قضايا

في النرجسية

علي المرهجتعني النرجسية (حُب الذات) واعلانها التميز الفرداني عن الآخرين، مرة من جهة امتلاك الفرد لعبقرية أو مقدرة فائقة أو تفوق ثقافي أو علمي بالقياس للآخرين الذين يعيشون معه، وهذه نرجسية محمودة على ما فيها من حُب التفاخر بالذات التي تحمل في طياتها تقليل من جهود الآخرين في مجال تفوق الذات.

هناك نرجسية أخرى نستطيع تسميتها (نرجسية فارغة) لأنها اعجاب مُفرط بالذات من دون وجود مؤشرات على ما يُميز هذه الذات في الحياة أو في مجال من المجالات، هي أشبه بمرض نفسي، إن لم تكن هي كذلك، يدَعي صاحبها تميز من دون وجود ما يشفع لمقبولية ادعائهم الفارغ بالتميز!!.

هناك بعض من مقبولية لنرجسية الكبار الذين قدموا لمجتمعاتهم بصورة خاصة في مجال اهتماماتهم وللمجتمع بصورة عامة التباهي والتفاخر بقيمة الذات التي يعترف لها الآخرون بقيمتها المعرفية أو العلمية أو الفنية، أو العبقرية في خرق نظام المعرفة السائد.

أشتق مفهوم النرجسية من أسطورة يونانية تحدثت عن إنسان فائق الجمال أسمه (نرسيس) أو (نركسوس) من شدَة جماله لم يستطع أن يُحب سوى نفسه، بعد أن لم يستطع رؤية حبيبته التي لم تُبادله الحُب، فقضى عمره ينظر إلى الماء علَهه يرى حبيبته، وفي لحظة تجلٍ رأى انعكاس صورتها في الماء، فقفز إلى لماء النهر غرق في ماء النهر حُباً، وعندما مات هذا الشاب أوردت زهرة في مكان دفنه سُميت بـ (النرجس)، وهي واحدة من أجمل الزهور بالعالم، يصح بها وعليها القول (أن اللهىجميل يُحب الجمال)، وفي النرجس جمال أخَاذ، فكيف لنا لا نستحسن النرجسية حينما تكون جمالاً يُزيَن وجه الأرض

النرجسي يهتم بنفسه يمشي مُتفاخراً بتفوقه الحقيقي العلمي أو الثقافي أو العبقري الفائق، وهُناك (نرجسي فارغ) يهتم بمظهره وحُسن ملبسه، تجده يخترق كل جلسات السمر والحوار ليتكلم عن نفسه وأفعاله وربما شجاعته المصطنعة وكرمه الباذخ ادعاءاً.

النرجسي بنوعيه لا يتحمل النقد، ويهيم طرباً حينما يمدحه الآخرون حتى وإن عرف أنهم ليسوا بصادقين، يتمايل جسده ذات اليمين وذات الشمال ليُطرب على أغنية (أم كلثوم):

النرجس مال يمين واشمال

على الأغصان بتيه ودلال

حين ذكر بعض محاسن النرجسي لو كان أميراً أو سلطاناً تجده لا يُقرَب سوى من يمنحونه ألقاب العظمة ويُحسنون التملق واضفاء صفات معرفية وجمالية وأخلاقية له ليست بالضرورة متواجدة فيه!. ليكون هو "الأمير الفيلسوف" و "القائد الضرورة" وهو من لم يأت بمثله للوجود لا قبل ولا بعد، لا يشعر بمتاعب الآخرين، ولكنك تجده مُبغضاً كارهاً لمن لا يشعر بمتاعبه، هو لا يرى الآخرين، ولكنه يطلب من الآخرين أن يروه ويُشعروه بأهمية وجوده بشكل مُستمر.

يهيم النرجسي بوصفه معتقداً بأهميته بخطابات لا عقلانية، تغلب عليها سمة القناعة بأن هناك غيب يحرسه أو إرادة ربانية اقتضت وجوده أو حتمية تاريخية صيرته الشخص الأمثل أو "المُخلص".

النرجسي يمتلك وعيه بنفسه، ولكن هذا الوعي لا يرى وجودات إنسانية نوعية مناضرة له، يُمعن في تكليف الآخرين ليكونا مضحين من أجله، ولكنه لا يُكلف نفسه السؤال عنهم. وكأن نزعته النرجسية قد منحته صفات الله (الخالد) (الأزلي)، وباقي الناس لا قيمة لهم ولا وجود من دونه!.

يشعر النرجسي أنه المالك ـ ولربما ـ يشعر أنه هو المُحيي والمُميت، فالوجودات (الناس والطبيعة) هي التي تتحرك إليه (على سبيل الشوق) ـ بعبارة أرسطية حينما يصف الموجِد الأول.

كل نرجسي مُعجب بنفسه مُفتتن بذاته، ولكن ليس كل مُعجب بنفسه نرجسي مُتتن بذاته.

النرجسية درجات، ومنها الجميل المرغوب، حينما تجد (المتفوق) حقاً في مجال من المجالات مُعجب بنفسه، ولكنه يعكس هذا الاعجاب باعجاب مُقابل لكل من هو (متفوق) في مجال يُشاطره هو فيه أو يُغايره.

في النرجسية اللامرضية ـ كما أرى ـ اعجاب وافتتان بالذات يشعر به النرجسي الذي يليق به التباهي حينما يجده في كتابات الآخرين ومحبتهم له بوصفه عالماً لا سطاناً، فهي (نرجسية جمالية) نستحسنها بمقدار استحساننا للنظر لوردة النرجس بهية الجمال تزدهي وتتغنج تحبباً بمقدار شف الآخرين برؤيتها.

في القيادة الادارية الناجحة وتحقيق التميز في العمل والانجاز ستكون هُناك نرجسية مُحببة عند القائد الإداري ويستحسنها العاملون معه، إن لم يكونا هُم المبادرون للتعبير عن تفوق المدير ونجاحه.

لا أتفق كثيراً مع من يذهب إلى ادراج كل تمظهرات النرجسية في لائحة الأمراض النفسية، لأن كل بني البشر مُعجبون بأنفسهم ولو بدرجات، فهي بظني ليست (اضطراباً في الشخصية) في كل الحالات كما يذهب إلى ذلك أصحاب التحليل النفسي.

أختم بالقول أنني عرفت شخصية نرجسية مُعجبة بذاتها، هو الكبير (مدني صالح) مُففتن بذاته ومُعجب بها، مُحب لمدينته هيت ويهيم بنواعيره، يقول: (أنني لا أصادق إلَا مدني صالح، ولا أحاور إلَا مدني صالح)، وقد فهمت منه أن مدني صالح عنده هو مثال الإنسان الوعي والمثقف المُحب لذاته ولمدينته، وهو في مضنون قوله يرغب بمعرفة شخص يُحب نفسه ويثق بمعقله ومقدار وعيه ويعشق تاريخ نشأته لا تبجحاً، بل بمقدار سعيه هذا (الآخر) لتنمية وعية وثقته بنفسه، ومحبته لتاريخ نشأته على قاعدة (الطيور على أشكالها تقعُ).

عندي الكثير في تمييز النرجسية المحمودة، وعندي الأكثر في توصيف النرجسية المرضية، ولكنني حاولت إيجاز القول لترك التفصيل والشرح لمقام آخر.

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم