قضايا

كيف سقط الاتحاد السوفيتي بحروب الجيل الرابع؟! (5)

محمود محمد عليفي هذا الجزء الخامس من حديثنا عن كيفية سقوط الاتحاد السوفيتي بحروب الجيل الرابع نقول:  في عهد الرئيس "أنور السادات"، كانت مصر تمثل لاعباً رئيسياً ثانياً، فقد نظمت نقل المتطوعين المصريين إلي أفغانستان، بمن فيهم الإخوان المسلمين، الذين شكلوا نسبة كبيرة من المقاومة المناوئة للسوفييت . وبعد "اغتيال دعاة الإسلام السياسي للسادات في 1981، قام بعض من هؤلاء الذين سجنوا مؤقتاً، بهذه الرحلة لاحقاً، ومنهم "محمد عاطف"، الذي أصبح معاوناً لصيقاً لـ"ابن لادن"، وحارب كثيرون من دعاة الإسلام السياسي المصريين المتشددين مع حزب حكمتيار الإسلامي" .

وتم تنظيم شحنات الأسلحة المقدمة إلي المتمردين الأفغان ونقلها من خلال باكستان، خاصة عن "طريق جهاز المخابرات الباكستاني، وفي اجتماع عقده الجنرال "ضياء الدين" مع "بريجينسكي" في يناير 1980، أصر علي ألا تقدم وكالة المخابرات المركزية إمدادات مباشرة للأفغان، بغية الإبقاء علي سيطرة باكستان علي العملية؛ ومن بين الكميات الضخمة من الأسلحة المصدرة إلي باكستان، بافتراض توزيعها من هناك علي الجماعات الإسلامية، باعت القوة الباكستانية نحو الثلث منها في السوق السوداء، ولم تحصل مطلقاً إلي متلقيها المقصودين، ومن 1983 إلي 1987، ارتفعت الشحنات السنوية من الأسلحة من 10 آلاف إلي 65 ألف طن" .

وقد جري تنظيم المقاومة الأفغانية في سبع مجموعات أساسية، عرفت باسم "بيشاور"، علي اسم مدينة تقع في شمال غربي باكستان؛ حيث تمركزت في قواعد، وكانت أهم أربع جماعات جميعها من المتشددين الجهاديين، الذين يؤمنون بالحرب المقدسة والتزموا ببناء مجتمع إسلامي، وقد أسماها أحد المؤرخين بأنهم " الإخوة  الوهابيون"- إذ تأثرت بأيديولوجية الإخوان المسلمين (الإخوانية) والايديولوجية المحافظة بصورة مغالى فيها للسعوديين (الوهابيين). وانقسم الحزب الإسلامي إلي فصيلين، "أحدهما يقوده "قلب الدين حكمتيار"، الذي كان قد انشق علي جماعة رباني الإسلامية، وهيمن عليها الإخوان المسلمون، وكانت هذه هي أقوي الفصائل الباكستانية وتلقت أكبر حصة من المعونة الخارجية؛ خاصة من جهاز المخابرات الباكستاني، والجماعة الإسلامية الباكستانية. وكان الفصيل الثاني من الحزب الإسلامي بقيادة "يونس خالص"، وهو مُلا وعالم كان يبلغ من العمر 60 عاماً، وكان من بين قواده العسكريين "جلال الدين حقاني" و"عبد الحق"، ثم كانت هناك الجماعة الإسلامية لـ" برهان الدين رباني" الذي كان "أحمد شاه مسعود" هو قائده العسكري في الميدان. وكانت الجماعة الرابعة هي الاتحاد الإسلامي الذي يقوده "عبد الرسول سياف"، وهو وهابي له ارتباطات بالسعودية، التي قدمت معظم دعمها لسياف إلي جانب حكمتيار؛ وكان سياف هو الذي ذهب معه بن لادن وكذلك "خالد شيخ محمد"، مهندس 11 سبتمبر، إلي المعركة أولاً" .

وتم إلحاق المتطوعين الإسلاميين غير الأفغان بهذه الجماعات، وانضم معظمهم إلي حكمتيار وسياف، وتتباين تقديرات من تدربوا في أفغانستان وحاربوا فيها بصورة واسعة، من 25 إلي 85 ألفاً. وعلي الرغم من أن إسهامهم في المجهود الحربي ضد المحتلين السوفييت كان كبيراً في بعض الأوقات، فإنه لم يكن له شأن مقارنة بالقوات الأفغانية نفسها، التي وصل عددها إلي 250 ألف في كل الأوقات. وكان المنظر الرئيسي للمتطوعين " الأفغان العرب" هو "عبد الرحمن عزام"، وهو أخ مسلم فلسطيني وأستاذ في الجامعة لقي ترحيباً في السعودية في الستينات، وأثر التعليم الذي قام به في جدة علي "أسامة بن لادن". "وكان عزام قبلاً مسئولاً عن التعليم في رابطة العالم الإسلامي، التي أرسلته إلي إسلام أباد في 1980 للتدريس في الجامعة الإسلامية الدولية، وكانت هي نفسها تمول جزئياً من قبل الرابطة الإسلامية ويشرف عليها الإخوان المسلمون، وفي 1984، انتقل "عزام" إلي بيشاور بعد أن حصل علي موافقة الرابطة لفتح فرع هناك، وسمح له هذا بأن يقيم مكتباً للخدمات لتنظيم قوة المتطوعين المجاهدين، وإدارة أموالها ونشر فكرة النضال الدولي المسلح. وقد أقيم مكتب بيشاور بمساعدة الجماعة الإسلامية الباكستانية وموله أسامة بن لادن في البداية إلي جانب هبات كبيرة من السعودية. وأنفق المكتب 200 مليون دولار من المعونة القادمة من الشرق الأوسط ومن الغرب، أساسهاً أمريكا وبريطانيا، المكرسة للجهاد في أفغانستان، وغالباً ما اعتمدت جهوده في مجال التجنيد علي شبكة مكاتب الإخوان المسلمين" .

هكذا تم إعداد أفغانستان من قبل واشنطن لحرب مروعة دامت 12 عاماً ضد الاتحاد السوفيتي، لم يكن الشعب الأفغاني قد طلبها أو أرادها، وقد كانت حكومة كابول في ذلك الوقت تعد البلاد إلى حكم علماني إصلاحي، أما الولايات المتحدة، فكانت تسعي كما سبق القول إلى تحويل أفغانستان إلى فيتنام للسوفييت هذه المرة، لكى تراق دماء الروس فيها، مثلما أريقت دماء الأمريكيين في فيتنامهم، ولم يكن يهم واشنطن كثيراً أن تتحول أفغانستان إلى دولة إسلامية أصولية متطرفة وهو ما كانت تعادي إيران الإسلامية بعد سقوط الشاه بسببه، بقدر ما يهمها أن ينتشر هذا المد الأصولي الإسلامي إلي جمهوريات الاتحاد السوفيتي في آسيا الوسطي ويقلب الأوضاع على موسكو، "ولم يكن الأمريكيون يجرؤون على استخدام تعبير" الإرهابيين" في وصف هؤلاء المتمردين الإسلاميين، حين كانوا يسقطون بقذائفهم طائرة مدنية في أفغانستان ويزرعون المتفجرات في المطار" .

تمكن المجاهدون الأفغان – وبدعم من قبل الولايات الأمريكية المتحدة، وبريطانيا، ودول أخرى من دحر قوات الاحتلال السوفيتي، وحملها على الانسحاب من أفغانستان؛ حيث تكبدت موسكو خسائر عسكرية كبيرة وعلاقات دولية متوترة. وكان "المحاربون غير النظاميين الأفغان يتم تسليحهم وتمويلهم وتدريبهم بشكل رئيسي من قبل الولايات الأمريكية المتحدة، والسعودية، وباكستان" .

أثار الغزو السوفيتي لأفغانستان ردود فعل قوية على الصعيد الداخلي والدولي، وعمت الثورة أرجاء البلاد، فقد وافق رئيس الولايات المتحدة الأمريكية "جيمي كارتر "على برنامج جديد للمساعدات العسكرية للمقاومة الإسلامية الأفغانية والمعروفة باسم "المجاهدين"، أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية ما يقدر بـ 10 مليارات دولار أمريكي على الأسلحة والمساعدات الأخرى، وذلك من بداية الغزو السوفيتي لأفغانستان وحتى سقوط الاتحاد السوفيتي في نهاية عام 1991" .

وبعد سقوط 13.000 جندياً قتيلا وإصابة أخرون كثر، سعى النظام الإصلاحي السوفياتي بقيادة " جورباتشوف"  لخروج يحفظ به ماء الوجه من هذه الغلطة باهظة الثمن، وفي منتصف مايو عام 1988م أحذت القوات السوفيتية تنسحب من أفغانستان، وذلك بعد زيارة "جورباتشوف للولايات المتحدة بعام، وخلال اتفاقية جنيف المجتمعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وأفغانستان والتي تهدف لاتفاق إلى حل سياسي، وتم التوقيع على الاتفاقيات الخمس والتي تتعلق بتسوية الوضع في أفغانستان، وبموجب هذه الاتفاقية كان على الجيش السوفيتي المهاجم مغادرة الأراضي الأفغانية مقابل وقف تمويل السلاح للأفغان من قبل باكستان والحكومة الأمريكية" .

هذه نظرة سريعة في التاريخ الأفغاني ودور أمريكا في توجيه العرب والمسلمين في دعمه، حيث رأت أمريكا فى هذه الحرب منفعة لها، فالاتحاد السوفيتي هو العدو الأقوى لها، فإن تأججت نار الجهاد الإسلامي ضده، فأمريكا ستربح في حالتي نصره على السوفييت بطبيعة الحال، أو حتى إن انهزم الجهاد فسيكون أنهك القوات السوفيتية وهو ما فيه النفع للأمريكان.

ثالثاً: فكرة الدولة الفاشلة ومشروع انهيار الاتحاد السوفيتي:

علي الرغم من شدة وتصميم الإجراءات التي اتخذها الرئيس الأمريكي " جيمي كارتر" للرد علي التصرف السوفيتي في أفغانستان، إلا أنها لم تفلح في تهدئة المشاعر التي أثارها العمل السوفيتي، ولا أن تحسن من صورة الإدارة الأمريكية ورئيسها. وأهم من هذا توافق هذا التطور مع قرب إنهاء رئاسة "كارتر" الأولي وبدأ حملة انتخابات الرئاسة، وهكذا " بدأ الإعداد لهذه الانتخابات في وقت سيطر فيه الإحساس بتراجع الهيبة والمكانة الأمريكية، وفعالية السياسة الخارجية الأمريكية، وافتقاد الثقة في اتجاهها، واقترن هذا التصور للإدارة الأمريكية ورئيسها علي أنها إدارة تمزق الخلافات شخصياتها الرئيسية، ويتسم رئيسها بالضعف والتردد، وأنه حين تحولت لهجته وسياسته، فإن خطة المتشدد كان مدعاة للتشويش أكثر مما كان مقنعاً" .

وقد استغل الحزب الجمهوري مرشحه " رونالد ريجان" Ronald Reagan  (1911-2004) هذا المناخ وجعل من شعار معركته الانتخابية العمل علي استعادة مكانة الولايات المتحدة والتصدي للتوسع، واقترنت أدبيات حملتهم الانتخابية بنظرة محافظة إلي الاتحاد السوفيتي أعادت إلي الأذهان ليس فقط صورة الحرب الباردة، وإنما ما اقترن بظهور الثورة عام 1917 وعن طبيعة النظام ونواياه ومدي الثقة فيه وفي قادته، وبالتالي حول أسلوب التعامل معهم، فقد "قدم الاتحاد السوفيتي علي أنه قوة تكمن فيها العدوانية، وبصورة لا يمكن تغييرها من خلال المفاوضات أو الاتفاقيات، وإنما من خلال مواجهته من موقع القوة وممارسة ضغوط جادة ومتماسكة عليه تجبره علي تغيير طبيعته وشخصيته" .

وقد غذي هذا الاتجاه في الإدارة الجيدة وبشر له تيار المحافظين الجدد New Conservatives، وهو التيار الذي ظهر في أوائل الستينات، واشتد في أواخر السبعينات، ولعب دوراً مؤثراً في إسقاط " كارتر" ونجاح "ريجان"، وساهمت أفكاره في صياغة مفاهيم واتجاهات إدارته وبشكل خاص خلال العامين الأولين من حكمه!، وقد استخدم هذا التيار قوته واستغل أن الشعب الأمريكي بعد تجربة  فيتنام، ووترجيت وأزمة الرهائن، يريد أن يؤكد نفسه، ويثبت صحة الوضع الأمريكي والفلسفة الأمريكية، وأن القوة الأمريكية التي تأثرت يمكن استعادتها وفيما يتعلق بتصور هذا التيار للاتحاد السوفيتي، فقد رأوا "أن جوهر الصراع معه يكمن في هيكل نظامه وسياساته، وعلي هذا فقد تصوروا أن هذا الصراع لا يحل بمجرد تطويعه، وإنما ينتهي بموت أحد النظامين أو تحويله".

وهكذا جاء "ريجان" إلي الحكم بتصميم علي تبني مواقف أكثر قوة وجرأة، خاصة بعد أن " لاحظ أن القيادة السوفيتية أخذت تعيش حالة من اللاقرار في ظل قيادة هرمة ما لبث زعماؤها أن فارقوا الحياة الواحدة تلو الآخر (بريجنيف Brezhnev 1982، اندريوف  Andropov 1984، تشيرننكو Czernenko 1985) خلفهم جورباتشوف الذي بدا منذ توليه السلطة عام 1985، متحمساً لتحقيق إنجازات كبيرة علي صعيد علاقات الاتحاد السوفيتي في العالم بغية التفرغ لتسوية الأوضاع الداخلية المنهارة" .

وعندما جاء "جورباتشوف" إلي قمة السلطة عام 1985 راعه الوضع المتردي الذي وصل إليه الاتحاد السوفيتي وما ترتب علي ذلك من اهتزاز مكانته العالمية . فمنذ النصف الأخير من السبعينيات، بدأ الاتحاد السوفيتي يفقد فعلاً قوة اندفاعه؛ خاصة في المجال الاقتصادي، فقد تدهورت معدلات النمو الاقتصادي لأكثر من النصف، وبحلول الثمانينات انخفضت إلي مستوي قريب من الركود، وذلك في وقت أتاحت فيه الثورة العلمية والتكنولوجية المتقدمة آفاقاً جديدة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي والعسكري في الغرب، دون أن يعمل الاتحاد السوفيتي علي الاستفادة منها . وقد انعكس هذا الركود الاقتصادي، علي حياة المجتمع السوفيتي بأن تدني مستوي المعيشة، الأمر الذي "أدي إلي انتشار الاتجاهات السلبية وتدهور تدريجي في القيم الايديولوجية والمعنوية، وبدأ الفساد يسري في الأخلاقيات العامة والخاصة" .

وقد لاحظ "جورباتشوف" أن السبب الرئيسي لهذه السلبيات إنما يرجع إلي جمود وعقم النظام السوفيتي، فكراً وممارسة في عهد بريجنيف. ولذلك "دعا إلي ضرورة تبني استراتيجية جديدة شاملة تقوم علي منطلقات فكرية بناءة وأساليب عمل أكثر كفاءة متحررة من جمود البيروقراطية العقيمة، وقد أطلق علي هذه الاستراتيجية اسم" البريسترويكا: أي إعادة البناء" .

ويذكر لنا بعض الخبراء الثقات في الشؤون الاقتصادية السوفيتية أنه بالرغم من أن الاتحاد السوفيتي أقر عدداً من الإصلاحات الاقتصادية الجزئية في منتصف الستينات هادفاً منها إلي دعم استقلالية الإدارة في الوحدات الاقتصادية للحد من تسلط الأجهزة المركزية عليها، مع التوسع في الأخذ بنظم الحوافز الاقتصادية، فإن الطابع العام لأسلوب التخطيط والإدارة بقي متسماً بدرجة عالية للغاية من المركزية والجمود . من جانب آخر، فإن الاصلاحات الجزئية المحدودة في آفاقها ووسائلها وأهدافها، لم تكن كافية بذاتها للتغلب علي آثار الركود الاقتصادي الطويل الذي بدأ الاتحاد السوفيتي يعاني مشكلاته وصعوباته منذ مطلع السبعينات، وكان صلب هذه المعضلة الاقتصادية مرتبطاً بعدم وجود الآليات الضرورية التي بمقدروها تحفز الوحدات الاقتصادية علي التحسين المستمر لإنتاجها، أو تهيئة الإمكانية التي تسمح بتطوير الإنتاج، وبالتالي الاستفادة من ثمار التطور العلمي والتكنولوجي، وقد نتج عن هذا الركود، وعن " انعدام القدرة علي التجديد والابتكار والمبادرة، اتساع الفجوة بين الاتحاد السوفيتي والدول الرأسمالية المتقدمة، وكان لهذا التراجع ضريبته الاقتصادية الفادحة التي تمثلت في إهدار الموارد والطاقات، وارتفاع تكلفة الإنتاج بصورة غير اقتصادية بتاتاً" .

لقد شخص جورباتشوف أزمة الاقتصاد السوفيتي والإدارة السوفيتية في كتابه "بريسترويكا"، و"إعادة البناء" علي النحو التالي:

1-إن المسؤولية عن الركود الذي أصاب عملية التطور الاقتصادي والاجتماعي في الاتحاد السوفيتي تعود في المقام الأول إلي النهج الذي تمسكت به قيادة الحزب والدولة . فهذه القيادة لم تتجاوب بدرجة كافية، ولا في الوقت المناسب، مع ما كانت تفرضه ضرورات التغيير ومتطلباته، وكان ذلك عائداً بالأساس إلي قصورها في استيعاب الأخطار التي ستنجم عن تفاقم أسباب الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في الدولة السوفيتية، وبالتالي فإنها لم تكثرت ولم تشغل نفسها برسم سياسة واضحة المعالم والأهداف لتخطيها والتغلب علي آثارها المتوقعة.

2- إنه إذا كان ثمة هفوات خطيرة تسببت في تباطؤ مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإنها لم تكن محصورة كلها في ميدان الإدارة الاقتصادية فحسب، وإنما امتدت لتشمل المجال النظري / الايديولوجي كذلك . من ذلك أن التصورات النظرية عن الاشتراكية بقيت في جوانب كثيرة منها جامدة عند مستوي الثلاثينيات والأربعينيات. الأفدح من ذلك أنه جري تصوير البنية الاجتماعية السوفيتية علي أنها خلت من التناقضات، ومن تضاربات المصالح بين مختلف فئات وشرائح المجتمع السوفيتي، وكان هذا الزعم مجافياً للواقع، ولم يعكس بأمانة الأمر علي حقيقته . وبطبيعة الحال، فإن هذه التفسيرات النظرية / الأيديولوجية الخاطئة قادت بالضرورة إلي نتائج سلبية وخيمة غشيت كل مرافق الحياة في الاتحاد السوفيتي، وحالت دون الكشف عن مزايا النظام الاشتراكي واستثمارها بصورة فعالة وإيجابية.

ويبلغ جورباتشوف قمة الجرأة والصراحة عندما يعلن :" أن جذور هذه العملية تكمن في مجموعة النواقص الخطيرة التي عانت منها مؤسسات الديمقراطية الاشتراكية عند اضطلاعها بوظائفها، وأيضاً في الأحكام والتفسيرات النظرية والسياسية التي تقادم عليها الزمن، ولم تعد تساير ظروف الواقع، هذا بالإضافة إلي جمود آليات الإدارة".

وفي التقرير الذي قدمه جورباتشوف إلي اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي في يناير 1987، جاء :" أن أي محاولة لتحويل النظرية التي نسترشد بها إلي مجموعة من البرامج والوصفات الجامدة والصالحة لكل أحوال الحياة وفي كل مكان، إنما تتعارض كل التعارض مع جوهر وروح الماركسية اللينينية . إن الوضع الاقتصادي والسياسي الذي نعيشه، كما أن المرحلة الراهنة من الحقبة التاريخية التي يمر بها المجتمع السوفيتي والعالم كله، أصبحت تتطلب من الحزب ومن كل شيوعي الإبداع والعمل بروح التجديد التي تتجاوز أطر التصورات التقليدية التي ولي زمانها" .

ويختص جورباتشوف قضية الديمقراطية بأقصى درجات الاهتمام عندما يشير في التقرير المذكور :" يصعب علي الرفاق فهم أن الديمقراطية ليست مجرد شعار، وإنما هي جوهر التغيير، ومن ثم يجب عليهم تغيير وجهات نظرهم وعاداتهم كي لا يجدوا أنفسهم علي هامش الحياة، إن إشاعة الديمقراطية في المجتمع تطرح من زوايا جديدة مسألة الرقابة علي عمل الهيئات الحزبية وغيرها من الأجهزة الإدارية والاقتصادية وكوادر العاملين فيها" .

ومرة أخري يبلغ ذروة الشجاعة في كسره للتقاليد والأعراف الحزبية التي فرضت نفسها بقداسة لا نظير لها علي واقع الحياة السياسية السوفيتية عقوداً طويلة من الزمن قاربت علي السبع، عندما يقول :" إن الاتجاه المهم في نشر الديمقراطية في حياتنا الاجتماعية، هو عدم التواني عن ترشح الرفاق غير الحزبيين ( أي غير الشيوعيين) للمناصب القيادية، إنها مسألة مبدأ" .

ثم يقدم جورباتشوف منظوره الذاتي لآفاق التغيير الشامل الذي تنشده " البريسترويكا"، عندما يذكر :" إننا نعيش اليوم مرحلة انعطافية من عملية التغيير التي يجب أن تشمل كل مجالات حياتنا المادية والروحية، وتتميز هذه العملية بتعميق عمليات إعادة البناء وإشراك الجماهير العامة بملايين أفرادها في إنجازها . لقد باشر الحزب عملية التغيير الثوري، وهو يبدأ بتغيير نفسه . إن هناك أسلوباً واحداً فقط مقبولاً لمحادثة الناس هو أسلوب الإقناع، ومن ثم، لا يمكن اللجوء إلا إلي طريقة واحدة هي الحوار علي قدم المساواة ". ويضيف :" إن مسألة العلانية هي مسألة مبدئية وبالنسبة لنا إنها مسألة سياسية . فبلا علانية لا توجد ولا يمكن أن توجد ديمقراطية أو إبداع سياسي للجماهير أو إسهام شعبي فعال في عمليات الإدارة، إن هذا، إذا أردتم، الضمانة نحو خلق الموقف الذي تتصرف فيه الدولة بروح المسؤولية والذي سيشكل نقطة الانطلاق نحو إعادة بناء كوادرنا سيكولوجيا"، ثم يؤكد :" لا توجد في الحزب، ولا يمكن أن توجد، منظمات حزبية خارج الرقابة، مغلقة بوجه الانتقاد، لا يوجد، ولا يجب أن يوجد، قادة لا يخضعون للمسؤولية الحزبية".

وحول تصوره للموقف السياسي عند هذا المنعطف التاريخي، يقول جورباتشوف :" لقد حان الوقت لفهم الحقائق الصارمة للعصر الذي نعيشه فهماً كاملاً، ومن تلك الحقائق، أن السلاح النووي ينطوي في ذاته علي إعصار بإمكانه أن يمحو الجنس البشري من الوجود . إن مثلنا الأعلي هو عالم بلا سلاح وبلا عنف، وليس ثمة بديل لهذه السياسة، ويؤكد أن السعي إلي التفوق العسكري لا يمكن موضوعياً أن يؤدي إلي كسب سياسي لأحد . وهذا يعني أنه لا يوجد في الوضع الراهن بديل للتعاون والتعاضد بين جميع الدول، وعليه يمكن القول إن ظروفا موضوعية قد نشأت ويمكن فيها للصراع بين الرأسمالية والاشتراكية أن يدور بوسائل التنافس السلمي وحدها" .... وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم