قضايا

مشروعية العلاقة بين المنطق والنحو عند نحاة القرن الرابع الهجري (3)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في هذا المقال الثالث عن خصوصية الصلة بين المنطق والنحو عند نحاة القرن الرابع الهجري، وفي هذا يمكن القول: التزم ابن السراج منهج التعليل اللغوي في اختياراته لكثير من الآراء النحوية، إذ لم يسلم بالاختيار المنقول من غيره جزافا، بل كان يدعم هذا الاختيار بسبب مستنبط من أحكام قانون اللغة ومقاييسها، وهي في جوهرها أحكام تفسر الواقع اللغوي المسموع، كى لا يجعل من هذا الاختيار مناقضا لنظام اللغة ومقاييسها، وكأنه يعلل الظاهرة اللغوية مستندا في ذلك إلى نظام العلاقات التركيبية بين الصيغ، والمفردات،وعناصر الجملة الواحدة، مما ينبئ بالتأثر بالمنطق  في البحث اللغوي، وقد تنوعت العلة عنده بين القياس،والسماع، والحمل على النظير، وأمن اللبس، والشبه، والاستثقال، ولبس المعنى، والحمل على المعنى،وغيرها، وفيما يلي بعض الآراء التي عللها ابن السراج في كتابه الأصول علي سبيل المثال لا الحصر:

أ - علل ابن السراج عدم إجازته ترخيم رجل اسمه (عرقوة)على: يا (عرقو)، قياسا على ترخيم (حارث)، عندما تقول: يا حار،إذ قال: " فإن كان قبل الطرف حرف يعتل في أواخر الأسماء، وينقلب إلى ياء، نحو: رجل سميته (عرقوة) إن رخمت فيمن قال: يا حار، قلت: يا عرقي أقبل، ولم يجز أن تقول: يا عرقو ؛ لأن الاسم لا يكون آخره واوا قبلها حرف متحرك ... ومن قال: يا حار، فإنما يجعل الراء حرف الإعراب، ويقدره تقدير ما لا فاء فيه فيجب، عليه أن لا يفعل ذاك إلا بما مثله في الأسماء".

فتقلب الواو ياء،والضمة قبلها إلى كسرة ؛ لأنه ليس في الكلام اسم في آخره (واو) قبلها ضمة.

ب - علل ابن السراج عدم إجازته الإضمار والإلغاء في الأفعال المؤثرة ـ وهي الأفعال التي تتعدى إلى ثلاثة مفعولات ـ فذكر أن من قال: ظننته زيد قائم  فجعل الهاء كناية عن الخبر والأمر، وهو الذي يسميه الكوفيون المجهول، لم يجز له أن يقول في: أعلمت زيدا عمرا خير الناس، أعلمته "زيد عمرو خير الناس "؛ لأنه يبقى زيد بلا خبر، وإنما يجوز ذلك في الفعل الداخل على المبتدأ والخبر، كما لا يجوز الإلغاء ؛ لأنك تحتاج إلى أن تذكر بعد الهاء خبرا تاما يكون هو بجملته تلك الهاء، والأفعال المؤثرة لا يجوز أن يضمر فيها المجهول، وإنما تذكر المجهول مع الأشياء التي تدخل على المبتدأ والخبر، نحو: كان وظننت، وأن، وما أشبه ذلك .

فهو لا يجيز قياس الأفعال التي تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل على الأشياء التي تدخل على المبتدأ والخبر كـ(كان)، و(ظن)، و(أن) وما أشبهها ؛ لأن ما يدخل على المبتدأ والخبر يجوز فيه الإلغاء والإضمار، وما تعدى لثلاثة مفاعيل لا يجوز فيه الإضمار والإلغاء .

جـ - لا يجيز ابن السراج تقديم الحال على العامل سواء أكان العامل فعلا لا يصل إلا بحرف، أو إذا كان العامل غير فعل، ولكن شيئا في معناه، وعلل عدم إجازته بقوله: " تقول: مررت بزيد راكبا ؛ فإن كان الفعل لا يصل إلا بحرف جر، لم يجز أن تقدم الحال على المجرور، إذا كانت له، فتقول: مررت راكبا بزيد، إذا كان (راكبا) حالا لك، وإن كان لزيد لم يجز؛ لأن العامل في زيد الباء، فلما كان الفعل لا يصل إلى (زيد) إلا بحرف جر، لم يجز أن يعمل في حاله قبل ذكر الحرف" (45)، وإن كان العامل غير فعل، ولكن شيء في معناه لم تقدم الحال على العامل ؛ لأن هذا لا يعمل مثله في المفعول، وذلك قولك: زيد في الدار قائما، لا تقول: زيد قائما في الدار، ولا يجوز: جالسا مررت بزيد، لأن العامل الباء، ومحال أن يكون (جالس) حالا من التاء ؛ لأن المرور يناقض الجلوس.

فقد جعل ابن السراج عدم إجازة تقديم الحال على العامل إذا كان فعلا   لايصل إلا بحرف قياسا على عدم إجازة تقديم الحال على عامله المعنوي، وهو ما تضمن معنى الفعل دون حروفه كأسماء الإشارة، وحروف التمني، والتشبيه،والظرف،والجار والمجرور.

ومن جهة أخرى يعتمد ابن السراج قياس (المعادلة) علة من علل النحو المنطقية في الرد على النحاة، كالمعادلة بين الصفة وموصوفها، فلا تأتي الصفة أخص من موصوفها  وقد رد على من وصف الخاص بالعام ؛ لأن ذلك يخرج الموصوف إلى العموم، وإنما يجيز ذلك إذا اكتفى القول بذكر الصفة من دون موصوفها، وبذلك عد ابن السراج الصفة وموصوفها كالشيء الواحد .

ومن خلال هذه الأمثلة يتبين لنا أن ابن السراج اعتمد مبدأ التعليل في عرض المسائل الخلافية بينه وبين الآخرين، وهي سمة ظهرت في أغلب الآثار العلمية التي طالعتنا في القرن الرابع الهجري بتأثير المعارف،والعلوم الفلسفية الأخرى،وتداخل مناهجها مع منهج البحث النحوي، وقد تعددت عنده هذه العلة المعروفة بالعلل الأوائل، وهو أول من قال بالعلة الثانية .

وإذا ما انتقلنا إلي تلاميذ ابن السراج الذين سعوا إلي مزج النحو بالمنطق،فندكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر:

1- أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، فقد ذكر الزجاج أنه أخذ عن ابن السراج .

2- أبو سعيد السيرافي، فقد قرأ علي أبي بكر بن السراج وأبي بكر بن مبرمان النحو (50). وفي شرح كتاب سيبويه، نجد الكثير من آراء ابن السراج النحوية والصرفية الممزوجة بالمنطق.

3- أبو علي الفارسي.. الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن أبان الفارسي الفسوي الإمام العلامة، فقد قرأ النحو علي أبي اسحاق وعلى أبي بكر بن السراج (52)، وكذلك اطلع علي المسائل المشروحة من كتاب سيبويه للمبرد، وقرأها علي ابن السراج كما روي كتاب التصريف عن ابن السراج عن المبرد .

4- الرماني: أبو الحسن علي ابن عيسي الرماني. أخذ النحو عن أبي بكر بن السراج وابن دريد والزجاج، وهم الشيوخ الذين حملوا علم البصرة في بغداد، وقد شرح الرماني كتاب الموجز لابن السراج .

وقد تميز كل منهم بطابع في عملية مزج النحو بالمنطق، وسبيلنا الآن هو عرض أفكارهم في ذلك المزج، وذلك على النحو التالي:

ثانيًا: أبو القاسم الزجاجي:

لقد كانت ثقافة الزجاجي ثقافة عالم عاش في أواخر القرن الثالث الهجري، وأدرك أربعين سنة من القرن الرابع، هذا القرن الذي حفل بنتاج خصب للعقلية الإسلامية في أوج نضجها ورقيها، فعاصر الأخفش علي بن سليمان، وابن السراج، وابن الأنباري، والسيرافي،وغيرهم، وكان واحدا منهم، بل من أكثرهم نشاطا في العلم والتأليف .

وتظهر لنا سعة ثقافته في مؤلفاته الكثيرة، وما تتصف به من عمق وتنوع، وكأنه جمع في نفسه ما تفرق عند شيوخه من فنون العلم ؛ فقد كان منهم اتسع أفقه في النحو،كالأخفش علي بن سليمان وابن الخياط، وابن كيسان ؛ فكان الزجاجي مثلهم في سعة العلم     بالنحو،وما يتصل به من اختلاف المذاهب وتشعب الآراء .

ولم تكن ثقافة " الزجاجي " عربية فحسب، إذ كان عارفا لبعض اللغات الأخرى، وقد ذكر ذلك دون أن يصرح بهذه اللغات أو يعينها، فقال في معرض حديثه عن أقسام الكلام،وكونها لا تخرج عن اسم، وفعل، وحرف:" وقد اعتبرنا ذلك في عدة لغات عرفناها سوى العربية فوجدناه كذلك ".

وقد وصفه البعض بأن الزجاجي  كان ذا أسلوب رصين، ومنطق محكم متين، نفس طويل، بلغ ميادين الجدل ؛ بل يفتح علي نفسه أبوابه، ويختلق لخصومه الحجج، ويتعلل لهم ليعود علي الحجج بالنقض، وعلى العلل بالإبطال، صنيع علماء المنطق في إيراد أدلة خصومهم لهدم وبناء آرائهم علي أنقاضها، وله منهج  يختلف عن منهج " ابن السراج "، في تناول مسائل المنطق ؛ فابن السراج يمزجها مزجًا بالنحو فهو إذا يقايس،أو يعلل، أو يبرهن،أو يذكر القضايا يجعل ذلك وغيره من مسائل المنطق في ثنايا نحوه وتضاعيفه، يورده،ويتحدث عنه، حتي يصير المنطق مع نحوه، وحدة لا تتجزأ وكيانا متضامنا لا ينفصل .

يقول الزجاجي في كتابه "الإيضاح في علل النحو"، بعد أن يسوق جملة من تعريفات الفلسفة: "وإنما ذكرنا هذه الألفاظ في تحديد الفلسفة هاهنا، وليس من أوضاع النحو؛ لأن هذه المسألة يجيب عنها من يتعاطى المنطق، وينظر فيه، فلم نجد بدًا من مخاطبتهم من حيث يعقلون، وتفهيمهم من حيث يفهمون". ولعل هذه العبارة كافية للدلالة على منهج الزجاجي،من حيث الأخذ بمقولات المناطقة،حين يكون الأمر أمر اضطرار.

وقد ذكر الزجاجي نفسه مرارًا  أنه نحوي، ولا يرغب في الحديث عن اللغة بالتصانيف نفسها كما يفعل علماء المنطق، فمثلا عند مناقشة تعريف الاسم، يقول إن هناك تعريفاً واحداً حيث إن الاسم – علي وفق ذلك التعريف:" صوت موضوع دال باتفاق علي معني غير مقرون بزمان " .

ومن الواضح أن الزجاجي قد استوعب قضية الحد المنطقي استيعابا طيبا تكشف عنه تلك الصفحات التي عقدها حول اختلاف النحويين في تحديد الاسم والفعل والحرف، فهو يروي على لسان المناطقة أن الحد هو قول وجيز "يدل على طبيعة الشيء الموضوع  له" . وهذا الحد هو نفسه تعريف أرسطو للحد، وهو نفسه أيضاً التعريف الذي فضله الفارابي في مقدمته لإيساغوجي . وهذا بالطبع نوع من تعريف أرسطو للاسم . ويقدم الزجاجي هذا التعريف بقوله:" لأن المنطقيين وبعض النحويين قد حدوه حداً خارجاً عن أوضاع النحو ". كما يضيف قائلاً " وهو علي أوضاع المنطقيين ومذهبهم لأن غرضهم غير غرضنا، ومغزاهم غير مغزانا" .

وهو نفسه يحبذ تعريف آخر للاسم " الاسم في كلام العرب ما كان فاعلا أو مفعولا أو واقعا في حيز الفاعل والمفعول به" . ومن الجدير ذكره هنا أن ثمة دليلاً ما أن هذا التعريف الأخير ينم كذلك عن بعض ملامح التأثير الإغريقي، حيث تعرف الأجسام أو المواد في الفلسفة الرواقية كونها أشياء إما أن تفعل أو يفعل بها، وربما كان ذلك أصل استخدام الزجاجي لمعياري الفاعلية، أو المفعولية في تعريف الاسم .... وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم