قضايا

الأساطير مرايا النفوس!!

صادق السامرائيالأساطير ربما يصح وصفها بأنها حكايات أو قصص متخيلة تدور حول إلهٍ متخيَّل.

أو يمكن القول أنها حكاية تقليدية تروي أحداثا خارقة للعادة، أو تحدّث عن أعمال الأبطال والآلهة، ومع الزمن تطورت وصارت تتصل بأناس حقيقيين.

والأساطير أول ما إنعكس في الواقع السلوكي من مكنونات النفوس البشرية، وتبدو كأنها أكاذيب للهروب من مواجهة الحقيقة.

ومبعث الأساطير واحد مفاده البحث عن جواب لأسئلة غيبية خلاصتها، لماذا أنا موجود، ومن أين جئت وإلى أين سأذهب؟

هذه الأسئلة المقلقة المرعبة دفعت بالبشر، لكي يحصل على بعض السكينة والطمأنينة، أن يُجهد مخيلته ويأتي بقصص وحكايات ومرويات تبعث في نفسه وهْمَ المعرفة والدراية، وتمنح وجوده المعنى الذي يساعده على التواصل والبقاء.

فأول خطوات البشر فوق التراب كانت مترافقة مع تساؤلات ومخاوف وتوجسات وحيرة وإضطراب ، فهو يتحرك في عالم مجهول ويرحل إلى عالم مجهول، وما بينهما يجد نفسه مقيدا بالحياة ومهددا بالموت، وهو في حرب شعواء مع ذاته وموضوعه.

ولا يُعرف مبعث هذه التساؤلات هل هي كامنة وتمتلك أجوبة مغروسة فيه، ولهذا إهتدى إلى الآلهة ومن ثم الإله، فالسلوك متشابه ما بين الأجناس البشرية وفي أصقاع الأرض كافة وفي عصورها منذ الأزل.

وكأن البشر فيه جهاز إعتقادي إدراكي بمنظومة واحدة، وإن تباينت إستحضاراتها ورموزها التعبيرية عمّا تعكسه من مدارك وتصورات.

فالمجتمعات البشرية إنطلقت في مشوارها وهي محكومة بمعتقدات وتخيلات وآلهة ومعابد، وطقوس وتفسيرات وتأويلات تطلقها مخيلتها، وتتراكم وتتعزز بالتكرار والتعاقب، الذي يساهم بتحريرها وتحويرها وتطويرها والوصول بها إلى ذروتها التعبيرية والتصويرية، ويضخها بطاقات إنفعالية وعاطفية ترسيخية لا يمكن أن تقاوَم أو تتعرض للشك والسؤال.

ولو تأملنا أي مجتمع لظهر لنا أن له أساطيره ومعتقاداته وآلهته، التي تطورت وأثرت في السلوك الجمعي، وأرست دعائم الإنضباط السلوكي والأخلاقي والقيمي، وهي قوى قاهرة وخارجة عن إرادة البشر، وتتحكم بمصيره، فهو الكائن الضعيف السابر لأغوار المجهول البعيد.

وقد تكون الأساطير من أول الوسائل التي إستوجبت الفعل والحضور للتحكم بالسلوك البشري، الذي لا يمكن تهذيبه وتنظيمه إلا بقوة قاهرة متصوّرة، وربما يكون أحد الذين توقدت أذهانهم وتحير في مواجهة التفاعل مع الآخر، بأن إبتكر هذه الحيلة السلوكية لكي يلجم جماح البشر ويهذب سلوكه.

فالبشر في أول عهده بالحياة لا يختلف عن الموجودات المتوحشة المتحفزة، المترعة بالعداء وبطاقات العدوان والإنقضاض على الآخر، وليس من السهل أن يكون في جماعة ويؤسس لمجتمع من غير ضوابط سلوكية وأحكام رادعة وحاسمة.

فكانت الرموز الغيبية ذات الطاقات الخارقة الفاعلة في الحياة، والتي بموجبها يتحدد السلوك وتمضي الأيام بموازنة بقائية، كفيلة بالتواصل والتفاعل الإيجابي المساهم في ديمومة المجتمع وقوته وقدرته على التحدي والنماء.

والمسيرة البشرية تشير إلى أنها مرت بمراحل عصيبة ومريرة، تصارعت فيها المعطيات المتخيلة مع بعضها، حتى إنتهت إلى حالة يمكنها أن توائم وتساهم في الحفاظ على البقاء البشري وتمنحه فرصة بناء الحياة وتطويرها.

كما أن هذه الأساطير قد أرضت الحاجات الكامنة في أعماق البشر، فهي أرضت ما فيه من طاقات ما بين الحب والعدوان، إذ وفرت له الوسائل الكفيلة بالتعبير عن الحالتين، فيمكنه أن يعبر عن حبه وعدوانيته، كما تسوغ له فعل الشر والخير معا.

 

ولكي تتعرف على الحقيقة السلوكية لأي مجتمع عليك أن تدرس أساطيره، وتفهم آلياتها ومكوناتها ورموزها ودلالاتها وما تذهب إليه، فالأساطير هي الصورة الحقيقية لما نسميه باللاوعي أو المطمور الفاعل في البشر، ويمكن القول أن اللاوعي يتمثل بالأسطورة.

فالأسطورة إجتهادات فردية وجمعية لمواجهة المصير، والوقوف أمام حجب الغيوب تستدعي إستحثاث الطاقات الإبداعية وتسخيرها لإختلاق ما يفسر ويبرر الواقع الذي تكون فيه الأحياء، فالوجود مجهول، ولكي يتم إخضاع المجهول لإرادة المعلوم لا بد من الأساطير.

والأساطير مراحل لتمنية الوعي والوصول إلى ضفاف المعرفة الحقيقية لأسرار كونية ووجودية تستعصي على الفهم والإدراك، وهي محاولة لزيادة مساحة الإدراك.

والأسطورة نزعة نفسية كامنة في الأعماق البشرية تستحضر قوةً أو إلها في صورة، أي أن البشر يحوي جهازا عصبيا لصناعة الأسطورة، ولهذا فأنها ستبقى حية في الأجيال، وإن تبدلت موضوعاتها ورموزها، لكنها تشترك بأنها تتمحور حول موجود أو غائب متصوَّر.

فالدماغ البشري يحوي دوائر عُصيبية لإبتكار أي شيئ، فالمبتكرات أفكار مبثوثة في الكون الذي نمرق فيه.

وليس مستغربا القول بأن الأساطير ما هي إلا مراحل أولى في صناعة وتطور وبناء الأديان، فلكل دين أساطيره وموروثاته المتخيلة، التي ترسخت وتحولت إلى ثوابت يقينية ومرتكزات إيمانية لا يمكن زحزحتها ومساءلتها، وهذه الحالة مشتركة في الأديان وتعد من أعمدتها وجوهر كيانها، وما حولها تدور التعاليم والمبادئ وما ينطق به الدين من رؤى ومنطلقات عقائدية وتشريعية.

والأساطير يمكن توظيفها وتسخيرها لتحقيق رغبات ومصالح القوى الفاعلة في المجتمع، التي تستخدمها للتحكم بالآخرين، وتضيف عليها وتحورها بما يخدم القوة القاهرة ويعزز تأثيرها وقدرتها في القبض على الحكم أو السلطة، حتى ليتحول رمز القوة إلى أسطورة سائدة ومتداولة بين الأجيال.

والبشر لديه نزعات لتأليف الأساطير وكأنها رغبة كامنة فيه وتتضح عند الأطفال ومتخيلهم، فالأطفال يمكنهم أن يؤلفوا الأساطير، وتتعجب من سردياتهم المستحضرة من عجائب ما فيهم من المطمورات المتراكمة عبر الأجيال المترافدة.

وقد يسأل القارئ لماذا إقتربت من الأسطورة؟

والجواب أن علماء النفس البارزين قد أمعنوا بدراسة الأسطورة، ومنها أسسوا لمصطلحاتهم وتوصيفات العقد السلوكية التي إبتكروها، وكأنهم قد أدركوا بأن الأسطورة هي التعبير الأصدق عمّا في النفس البشرية من الكوامن والمطمورات والتطلعات، ولهذا أرادوا القول بأن الفهم الأصوب للنفس لا يمكنه أن يتأتى من دون معرفة الأسطورة، وتأمل خباياها وعناصرها وآلياتها التعبيرية والتصويرية.

ويبدو أن إقترابهم فيه موضوعية وعلمية، فلكي ننقب في النفس البشرية علينا أن نغوص في أعماق الأساطير، التي تحكمت بالسلوك وأسست لسلسلة من الضوابط والمسلمات، التي درجت عليها الأجيال لكي تحاول البقاء والرقاء.

والتفاعل مع الأساطير كأنه القيام بحفريات أو تنقيبات نفسية بحثا عن الدلائل السلوكية والعلامات المرشدة نحو غاية ما.

فالأسطورة، تخبطات فكرية متخيلة في رحلة البحث عن القوة الكونية القاهرة لكل شيئ، وهي تعبيرات عن نبضات الخيال المطمورة في الأدمغة البشرية وربما أدمغة الموجودات الحية الأخرى.

فلكل مخلوق أساطيره الذاتية والجمعية، والناس تطارد سراب أساطير.

وللأسطورة تأثير كبير وقوي في حياة الأشخاص، وهي التي تتحكم برسم خارطة طريق وجودهم بمداد اللاشعور الفاعل فيهم.

ولهذا فلا يمكن إنكار أهمية الأسطورة في فهم السلوك البشري الفردي والجمعي.

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم