قضايا

قِيمٌ مِن اللغة (8)

مجدي ابراهيملم تكن فكرة العلاقات المنوعة بإطلاق بين اللغة وقِيَمَها؛ لتوافق العلاقة بين المرء وقلبه - كما تقدَّم في الفصول السابقة - أو العلاقة بين المرء وضميره، أو العلاقة بين المرء وقلمه، أو العلاقة بين المرء وفكره، أو العلاقة بين المرء ولسانه؛  أو حتى مجمل العلاقة بين المرء وقضاياه الوطنية والقومية، بالبعيدة البعيدة إذا هى مَسَّت جوهر الإنسان وحقيقته الباطنة، وصارت اللغة تعبيراً يصدر عن هذا الوجود الروحي، إنْ في تدهورها والنكوص بها إلى الحضيض، وإنْ في تأصُّلها وتطورها في الوجدان العربي. فلا ريب تتقدَّم اللغة بتقدّم هذه العلاقات وتتأخر بتأخرها؛ لأنها في الأصل علاقة الإنسان بقيَمه، وعلاقته بوجوده الروحي الخالد الباقي الممتد، دون الوجود المادي الزائل الفاني المحدود.

فالمفكر، والكاتب، والباحث، والمؤرخ، والأديب، والصحفي، والمثقف على وجه العموم؛ هم جميعاً أطياف تشكل ذوق الأمة، مسئولة عن النكوص باللغة والتدهور فيها، وتردي ذوق الكلمة، وهم كذلك المسئولون أمام الله والوطن عن تأصيل اللغة وتطورها وبيان أسرارها والتهيئة لتذوقها، وتمهيد الاستعداد لمحبتها، أو كراهيتها، بما يجري تحت سنان أقلامهم من استعمال اللفظ وتبعة التغيير وصدق التحليل وبلاغة الوضع والاشتقاق والارتفاع بما فيها من ذوق وقياس إلى مسِّ خفايا الوجدان.

ولما كانت اللغة هى أعظم مقوم من مقومات القومية العربية : الصورة المُلهمة للكيان العربي بأصله، إذْ كانت هى الثقافة، وهى الإحساس، وهى التعبير عن العقيدة -  دينية كانت أم فكرية - وهى الوطنية، وهى قبل ذلك الطريقة التي يتفاهم بها أبناء المجتمع العربي قاطبة حين يكون هذا التفاهم قائماً على الوعي بالتعامل الإيجابي، يسيغُه الذوق السليم في طبع العربي، صارت بالضرورة لا تنفصل عن الوجود العربي في شتى صوره ولا في أخص خصائصه، ولا عن الكيان العربي في أميز ما يُظهر خصائصه، وفي أظهر ما يخص مظاهره، وصار الدفاع عنها وعن وجوب التمسك بها دفاعاً عن "الوجود"، وعن "الكينونة العربية"، وعن "الهوية"؛ وعن سلامة القلوب والضمائر قبل سلامة الألسنة والحناجر.

إنما عنيتُ الدفاع عن ذلك الكيان الوجودي الذي يتطلب من "الإرادة العربية الواعية" ما يتطلبه من مقاصد تتحقق فيها تلك الإرادة تحققاً ضرورياً يقوم فيما يقوم على اللغة، وكيفية أدائها واستخدامها، وقلة التهُّيب من العودة إلى عيونها الأصيلة، وطرق الوصول إلى تذوقها في عنصر الوعي العربي الفاعل البناء. وإنّ لغتنا الجميلة الشاعرة لهى الأقدر على تنمية الوعي العربي، وعلى تطوره وارتقاءاته، وهى الأفعل في ذلك كله، وهى الأصوب في تقدير كل "قيمة" تقوم على الإدراك الذاتي الواعي بكل خصائص العروبة فينا.

ولئن كانت الإرادة العربية الواعية، تقوم على اللغة وكيفية أدائها، وعلى التدريب عليها في عنصر الوعي الفاعل الأكيد الناهض؛ فلقد صارت الروح العامة التي يتطلع إليها كل عربي يفخر بعروبته هى موطن الفاعلية الحاصلة من طريق اللغة (لأنها أداة التواصل) ولا شيء غير هذا، إلا أن يكون هذا الشيء بمثابة الفرع اللاحق عل أصله، والأصل الذي يضم فروعه. عندي أن اللغة تعبيرٌ عن العقل العربي، تعكس وعي هذا العقل بالجملة فضلاً عن التفصيل، ما لم تكن في الأساس تشكل هذا الوعي لينعكس بدوره في مدارك العقل العربي.

والعقل هو الذي يفرز الثقافة العربية. والثقافة العربية التي هى نتاج هذا العقل لا تتسمُ بميسم العروبة إلا إذا جمَّعت في غير تفريق، وضمَّت خيوطها المتفرقة واتجاهاتها المشتتة تحت راية التوحُّد؛ فكل ثقافة أصيلة لا تهدف إلى الوحدة فهى عبثُ لا ينتظر منه رجاءً. والدين الذي تعتقده هذه الثقافة في أغلبها هو دين "التوحيد" ولكنه ينقلب من فوره مع الفرُقة والشتات إلى تجسيد قبيح، يحقق دعوى المستشرق الفرنسي "أرنست رينان" E.Renan (1823-1892)، القديمة في العقل العربي المسلم، أو العقل السامي على التعميم، حين وصفه بأنه عقل لم يثمر أي بحث فلسفي خاص، وحين نعته هو وزميله "ليون جوتييه"(Leon Gautier) بأنه عقل مُباعدة وتفريق لا جمع وتأليف. ورينان هذا، كان أستاذ اللغات السامية، وأعرف الناس بالمسلمين في عصره، أيكون الرجل قد أطلع من طريق بصيرته النافذة إلى طبيعة العقل العربي، فأصاب - فيما أطلع عليه - كبد الحقيقة حين أطلق هذا القول ليتحقق اليوم بصورة واقعية؟

نعم ! إن الواقع الثقافي الآن لينطق بصحة ما يقوله رينان، ناهيك عن الواقع السياسي والاجتماعي والفكري، ولك أن تضيف أنت ما شئت من واقعات الحياة العربية المتردية !

إنها لدعوى كانت شائعة في القرنين الماضيين، تابعه فيها "ليون جوتييه" في كتابه "المدخل لدراسة الفلسفة الإسلامية"؛ فقيل مثلاً :" إنّ هناك نفساً ساميِّة فطرت تديناً على التوحيد، وفناً ولغة ومدنية على البساطة، بينما النفس الآرية مفطورة في عقيدتها على التعدد، وفي علمها وفنها على انسجام التأليف. وأن الساميين فطروا على غريزة التوحيد والبساطة في كل شيء : في الدين، والفن، واللغة، والحضارة، وأن عقليتهم عقلية فصلُ ومباعدة، لا جمع ولا تأليف؛ فلا قِبَل لهم إلا بإدراك الجزيئات والمفردات منفصلة، أو مجتمعة، في غير تناسق ولا انسجام؛ وأن الجنس السَّامي والجنس الآري يتجهان اتجاهين متضادين تمام التضاد مثل طرفي مقابلة ..." (ص105من الترجمة العربية).

فالعقلية السَّاميَّة تميل - فيما يقول ليون جوتييه - إلى قَرْنِ الأشباه والأضداد دون ربطها بما يجعل منها وحدة، بل تتركها منفصلة بعضها عن بعض، ثم تنتقل من إحداها إلى الأخرى دون واسطة، بوثبة فجائية فيما يشبه القفزة. أمّا في العقلية الآرية؛ فالأمر بالعكس، إذْ إنها تنزع إلى الربط بين هذه وتلك بوسائط متدرِّجة؛ فلا تنتقل من طرف إلى طرف إلا بدرجات لا تكاد تكون محَسَّاً بها بالقدر الممكن. إنها تسير على نظام الألوان المذاب بعضها في بعض؛ وبما أن العرب قد فطروا على إدراك الجزيئات والمفردات وحدها؛ فليس لهم قِبَل باستخلاص قضايا عامة ولا استنباط قوانين كلية، وليس لديهم مكنة الوصول إلى فروض ونظريات. ومن العبث أن نلتمس لديهم آراء علمية أو دروساً فلسفية مبتكرة، خصوصاً وقد ضَيَّقَ الإسلام آفاقهم - هكذا يقول رينان - وأنتزع من بينهم كل بحث نظري، وأضحى الطفل المسلم يحتقر العلم والفلسفة...!

أقولُ؛ لئن كان العربُ على ما تقدَّم في رأي كل من "أرنست رينان"، و"ليون جوتييه" بتلك الأوصاف، فلست أجد بدوري هنا - مع القطع بعدم صحة هذه الآراء من أساسها عندي؛ لأنها قائمة على العنصرية البغيضة - إلا أن أستخلص منها نتيجتين :

النتيجة الأولى : تتلخص في أن افتقار العربي المسلم المفطور على غريزة التوحيد، لم يجعله يتمكن في ذاته أن يُفعِّل هذه الغريزة على المستوى العقلي والثقافي، ولكنه ينتكص على عقبيه، ويعودُ أدراجه مستغرقاً في التجزيئية المُفرطة، ولم يهيئه توحيده الفطري؛ لأن يجري عليه ممارسته العملية والواقعية؛ فأضحى تدينه في كفة، ونشاطه الفكري والثقافي والعلمي في كفة أخرى، فجاءت عقليته عقلية فصل ومباعدة لا ربط فيها ولا توحُّد بين أجزائها، وليس بمقدورها أن تصل إلى "الوحدة" التي هى غريزتها الأصيلة المفطورة عليها. لكأنما العربي لم يستطع أن يفهم : ماذا عَسَاها تكون غريزة التوحيد، وماذا عَسَاها كانت تكون فطرة الوحدانية؟ لكأنه لم يستطع بعدُ - لأجل تدينه الساذج البسيط - أن يكوِّن لديه "رؤية موحَّدة"، يجريها على الواقع الفكري والنظري، تماماً كما يجريها على الواقع الفعلي والتطبيقي، كما هى مُقررة قبلاً في الواقع الديني بالفعل، إذْ أن فكرة "الرؤية الموحدة" تلك، إنما هى فكرة دينية بالأساس، مصدرها الدين لا الفلسفة؛ فلو صَحَّ أن الفلاسفة نادوا بها أو قصدوها فيما نادوا فهى مُستلهمة من الدين مؤسسة عليه، وليس للعقل فضل فيها إلا فضل الشرح والتحليل، ثم ما معنى أن تكون متديناً بدين التوحيد الذي فطرت عليه تمارسه شكلاً دون أنْ تجريه واقعاً فكرياً وثقافياً ومعنوياً وروحياً؛ ليكون هو عينه مجرى التجربة على المستوى الفعلي والتطبيقي؟!

من ذلك ترى؛ أن التوحيد الفطري في سليقة العربي لم يكن عائقاً أبداً لديه عن إجراء البحوث النظرية والفكرية، أو الوصول بمقتضاه إلى قوانين عامة وقضايا كلية؛ لأن هذه وتلك هى من مقررات الفهم الصحيح للتوحيد المفطور عليه المسلم في طبعه العربي، إنما العائق الوحيد أمام العقل العربي يبدو ظاهراً جلياً في قلة الفهم أو عدمه لفطرة التوحيد، وتعطيل فاعلية الوحدة على صعيد الممارسة السلوكية، ونبذ قوتها واستبدالها بضعف الفرقة والخلاف والتشتت الدائم  والاستغراق في التفاصيل والجزئيات؛ لتجيء التجزيئية هى العاملة في واقع أسود مُغرق في المحدودية النظرية والعملية، الأمر الذي يجعل الباحث يشك كثيراً في أمته العربية والإسلامية : هل هذه بالفعل - والحال كما ترى - أمة تدين بالتوحيد عقيدة وعلماً ونظراً وسلوكاً وممارسة وتطبيقاً؟!

وهى إذا كانت تدين بالتوحيد فعلاً وتقريراً وواقعاً وتفصيلاً، لماذا عزلته عن واقعاتها الحياتية، فلم يسفر إلا عن فرقة وشتات : عزلته عن الواقع الفكري، فلم تستطع أن تتخذه أساساً لمنطلقاتها النظرية، وعزلته عن الواقع الفعلي، فلم تتحقق من مجرياته التطبيقية، ولم يؤثر قيد أنملة في وقائع تلك المجريات، وعزلته مرة ثالثة عن الواقع الديني، فأنتج واقع الأمة التي تدين بعقيدة التوحيد شكلاً ينقصه المضمون؛ أنتج أصناماً وأوثاناً تُعْبَد من دون الله في أشكال جديدة، وقدَّست المخلوقين بدلاً من تقديس الخالق، وآمنت بالخرافة والتخلف دون الإيمان بالفهم البصير والعقل المستنير!

ولم لا..؟! فإذا لم يكن التوحيدُ معزولاً عن الواقع الديني أصلاً لما أضحى معزولاً كذلك عن الواقع النظري والفكري ثم الواقع الفعلي؟! الأمر الذي جعل الإيمان الديني لدى المسلم قشرة سطحية تخلو أو تكاد من المضمون العملي؛ ذلك "المضمون" الذي لا نشك لحظة واحدة في أنه ينتج لغة ومدنية وعلماً وفناً وحضارة، ولو كان تدينه بالفعل مرهوناً ببصيرة التذوق الدافعة إلى العمل والإنتاج لربط كل الأشباه والأضداد وصعد بها عارجاً إلى توخِّي الوحدة. ولكن الواقع الثقافي العربي الحالي يقول لك بأبلغ لسان : إن هذه البصيرة الذوقية مفقودة أو تكاد، هى مفقودة وعندي من الأدلة على فقدانها :

أولاً : قراءة هذا الواقع قراءة مُستَبْصِرة جيدة ومتابعة الأحداث الجارية فيه من قريب، والانغماس فيها، وتحليلها والوعي بملابساتها ونتائجها في العقل والشعور.

وهى مفقودة ثانياً : لأنها في الأصل ما وجدت تامة، نشيطة، فعالة، وحيوية، إلا في فرع واحد من فروع الثقافة العربية والإسلامية، وأعني به "التصوف"؛ والتصوف بالنسبة للوعي العربي والإسلامي كان ولا يَزال يمثل تراثاً مهجوراً، يُنْبَذ اليوم من العقل العربي كما كان قبلاً منبوذاً بالأمس؛ ولو قدِّر لهذا الفرع أن يجري في حياتنا الفكرية والثقافية مجراه الطبيعي، وأن يُنظَّر له كما نظِّر لفروع أخرى غيره، لكانت تلك "الرؤية الموحَّدة" أو أحادية الرؤية الغائبة عن ثقافتنا الإسلامية من أولى اهتمامات العقل العربي قاطبة : تنقذه من الضلال. أما بقية فروع الثقافة الإسلامية؛ فهى على انتشارها وسعتها وكثرة الطالبين لها، الداعين إلى تزكيتها وتفضيلها، الآخذين على عاتقهم بفرضها قسرياً على واقعنا الفكري والثقافي؛ فهى السبب المباشر في تعطيل النظر إلى "أحادية الرؤية"، فداعية إلى الفصل والمباعدة، وذاهبة إلى التجزيئية الغارقة في غير معنى، والفاقدة لعناصر التجمُّع والائتلاف، والماضية إلى التفاصيل والجزئيات دون الارتداد إلى وحدة تجمعها في مبدأ واحد عام مشترك .. تلك كانت هى النتيجة الأولى وفي المقال القادم نأتي على النتيجة الثانية (وللحديث بقية).

 

بقلم د. مجدي إبراهيم - أستاذ الفلسفة الإسلامية

 

في المثقف اليوم