "الحياة" اللندنية إلى المقارنة بين فكر مدرسة منفيس المصرية التي ظهرت إلى النور قبل أربعة آلاف سنة من الميلاد، وفكر ما يسمى "المدرسة اليونانية"، الذي يعود إلى ستة قرون فقط قبل الميلاد. ويؤكد المؤلف أن سقراط "وصل إلى درجة الأستاذ والمعلم بحق، ليس لأنه قدم أفكاراً مهمة، ولكن لأنه امتثل للتعاليم المصرية في البحث عن الخلاص".

كما ذهب جورج جيمس إلى أنه "يستحيل أن يضع أرسطو وحده أكثر من ألف كتاب في شتى المعارف، في حين أن أفلاطون كان بحسب ما قيل فيلسوفاً لا علاقة له بالعلوم، فمن أين له أن يعلّم أرسطو ما لم يتعلمه هو أو يتحدث به؟.

ويرى جورج جيمس أن فيثاغورس "هو أفضل الفلاسفة الذين قدموا بعضاً من الفكر المصري في اليونان، حتى أن جميع الفلاسفة الذين أتوا من بعده عمدوا إلى محاكاة أفكاره . وفي حين يشك المؤرخون في نسبة كتاب الجمهورية الى أفلاطون، فإن جورج جيمس يرى أنه كان معروفاً قبل أفلاطون بزمن طويل، فالكتاب كان ذائع الصيت وينسب إلى بروتاجوراس الذي عاش من 481 الى 411 ق.م.، وكان تلميذاً لديموقريطس الذي لم يتحدث مطلقاً في النظام التعليمي والحكم الأبوي، ومن ثم فكتاب الجمهورية ليس لأفلاطون ولا لبروتاغوراس لكنه لمصدر آخر أصيل في ثقافته.

إن كتاب التراث المسروق" يعد واحداً من الكتب التي تحارب فكر المركزية الأوروبية القائل :" إن اليونان أصل العلوم الحديثة، وإن الغرب نشأ على فكر أسلافهم، ومن ثم فهو مركز ومحور كل المعارف والعلوم، وإن سواهم ليسوا إلا برابرة لا يحق لهم بحسب تكوينهم الطبيعي إلا أن يكونوا تابعين، ومن ثم فالمؤلف يطالب في الفصل التاسع من الكتاب وعنوانه "الإصلاح الاجتماعي" بشطب اسم أرسطو والفلاسفة اليونانيين من الكتب المدرسية، وردّ الاعتبار إلى المصريين.

وأوردت وكالة الأنباء البريطانية "رويترز" تأكيد الكاتب أن "الفلسفة المصرية غير المكتوبة والتي تمت ترجمتها إلى اليونانية القديمة هي وحدها فقط التي وجدت هذا المصير البائس. تراث سرقه الإغريق"، ويرى أن الإسكندر الأكبر الذي غزا مصر عام 332 قبل الميلاد اغتصب مكتبة الاسكندرية "ونهبها واصطنع أرسطو مكتبة لنفسه من الكتب المنهوبة. ويقول جيمس أن "التضليل في حركة الترويج للفلسفة اليونانية يبدو سافراً وفاضحاً إلى أقصى مدى عند الإشارة عمداً إلى أن نظرية المربع القائم على وتر المثلث قائم الزاوية هي نظرية فيثاغورس، وهو زعم أخفى الحقيقة قروناً عن أعين العالم...إن المصريين هم الذين علموا فيثاغورث واليونانيين الرياضيات التي عرفوها" بعد أن أُتيحت لهم فرصة التعلم من الثقافة المصرية.

ولعل من المفيد قبل عرضنا لهذا الكتاب ومحتواه – أن نشير في عجالة إلى أهم التوجهات الضابطة والحاكمة في مسيرة المؤلف الفكرية عبر فصول الكتاب العديدة.

وأبرز هذه التوجهات – في نظرنا – هو اعتقاد المؤلف بأن الفلسفة اليونانية القديمة مستمدة أصلاً من الفكر المصري القديم، وهو يدعم هذا القول بوثائق ودلائل جديدة وهي اعتراف اليونانيين القدماء أنفسهم أنهم تتلمذوا علي أيدي الكهنة، أي العلماء المصريين، إذ لم يكن هؤلاء الكهنة رجال دين اختصوا بأداء شعائر وطقوس فحسب، بل كانوا علماء لهم تخصصات متعددة: دين وقلك وطبيعيات وهندسة ورياضيات وطب .... الخ .

والتوجه الثاني : ويتمثل في أنه لم تكن نشأة الفلسفة نشأة يونانية خالصة، ولم يبدأ اليونانيون في اكتشاف ميادين الفلسفة من فراغ كامل، بل إن الارض كانت ممهدة لهم في مصر التي كانت تجمعهم بها صلات حربية وتجارية وثقافية . والتوجه الثالث : ويتمثل في أن نظام الأسرار المصري قد كان له تأثير هام في نمو كثير من المعارف الفلسفية والعلمية، وحسبنا أن نذكر هذا النظام في عمليات البناء الهائلة التي تحققت تلبية لمطالب دينية كالأهرامات والمعابد الضخمة، وكذلك الحاجة إلى تخليد الانسان والرغبة في قهر الاحساس بفنائه التى حفزتهم إلى اكتساب المقدرة الخارقة على التحنيك والايمان بالتنجيم، ومعرفة الطالع من التطلع إلى النجوم الذى أتاح لبعض الناس في تلك العهود القديمة أن يقوموا بملاحظات وعمليات رصد مرهقة أضافت إلى رصيد الإنسانية في مجال الفلسفة والعلم قيمة لا تقدر. التوجه الرابع : ويتمثل في هدم المؤلف لتلك المقولة التي استشرت في قلوب وعقول كثير من الباحثين والمؤرخين الأوربيين، وهى أن الفلسفة اليونانية خلق عبقري أصيل جاء على غير مثال، وهو يدحض هذه المقولة في أكثر من موضع من كتابه هذا الذى بين أيدينا، وذلك حين يؤكد بأن القول بأن اليونانيين قد أبدعوا فجاءة ودون سوابق أو مؤثرات خارجية حضارة عبقرية في مختلف الميادين، ومنها الفلسفة هو قول يتنافى مع المبادئ العلمية التي تؤكد اتصال الحضارات وتأثرها ببعضها البعض، بدليل شهادات فلاسفة اليونان التي لا يمكن تجاهلها، فقد شهد أفلاطون الذى كان في الوقت ذاته عالماً ورياضياً بفضل الحضارة الفرعونية؛ وهناك روايات كثيرة عرضها "جورج جيمس" في كتابه تحكى عن اتصال كبار فلاسفة اليونان وعلمائهم ومنهم أفلاطون ذاته بالمصريين القدماء وسفرهم إلى مصر وإقامتهم فيها طويلاً لتلقى العلم .

على أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف : إحداها نفسية، والثانية أخلاقية، والثالثة عقلية .

أما الأولى من هذه النزعات، فتتمثل في أن مؤلف الكتاب الذى أيدينا أمريكي أسود ينتمى إلى أصل أفريقي، وهو يحمل هموم السود في أمريكا ومعاناتهم من أثر التفرقة العنصرية بين الرجل الابيض والرجل الأسود، وقد ظهر كتابه هذا الذى بين أيدينا في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، وبالتحديد سنة 1954م، أي مع مستهل الحركة العالمية للتحرر الوطني ونهضة المستضعفين من الأمم واستعادة الوعى بالذات القومية في أفريقيا وآسيا شرقاً وغرباً، بل والسود في أمريكا، واتجهت هذه البلدان جميعها إلى البحث عن تاريخها الشفاهي والمسطور، وانعقدت مؤتمرات إقليمية ودولية لهذا السبب .

كانت القضية أمام شعوب أفريقيا هي: هل حقاً لم تسهم شعوب أفريقيا في الحضارة الإنسانية التي يتربع على قمتها الآن الرجل الابيض ؟ أم أن نشاهده هو دورة ومرحلة تاريخ تطور الحضارات المتعددة الأصول والمنابع والمسارات والحوارات بكل ما انطوت عليه هذه المسارات من صراعات أخذت أحياناً صورة حروب وحشية ومحاولة إلغاء وإفناء الأخر، وأحياناً أخرى صورة تفاعلات أسهمت في الارتقاء الحضاري للإنسانية جمعاء .

ومن هنا جـَد الأفارقة السود المغتربون فى أوربا، ومواطنو أمريكا، ناهيك عن جهود الأمم الافريقية ذاتها، لاستعادة ذاكرتهم التاريخية واستكشاف روابطهم الحضارية ضمن جهودهم لتأكيد هويتهم، ومن ثم لم يكن غريباً أن يدعى "جورج جيمس" الانتساب إلى حضارة مصر، أو أن يرى الحضارة المصرية رمزاً أفريقيا، ولكن الشئ الهام، والذى يعنينا هنا أنه ضرب بمعول قوى أسطورة أوربية غرسها الرجل الأبيض في الأذهان وصدقناه وأوضحت إحدى مسلمات حياتنا الفكرية، ونعنى بذلك أسطورة أن بلاد الاغريق هي مهد الفكر الفلسفي .

أكد "جورج جيمس" على الرغم مما يشوب نهجه من حماس واندفاع، أو نزق لا يؤثر على جوهر القضية، أن الفلسفة اليونانية القديمة مستمدة أصلا من الفكر الفلسفي المصري القديم .

وأما النزعة الأخلاقية، فتبدو لنا بجلاء في مواضع عديدة من الكتاب يعزف فيها المؤلف لحن الوفاء للتراث المصري القديم الذى تنكر له الكثيرون، ومن ناحية أخرى فالمؤلف يحاول إرساء دعامة علاقات أفضل بين الأعراف عن طريق بيان حقيقة إسهام الحضارة الافريقية في الحضارة الإنسانية، فالكتاب فلسفة وفاء وتحرير، يرد إلى أهله مؤكداً ذلك بالوثائق والأسانيد، ويحرر الشعوب السمراء من عقدة الشعور بالدونية، كما يحرر الشعوب البيضاء من عقدة استعلاء كاذبة وهمية، ثم دعوة إلى الشعوب السوداء لكى تنهض تأسيساً لاسترداد حق تاريخهم العريق، واجتهاداً للحاق بركب العصر الحديث .

وأما النزعة العقلية، فتبدو واضحة من خلال وأفكاره النقدية واحتفائه بمنطق العقل في كل ما يطرحه من قضايا وإشكاليات، ويبدو هذا واضحاً في قدرته على اختبار الآراء السائدة، سواء على المستوى الشعبي العادي أو في الأوساط العلمية أو كليهما معاً بذهن ناقد وعدم انقياده وراء سلطة القدم أو الانتشار أو الشهرة ولا يقبل إلا ما يبدو له مقنعاً على أسس عقلية وعلمية سليمة، ونعتقد أن المؤلف بنزعته هذه يحقق درجات عالية من المصداقية في كل ما يقدمه لنا في هذا الكتاب، من حيث تنطلق هذه النزعة أساساً من رفضه لفكرة المعجزة اليونانية لكونها في مجملها مدموغة بالسطحية،داعمة للفكر الرجعى، داعية إلى الجمود والانغلاق، التى لن تثمر إلا تخلفاً ونكوصاً يضاعف أبعاد المسافة بينها وبين الحقيقة الموضوعية.

إن هذه النزعات وما صاحبها من توجهات قد أسهمت فى تشكيل وصياغة رؤى المؤلف وتنظيراته التي ضمنها كتابه الذى بين أيدينا .

وإذا كنا نتفق مع المؤلف في بعض رؤاه وتنظيراته ونشاركه همومه، ونصدق معه علي تشاؤمه من التفرقة العنصرية، فإننا نختلف معه في بعض آرائه التي تمثل جانباً من محتوي هذه الرؤي، وفي درجة تشاؤمه نتفق معه من منظور عام فيما نعانيه من المسلمات الفكرية التي غرسها الرجل الأبيض في محاولاته للسيطرة علي الشعوب السوداء عن طريق محو ثقافتهم وطمس تاريخهم، ونصدق معه في قوله بأن نشأة الفلسفة لم تكن نشأة يونانية خالصة .

لكننا نختلف معه في تحامله الشديد، بل هجومه العنيف علي الفلسفة اليونانية باعتبارها مسروقة من الفلسفة المصرية القديمة، فليست كل الفلسفة اليونانية فلسفة تلفيقية، وليس كل الفلاسفة اليونانيون لصوصاً. وإن المؤلف لم يضع في حسبانه ظاهرة الـتأثير والـتأثر . وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم