قضايا

مشروعية العلاقة بين المنطق والنحو عند نحاة القرن الرابع الهجري (1)

محمود محمد علياتبع نحاة القرن الرابع الهجري نهجا جديدا في دراساتهم ومصنفاتهم النحوية، يقوم علي الانتخاب من آراء المدرستين،البصرية والكوفية جميعاً، وكان من أهم ما هيأ لهذا الاتجاه الجديد أن أوائل هؤلاء النحاة،وهو "الكسائي" رحل إليها ليذيع فيها علمه وآراءه، فقربه الخليفة العباسي الخامس "محمد المهدي" (ت: 169هـ) إليه، وجعله في حاشية ابنه "هارون الرشيد " (ت: 149هـ)، وحين آلت الخلافة إلي الرشيد ندبه لتأديب ولديه الأمين (ت: 198هـ)،  والمأمون (ت: 218هـ)، ولما مرض الكسائي، وتقدمت به السن، طلب الرشيد منه أن يختار من يخلفه في تأديب أولاده، فاختار من أصحابه " علي بن المبارك الأحمر "(ت: 194هـ)، وهكذا استطاع الكسائي أن يُمكن للمذهب الكوفي في بغداد، وحظوته عند الرشيد هي التي رفعت مقامه عند وزرائه، وهي التي فصلت في المناظرات التي عقدت في مجالسهم بينه وبين سيبويه (إمام أهل البصرة في النحو)، وبينه وبين غيره كالأصمعي (ت: 216هـ)، وأبي محمد اليزيدي (ت: 310هـ)، وتدخلت في اغتصاب الفوز له في أكثر المسائل التي طرحت على بساط البحث بينه وبين مناظريه .

وتذكر المصادر أيضاً أن من أئمة المذهب الكوفي الذين اتصلوا بقصر الخلافة  " الفراء"، فقد ذكرنا عنه في الفصل السابق أنه عهد إليه الخليفة المأمون بتأديب ولديه، وكان له عندهما منزلة عظيمة، وقد بالغا  في احترامه، وإظهار الحفاوة له، يدل علي ذلك ما قيل من أن الخليفة أطل عليه ذات يوم فرآه عندما انتهي درسه مع ولديه تسابقا في إحضار نعليه، فناداه وسأله عمن هو أعز الناس ؟ فقال الفراء : أعز الناس هو أمير المؤمنين، فقال له المأمون : بل أعزهم هو من إذا نهض تقاتل علي تقديم نعليه وليا عهد المسلمين، حتي يرضى كل واحد منهما أن يقدم له فردا .

وكان لسيطرة الكوفيين علي مجالس الدرس النحوي في بغداد أول نشأتها أسباب كثيرة دعت إلي أن يُؤثر الخلفاء العباسيون ثقافة الكوفة على ثقافة البصرة، حتي صار " أبو العباس أحمد بن يحي ثعلب الشيباني"(200-291هـ)،  وهو كوفي المذهب، وإمام النحاة فيها لعصره، يعمل جاهدا علي دعم المذهب الكوفي، ويستعين على ذلك بأنصاره، وفي مقدمتهم " أبو بكر بن الأنباري "، و" أبو بكر بن السراج " و" وأبو إسحاق الزجاج" .  وكان من أهم هذه الأسباب التي مكنت للنحو الكوفي الانتشار في العراق، أن انتقال الخلافة العباسية إلي بغداد كان من الكوفة، ومن الهاشمية بالذات القريبة منها، فتبع علماء الكوفة انتقال الخلافة وواكبوها. علاوة على أن الكوفة كانت أقرب مسافة من البصرة إلى بغداد، فهي في منتصف الطريق بين البصرة وبغداد، وربما كانت المسافة أقل من ذلك، مما جعل استقدام العلماء منها أسهل وأسرع، وهنا يقول أبو الطيب اللغوي :" فلم يزل أهل المصرين علي هذا حتي انتقل العلم إلي بغداد قريباً، وغلب أهل الكوفة علي بغداد، وحدثوا الملوك فقدموهم، ورغبوا الناس في الروايات الشاذة وتفاخروا بالنوادر، وتباهوا بالترخيصات، وتركوا الأصول واعتمدوا علي الفروع .

وقد كان لهذا أثره، كما ذكرنا من قبل، في أن  أخذ الخلفاء العباسيون يقربون الكوفيين، ويتخذون من علمائهم معلمين لأولادهم، فيكون" المفضل الضبي" (ت:168) معلما للمهدي، ويكون الكسائي معلما للرشيد، ثم جليسا ملازما له، ومعلما لولديه الأمين والمأمون، ويكون الفراء صديقا للمأمون ومعلما لأولاده، ويكون ابن السكيت (ت: 244هـ) معلما لأولاد المتوكل . وقد يرتقي المقام بواحد من علماء البصرة،فينافس زميله الكوفي في خدمة الخليفة، أو في تعليم أبنائه كما نافس المبرد ثعلبا في تعليم عبد الله بن المعتز (ت: 296هـ) .

علي أنه لما كانت أكثر هذه الخلافات شخصية، لم يقصد بها وجه العلم، فإنه من الملاحظ أن انتصار الكوفة في بغداد لم يكن انتصارا لمذهبها النحوي علي مذهب البصرة، وإنما كان نصرا سياسيا،أو شخصيا فحسب ؛ أي كان نصرا لعلماء الكوفة لا لعلمها.

بيد أن الأقدار قد شاءت أن يجئ إلي بغداد " أبو العباس بن المبرد" عائدا من سامراء بعد مقتل " أبي الفضل جعفر المتوكل (205-   247هـ )"، الذي استدعاه ولازمه بقية حياته، فاستخدم نباهته وذكاءه ولباقته وسعة علمه،وتطور منهجه في البحث النحوي، واستخدامه وسائل الاحتجاج، والاستدلال، والتعليل، والنقض،والإعادة في تدريسه ومحاضراته، فاستطاع أن يشق له طريقا وسط هذا الزحام الكوفي المتسلط علي مجالس الدرس، وأوجد له مكانا بين المحاضرين في مسجد بغداد، واستقطب إلى درسه عددا كبيرا من الدارسين، من بينهم الكثير من أصحاب " ثعلب"، وكان من أشهرهم " أبو إسحاق الزجاجي" الذي كان أول من ناظره وأعجب بطريقته في الاحتجاج، والتعليل،  والشرح، والنقاش، فلازمه مطرحا ما كان معه من كتب المذهب الكوفي قاطعا صلته بشيخه الأول ثعلب .

وفعل مثل ذلك " أبو علي الدينوري" (ت:331هـ) ختن " ثعلب"، وكثر حوله الدارسون، منهم من لازمه، ومنهم من بقي ينتقل بين حلقته وحلقة ثعلب، ليطلع علي نحو المذهبين، ومنهج المدرستين،وليوازن بين علم الشيخين، وأسلوب الدرس عندهما، فنشأت حركة علمية نحوية تقوم علي التنافس بين الشيخين، وبين أصحابهما المتعصبين لهما، وقويت هذه المنافسة واشتدت وزاد عدد المتعصبين للمبرد، وبتعبير أدق المنحازين إليه، ووجد النحو البصري على أيديهم من بعده من العناية والاهتمام ما كان يحل به شيوخه الراحلون مثل سيبويه، والمازني، والأخفش وغيرهم، ونال كتاب سيبويه حظوة عظيمة، فقد كان عليه اعتماد الدارسين في مجالس درسهم،أقرأهم المبرد إياه،وشرحه لهم وجسرهم على الخوض فيه، ومن ثم التعمق في فهمه،ونقده، والاختيار منه .

واختفت كتب النحو الكوفي إلي حد ما ؛ ولا سيما كتب " الفراء "، بعد أن انزاح أثره واطرح لاطلاعهم علي ما هو أوسع، وأشمل، وأثبت، وأصح، وهو النحو البصري ممثلا بكتاب سيبويه، وهكذا خبت سيطرة النحو الكوفي على مجالس الدرس النحوي في بغداد، بعد أن استمرت حوالي قرن ونصف وتوهجت شعلة النحو البصري بآرائه، وكتابه وشيوخه من البغداديين الذين اقتفوا أثر أستاذهم المبرد في العناية بهذا النحو الأصيل .

ونحن لا نعني بظهور هذه الطائفة الجديدة من النحويين في بغداد زوال المذهبين السابقين : البصري والكوفة، ولا نعني اندماجهما في مذهب جديد، وإنما نعني بقاء المذهبين البصري والكوفي في بغداد جنبا إلي جنب بقاء لا أثر فيه للتنافس الشخصي، أو التناحر علي النفوذ والسلطان . فلقد كانت هناك كثرة من علماء بغداد أخذت بالمذهب البصري أخذ بحث واقتناع،  لا اخذ هوى وتعصب .

وكانت هناك قلة منهم أخذت بمذهب الكوفة وناصرته، وكان ممن قال بآراء البصريين، من نحاة القرن الرابع الهجري في بغداد : أبو إسحاق إبراهيم الزجاج، وأبو سعيد السيرافي، وأبو علي الفارسي، وأبو الحسن علي بن عيسي الرماني، وأبي علي الصفار (ت 314هـ)، وأبي محمد عبد الله بن درستويه (ت 347هـ) ، وغيرهم . وكان ممن أخذ بمذهب الكوفيين "أبو موسي محمد بن أبي سليمان الحامض"    (ت 305هـ) ، و"أبو بكر أحمد بن شقير" (ت 317هـ) ، و "أبو بكر محمد بن الأنباري" (ت 327هـ)، والخليل بن أحمد السجزي (ت 378هـ) القائل :

وأجعل في النحو الكسائي عمدتي ومن بعده الفراء ما عشت سرمدا .

وكان إلى جانب هؤلاء النحويين – الذين نعدهم امتدادا لمدرستي البصرة والكوفة في بغداد – نحاة آخرون خلطوا بين المذهبين، مثل أبي محمد عبد الله بن قتيبة الدينوري (ت 276هـ) ،وأبي علي بن سليمان الأخفش (ت 315هـ) ، وأبي بكر محمد بن الخياط (ت 320هـ).

وهكذا تمثلت تلك النزعات في نحاة هذا الجيل، إذ كانوا يتمسكون بالرأي الذي يستريحون له، يغلب علي ظنهم صحته سواء أكان موافقا لرأي البصريين أم الكوفيين ؛ فلا تعصب لأحد الفريقين علي الآخر، وأحيانا نري لهم آراء جديدة وصلوا إليها باجتهادهم، وهذه هي سمات المذهب البغدادي، وقد ظهرت بشكل أوضح في القرن الرابع الهجري، فما كاد فجر هذا القرن يبزغ حتي تهيأت الأسباب لتثبيت هذا المذهب، وتوطيد دعائمه، فكانت حرية البحث مكفولة لدي العلماء لأن بغداد قد استقرت العلمية فيها، وقد ازدهرت تلك الحياة بصورة واضحة بعد هجرة علماء البصرة والكوفة إليها، بسبب فتن الزنوج والقرامطة التي اشتد خطرها علي هذين المصرين في تلك الحقبة، فهجرها العلماء، وأخذوا يفدون علي بغداد وتضافر الجميع علي النهوض بالعلم متناسين الأحقاد، وساعد علي ذلك انقراض المجتهدين من المذهبين : البصري والكوفي، فكان " المبرد "،و هو من أئمة البصريين، كما كان "ثعلب"،  هو آخر أئمة الكوفيين، ومن ثم خلا الجو للعلماء يختارون ما يرجح دليله، ويقوي برهانه، دون تحيز أو مجاملة، كما نري ذلك واضحا عند علماء المذهب البغدادي الذين ظهروا في هذه الفترة، ويُعدون بحق أئمة هذا المذهب مثل : أبي سعيد السيرافي"، و"أبي علي الفارسي"، و"أبي الحسن الرماني"، و"أبي الفتح عثمان بن جني (ت 392هـ) "، و"أبي القاسم الدقاق (ت 415هـ)" ، و"أبي الفرج علي بن ابن عيسي الربعي (ت 420هـ)" .

ولست هنا متحدثا عن قيام مدرسة بغداد، فقد ثبت ذلك وكتب عنها كثيرون في القديم والحديث، وألف كل منها بحثا مستقلا، ويكفينا ما كتبه من المحدثين الدكتور "محمد حسني محمود"  في كتابه "المدرسة البغدادية في تاريخ النحو العربي"، فقد تكفل سيادته ما يمكن أن أقوله في هذا المقام... وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم