قضايا

سيكولوجيا الجماعات المقهورة

علي المرهجالقهر مرتبط بوجود نظام سلطة قاهرة تُميَز بين أفراد المجتمع إما على أساس ديني أو عرقي أو طائفي مذهبي، وفي القهر اضمار للاحتقار، فالجماعات المقهورة هي بتحصيل الحاصل جماعات مُحتقرة، ولا أجد فارقاً كبيراً بين الظلم والقهر رغم محاولات البعض للتمييز بينهما، فالمظلوم هو المقهور والمقهور هو المظلوم، وكلاهما يؤدي بالفرد والجماعة المقهورة أو المظلومة للتخلف، وقد كتب (مصطفى حجازي) كتابه: "التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور)، والقهر والظلم نوعان يختلفان في المُسمى ويشتركان في المضمون وكلاهما يحمل مضمون مرادف للاضطهاد وارهاب الجماعة باسم السلطة، وليست شرطاً أن تكون سلطة دولة ممعترف بها دولياً، بل لربما تكون سلطة جماعات أو مليشيات تعمل خارج هيمنة السلطة الحكومية تعمل على اضطهاد وقهر وظلم جماعات مغايرة لها في نمط المُتبنى العقائدي أو الأيديولوجي.

الإنسان المقهور هو الذي يشعر بـ (الاغتراب) وهو في بلده، مُغيَب العقل بفعل التأثير "الأفيوني" حين قُمِع نزوعه المذهبي أو الديني بقصدية، فعومل على أنه كائن (لا مُنتمي) بتعبير (كولن ولسن)، وهو بالفعل كذلك بحُكم قهر السُلطة وأفاعيل رجال الدين من أبناء قوميته أو طائفته.

يبحث الإنسان المقهور دوماً عن (مُخلص) يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملأها سلاطين القهر جوراً.

في المجتمعات المقهورة يتربى الشاب على الطاعة، وتقتنع المرأة بكونها جنساً أقل فاعلية من الرجل، لترتكن المرأة على عاطفة الأمومة لاستدرار عطف الزوج والأبناء، وهي فرحة بمقامها هذا، وتجدها أكثر تباهياً حينما تُنجب الأولاد دون البنات!، لأنها ستجد لها موقعاً وحضوراً وتأثيراً وفاعليةً في نفس الرجل الشرقي لأنها (أم الأولاد)!، وهي فخورة بذلك، وتعتكف وتنزوي حينما تلد أنثى!!...أي استلاب هذا ترتضيه المرأة لنفسها.. أخاطبها بالقول لتستعيننَ بنساء صنعنَ لهنَ تاريخاً لا يستطيع الأبناء ولا الرجال (الرجال) صناعته، ولك مثالاً عراقياً في (زهاء حديد) المهندسة التي يحتفي بها كل أهل الأرض المُنصفين، وهي نخلة عراقية سامقة وشامخة نحتفي بها نحن الرجال ونستحي من تاريخ أعراف لنا وتقاليد نستهين به بقدرة المرأة فنضعها بأدنى درجات الرقي، وفي تراثنا الشيعي نستدعي أقوال الإمام علي (ع) بوصف المرأة "شرٌ كٌلها" وأن "النساء همهنَ الزينة في الحياة الدنيا والفساد"، و "المرأة عقرب حلوة اللبس"، وزوجه أو زوجته فاطمة بنت محمد (ص) تلك المرأة التي قال عنها الرسول (ص): لو أن فاطمة خير النساء" وهي "سيدة نساء العالمين" و"سيدة نساء أهل الجنة" و "فاطمة بضعة مني وهي قلبي ومن آذاها فقد آذى الله"، وهي "أم أبيها"، وقدَ: "خُلقت حورية في صورة أنسية" أو "حوراء أنسية"، فهي التي إذا قيل عنها: "إذا زهر نورها لأهل السماء كما يزهر نور الكواكب على أهل الأرض" وهل في أقوال الرسول هذه من تأويل حينما يمتدح الرسول (ص) فاطمة ابنته (المرأة) لطهارتها من كل دنس وهي (بنت محمد الطاهرة)!.

بقراءة موضوعية أجد أن النساء ظُلمتهنَ الأقوال من دون تمحيص، وقد أظهرت بعض أقوال للنبي (ص) أنصف فيه النساء (المقهورات في مجتمعاتنا بحُكم الأعراف والتقاليد.

تعمل مؤسسات حكومة دكتاتورية على تربية النشأ على كراهية كل معتقد أو أيديولوجيا معارضة للسلطة لا سيما في مجتمعاتنا (مجتمعات العالم الثالث)، وتعمل في التوازي معها جماعات المعارضة لا سيما المسلجة والمبنية للولاء عقائدياً لأيديولوجيا خارج حدود الوطن.

أعتقد أن فعل التربية الذي أكدَت عليه الحكومات القوموية ومعها الطائفية كان لها الدور البارز في تفعيل (سيكولوجيا القهر) بحسب تبادل الأدوار بين (الضحية والجلَاد)، الأمر الذي يجعل من الصعب الحُكم على من سيكون الضحية ومن سيكون الجلَاد، فتارة يكون الجلَاد وأتباعه جلَادون فعلاً وبعد تبدل الأدوار يتحول الحال، ليكون الضحية هو الجلَاد في مجتعات مثل مجتمعاتنا..

لم نتربى لا قومياً ولا وطنياً على تنمية روح (التسامح) و(الاعتراف) بالآخر، فبدى لنا أمر رفض (الغير) وكأنه سجية حسنة للتميز الفرداني عندنا!، لنكتشف بعد حين تغلغل مشاعر الحقد والكراهية في (الاشعور) ـ بعبارة فرويد ـ لكل رؤية نقدية لنا حتى وإن كان لها مصداق موضوعي وواقعي.

عندنا مثل عراقي هو (امحضر العطاب كَبل الفشخة)، بمعنى أن كل منَا ينتظر قول صاحبه (ولا أستثني نفسي بوصفي عربي وعراقي من شمولية هذا المثل) فإن وجد في مدحاً له رضت نفسه وابتهجت، وإن وجد في قول صاحبه ما يُغيضه نسيَ سني العشرة كلها وإن طالت..إنها سيكولوجيا القهر التي علمتنا التعبير عن (العنف الرمزي) بعبارة (بيار بورديو)، ذلك العُنف الذي ننُقصي به أراء كل معارض لنا بالقول والكلام وليس شرطاً بممارسة العُنف المادي أو الجسدي.

حينما يزداد قهر الجماعات تزداد عكسياً هذه الجماعات في كرهها للوطن والبحث عن تأييد خارجي لها يحفظ لها حقها في العيش الذي منعته عنها جماعات السلطة بكل تمظهراتها في دولنا، لتجد بعض أو كثير من ولاءات هذه الجماعات المقهورة والمظلومة تُدين وتعمل على نشر أيديولوجيا وعقيدة لها فاعليتها وحضورها خارج متطلبات ومُقتضيات الهوية الوطنية.

تبحث هذه الجماعات المقهورة عن مشابه لها عقائدي أو ديني أو عرقي أو أيديولوجي، وربما كل هذه المشتركات معاً تجدها في داعم لها خارج حدود الوطن، ليتحول نضالها للاعتراف بحقها في المساواة لولاء لآخر يستغل مشاعر القهر والحرمان التي عاشتها هذه الجماعات تحت ظل الديكتاتوريات تارة، وطاعتها لقادة مأجورين أحسنوا الظن بهم تارة أخرى.

الجماعات المقهورة جماعات تختلط فيها مشاعر المحبة مع مشاعر الكُره، فبلحظة تجدهم محبون لأنك صرَحت بقول يُداعب مشاعرهم (الأيديولوجية أو المذهبية أو العرقية) وإن كُنت من المشاهير شيَروا قولك هذا في وسائل تواصلهم الاجتماعي وإن كُنت من الفاسقين! بحسب منظورهم الاعتقادي.

سيكولوجيا الجماعات المقهورة لا ضابط لها في المحبة والكُره، وما يضبط سمفونية القهر عندهم هي تصريح أو تلميح عن حجم مُعاناتهم لتسقط الفروض والأحكام عن القائلين بهذا القول وإن لم يكن قولهم هذا بقصد اتباع لنهجهم.

الجماعات القهورة تكتب تاريخاً خارج التاريخ المعروف والمتداول عند جماعات لها تشترك معها في بعض المشتركات دينية كانت أم عقائدية ولربما أيديولوجية، ولكنها تحتفظ بتمركزها حول الذات وتتطرف حيثما يكون التطرف سلاحاً يواجهون به من يُنكر هويتهم الأيديولوجية أو الدينية وحتى العرقية.

الأخلاق في منظور الجماعات المقهورة هي أخلاق ورثوها وهي مناقضة حتماً لأخلاق جماعات لهم مُناضرة في الهوية الوطنية ومناقضة في التوجه المذهبي أو الديني والعرقي وقومي.

الإنسان كما أحسب ظالم بطبعه وأتفق مع (توماس هوبز) بقوله: "أن الإنسان ذئبٌ لأخيه الإنسان"، ولم يذهب (داريوش شايغان) المفكر الإيراني بعيداً حينما كتب كتابه "النفس المبتورة" لأننا نرى في الغرب عدواً مُبينا.

لم يُحسن (الغرب الكولنيالي) العلاقة معنَا نحن أبناء الشرق (المقهورة)، وما عودنا للسلف الصالح واعتمادنا على قول الإمام مالك (رحمه الله) سوى عود على بدء، أي أن أمر آخر هذه الأمة (المقهورة) لا يصلح إلَا بما صلُح به أولها)، وهو شعر رفعه كل دعاة السلفية على اختلاف توجهاتهم، لأن رجالات الغرب الكولنيالي (الاستعماري) لم يُحسنوا التعامل مع شعوبنا المقهورة والمظلومة والمُتخلة بتحصيل الحاصل، فكيف لشعوب قهرها الاستبداد والاستعباد والاستعمار أن تنهض؟!.

هذه مأساة ينسجم معها قول أخواننا المصريين (عجبي) أو (عكبي)، فليس بمقدور أمة أو مجتمع للنهوض من دون افاقة حقيقية للمجتمع أو دعم دولي صادق لكل أطياف الوطن الواحد، وهذا نادر إن لم يكن من قبيل المُستحيل!.

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم