تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

المناظرة التاريخية بين أبي سعيد السيرافي ومتي بن يونس.. قراءة فلسفية (3)

محمود محمد علياستشعر الكثير من المناطقة والفلاسفة السريان والذين كانوا يعيشون في كنف الحضارة العربية آنذاك بحرج شديد إزاء الهزيمة المنكرة التي لقيها " متي" في مناظرته، لذلك جاء الفيلسوف المنطقي " يحي بن عدي" (ت: 974م)، ليلطف الأجواء الساخنة التي حدثت في المناظرة، فكتب رسالة قصيرة لخص فيها مسألة الفرق بين المنطق والنحو، وكان "يحيي" تلميذاً لمتي بن يونس وقد ترجم عدداً من كتابات أرسطو، وتعرض الرسالة التي عنوانها " تبيين الفصل بين صناعتي المنطق الفلسفي والنحو العربي " – هذه المسألة بهدوء بعيداً عن الأجواء الساخنة للجدل بين "أبو سعيد السيرافي" و"متي بن يونس".

وأول شئ يؤكد عليه "ابن عدي" هو:"أن موضوع صناعة النحو وغرضها هو الألفاظ ضمها إياها وفتحها وكسرها. وبالجملة تحريكها وتسكينها بحسب تحريك وتسكين العرب إياها، فإن ذلك هو الذي تقصده، وهو الذي تحدثه فيها، وهو الذي إذا انتهت إليه سكنت عن حركتها .والدليل علي ذلك أن الفرق بين الألفاظ المعربة والألفاظ غير المعربة هو أن تلك محركة أو مسكنة بحسب ما تحركها وتسكنها العرب، وهذه ليس تحريكها وتسكينها موافقاً لتحريك وتسكين العرب إياها " .

ولعلنا نستطيع القول إن عبارة "ابن عدي" تلك تعد أول محاولة لقصر النحو العربي على الجانب الشكلي من اللغة، وهو ما ساد بعد ذلك في تعريف النحو في كتب النحاة المتأخرين على أنه "علم يبحث فيه عن أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناء" .

وينفي "ابن عدي" أن يكون "غرض صناعة النحو هو المعاني"، فيقول:" فلا يغلطنك قصد النحويين بالألفاظ الدالة علي المعاني، وايجابهم فتحاً أو ضماً أو كسراً أو غير ذلك من حركاتها أو سكونها من قبل المعاني التي تدل عليها، وذلك أنهم يضمون الألفاظ الدالة علي الفاعلين وينصبون الألفاظ الدالة علي المفعول بهم وهذا هو فهم مشبه موهم أن قصد صناعتهم الدلالة علي المعاني، فيحملك ذلك علي أن تعتقد أن غرض صناعة النحو هو المعاني " .

ويستطرد "ابن عدي" فيقول:" ولو كان نظرها في المعاني علي أنها أغراضها وأفعالها وغاياتها، لوجب أن تكون المعاني هي التي يحدثها النحوي إذا كمل فعله الذي من شأنه أن يفعل من جهة ما هو نحوي،  حتي تكون ذات زيد وذات عمرو، وذات الضرب إنما تحدث عن فعل النحوي واستحالة هذا من الظهور بحيث لا يشك فيها من صح عقله البتة . وإذا تبين أنه لا يجوز أن تكون المعاني موضوعات لصناعة علم النحو ولا غرضاً لها فمن البين أنها ليست من صناعة النحو، وإن كان النحوي قد يقصد بالقول الدلالة علي المعاني، فإن ذلك منه ليس من جهة ما هو نحوي، بل من جهة ما هو معبر عما في نفسه بالقول، وما هو معبر عما في نفسه، إنما هو العبارة عن المعاني" .

وينتهي "ابن عدي" إلى القول "إن هاتين الصناعتين مختلفتا الموضوعين والغرضين. وذلك أن موضوع صناعة المنطق هو الألفاظ الدالة لا الألفاظ على الإطلاق... وموضوع صناعة النحو هو الألفاظ على الإطلاق: الدالة منها وغير الدالة". وابن عدي يقصد بذلك أن المنطق يختص بـ "الألفاظ الدالة على الأمور الكلية التي هي إما أجناس وإما فصول وإما أنواع وإما خواص وإما أعراض كلية". أما النحو فيختص بجميع الألفاظ الدالة على هذه الأمور الكلية وجميع الألفاظ غير الدالة على هذه الأمور الكلية .

ومن الملاحظ  أن استنتاج " ابن عدي" يتطابق مع ما خلص إليه "متي" ولو أنه مصوغ بطريقة ذكاء ؛ حيث إن المعاني هي حكر علي عالم المنطق وعندما يشغل النحويون أنفسهم بمعني عبارة معينة، فهم لا يفعلون ذلك كونهم نحويين، بل لأنهم ناطقون أصليون باللغة ويرغبون في التعبير عن آرائهم، ويتعامل مع المنطق، ومن ناحية أخري مع موضوع العبارات الدالة، وليس مع العبارات لذاتها، كما يتعامل مع تلك العبارات التي تدل علي المسائل الكونية، وليس مع المسائل المحددة . ويهدف إلي ربط هذه العبارات بطريقة تتوافق فيها مع الحقيقة (أو الواقع) . وهدف النحو إذن توفير هذه العبارة الصحيحة مع نهايات الحروف (الأصوات الصائتة) الصحيحة علي وفق قواعد اللغة العربية، وكما يتضح لنا من هذا الاستنتاج، علي الرغم من صياغته المعتدلة فإن يحيي بن عدي يرسم الخطوط ذاتها بين الحقلين ذاتها كما فعل متي من قبل .

ونظراً لعجز مثل هذا الاتجاه الذي حاول الفصل بين المنطق والنحو، فإن الربط بين العلمين أصبح هو الاتجاه العام، ومن ثم فقد بدأت – منذ أواخر القرن الرابع الهجري المصالحة بين العلمين علي يد " أبو سليمان السجستاني" المنطقي  (ت 391 هـ) تلميذ "ابن عدي" والذي ينقل عنه " أبو حيان التوحيدي قوله: " إذا اجتمع المنطق العقلي والمنطق الحسي فهو الغاية والكمال "، بل يقول أقواله المشهورة " النحو منطق عربي، والمنطق نحو عقلي، وجُل نظر المنطق في المعاني، وإن كان لا يجوز له الإخلال بالألفاظ التي هي كالحلل والمعارض، وجُل نظر النحوي في الألفاظ، وإن كان لا يصوغ له الإخلال بالمعاني التي هي الحقائق والجواهر .

ولم يكتف "أبو سليمان" بذلك بل يؤكد  بأن ".. النحو يرتب اللفظ ترتيباً يؤدي إلى الحق المعروف أو إلى العادة الجارية، والمنطق يرتب المعنى ترتيباً يؤدي إلى الحق المعترف به من غير عادة سابقة. والشهادة في المنطق مأخوذة من العقل، والشهادة في النحو مأخوذة من العرف، ودليل النحو طباعي، ودليل المنطق عقلي. والنحو مقصور، والمنطق مبسوط. والنحو يتبع ما في طباع العرب، وقد يعتريه الاختلاف، والمنطق يتبع ما في غرائز النفوس، وهو مستمر على الائتلاف. والحاجة إلى النحو أكثر من الحاجة إلى المنطق، كما أن الحاجة إلى الكلام في الجملة أكثر من الحاجة إلى البلاغة، لأن ذلك أول، وهذا ثان ؛ " والنحو أول مباحث الإنسان، والمنطق آخر مطالبه. وكل إنسان منطقي بالطبع الأول، ولكن يذهب عن استنباط ما عنده بالإهمال، وليس كل إنسان نحوياً في الأصل. والخطأ في النحو يسمى لحناً، والخطأ في المنطق يسمى إحالة. والنحو تحقيق المعنى باللفظ، والمنطق تحقيق المعنى بالعقل. وقد يزول اللفظ والمعنى بحاله لا يزول ولا يحول؛ فأما المعنى فإنه متى زال إلى معنى آخر تغير المعقول ورجع إلى غير ما عهد في الأول"  ؛ " والنحو يدخل المنطق، ولكن مرتباً له. والمنطق يدخل النحو، ولكن محققاً له. وقد يفهم بعض الأغراض وإن عرى لفظه من النحو، ولا يفهم شئ منها إذا عرى من العقل. فالعقل أشد انتظاماً للمنطق، والنحو أشد التحاماً بالطبع. والنحو شكل سمعي، والمنطق شكل عقلي. وشهادة النحو طباعية، وشهادة المنطق عقلية. وما يستعار للنحو من المنطق حتى يتقوم، أكثر مما يستعار من النحو للمنطق حتى يصح ويستحكم "  .

ويخلص أبو سليمان من شرح العلاقة الخاصة بين النحو والمنطق، فيقول " .. وبهذا يتبين لك أن البحث عن المنطق قد يرمى بك إلي جانب النحو، والبحث عن النحو قد يرمى بك إلي جانب المنطق، ولولا أن الكمال غير مستطاع لكان يجب أن يكون المنطقي نحوياً، والنحوي منطقياً ؛ خاصة واللغة عربية والمنطق مترجم بها ومفهوم عنها.

ولقد حرصت علي سوق عبارات " أبي سليمان " و التي نقلها لنا "أبو حيان التوحيدي"، لأنها تشير إلي هذا التحول المهم في الفكر العربي – الإسلامي، وبداية الإعلان الواضح عن فتح أبواب البحث النحوي لدخول الأسس المنطقية في مسائل هذا البحث منهجاَ وتطبيقاً.

فبعد البداية القلقة للعلاقة بين المنطق والنحو كما لاحظنا في المناظرة بين "أبي سعيد السيرافي " و "متي بن يونس "، تم التوصل إلي نوع من الهدنة ؛ حيث أُدخلت القواعد المنطقية في علم اللغة، حتي إن النحويين الذين قاوموا هذه الادعاءات – كما فعل " أبو سعيد " – لم تكن لديهم اعتراضات علي إدخال المفاهيم والتعاريف الجديدة إلي ميدان تخصصهم، وقد انتفع  " أبو سعيد"   في شرحه لكتاب سيبويه بالمصطلحات المنطقية وأجاد استخدامها، ليس باستعارتها جملة وتفصيلاً، ولكن بالاختيار المتأني للمفاهيم التي احتاج إليها في تحليله اللغوي .

ولم ينتقد "أبو سعيد"  كتاب سيبويه لنقص التعاريف الاصطلاحية فيه، ولكنه ألمح فقط إلي أن سيبويه لم يشعر بالحاجة إلي تعريف الاسم - مثلاً - كما عرضا آنفاً  في الفصل السابق، ثم يضيف تعريفاً من عنده، فيقول:" وأما الاسم فإن سيبويه لم يحده بحد ينفصل به عن غيره وينماز من الفعل والحرف،  وذكر منه مثالاً اكتفي به عن غيره، فقال: الاسم: رجل وفرس .وإنما اختار هذا، لأنه أخف الأسماء الثلاثية، وأخفها ما كان نكرة للجنس، وهذا نحو: رجل وفرس . إن سأل سائل عن حد الاسم، فإن الجواب في ذلك أن يقال: كل شئ دل لفظه علي معني غير مقترن بزمان محصل، من مضي أو غيره فهو اسم .

أما من ناحية علماء المنطق، فبعد أن هدأت الأمور استمر العلماء بهدوء في مزج العناصر المنطقية والنحوية ببعضها . وهذا هو النهج الذي نجده عند " أبو نصر الفارابي"،  الذي يتمتع برؤية واضحة لمجال النحو ويقوم بجهود حثيثة للتأكيد علي أهمية كونه علماً من العلوم، وهو بذلك يختلف عن رؤية "متي بن يونس" و "يحي بن عدي" السابقة إزاء النحو ؛ ونجده  كذلك عند "أبو حامد الغزالي " -المتوفى سنة  505هـ من بعده، والذي أعطي شرعية دخول المنطق لعلوم المسلمين بعد الفتوي التي وضعها في أوائل كتابه " المستصفي من علم الأصول " ؛ حيث قال بأن " من لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلاً" . وعلي هذا الأساس اعتبر أن استخدام منطق أرسطو يعد شرطاً من شروط الاجتهاد وفرض كفاية علي المسلمين، الأمر الذي شجع النحاة المتأخرون بعد ذلك إلي مزج النحو بالمنطق بدون خجل أو مواربة.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم