قضايا

ثقافة المقاومة.. تزييف الوعي المقصود في الثقافة العربية

مجدي ابراهيمهنالك ما يطلق عليه في أدبيات العلوم السياسية بـ "ثقافة المقاومة"، لعَلَّ البعض يرى أنه مصطلح جديد ظهر للوهلة الأولى في الآونة الأخيرة، حين اتَّصفت أعمال الكفاح والتحرير والمقاومة من جانب الشعوب الإسلامية المحتلة في فلسطين وأفغانستان وغيرهما بأوصاف الإرهاب لا لشيء إلا لأنها تدافع عن وجودها وعن كيانها؛ ولكن المقاومة عَملُ إنساني شريف، قديم ومشروع : بقدم الإنسان نفسه، وبمشروعية وجوده على أرضه، يدفع عن طريقه الظلم الواقع عليه قهراً وينشد من ورائه الحرية التي تأبي الهوان.

فإذا كان من حقك أن تحيا حياة كريمة، فمن حقي أنا أن أقاوم إذا سُلبت مني تلك الحياة. وعليه؛ فالمقاومة مطلبٌ إنسانيٌ مشروعٌ لا غبار عليه؛ دفاعاً عن أبسط حقوق الإنسان في أن يعيش حياة كريمة كما خلقه الله على الكرامة لا المهانة، وعلى الحياة لا على الموت، وعلى الوجود لا على العدم، وعلى البقاء لا على الفناء.

وما دمنا ذكرنا هذه الثنائيات؛ فلنذكر كذلك أن دفاع الإنسان عن حقه في الحياة وفي الوجود، وفي البقاء مطلبٌ إنساني قديم، يَكْفُلُ لصاحبه - كائناً ما كان جنسه - حقه الطبيعي في الاستمرار الوجودي الذي يضمّن له حياة طيبة لا تتيسر مطلقاً بغير مقاومة وجهاد.

تلك هى إرادة الحياة في أبسط معانيها، ممثلة في المقاومة المشروعة تقف بالمرصاد أمام ألوان الظلم والقهر والعدوان والعبثية : حق الحياة بل أبسط حقوقها بغير نزاع.

على أن هذا المطلب البسيط في ظل غياب العدالة الدوليّة وازدواجية المعايير تُنَكَّس رايته عَسَفَاً ويُطوى رغم الأنوف فيه لواء الجهاد، ومن منّا لا يذكر أن هناك خلطاً واضحاً لا يخفى على أحد في المفاهيم والتصورات، بمقدار ما يكون هنالك انقلابُ في منطق العقل الغربي، المفترض فيه - لو أننا  جميعاً أحكمتنا إليه - أن يكون منطقاً عاماً واحداً لا لبس فيه ولا اختلاف ولا غموض.

المفروض أن يكون منطق العقل كذلك؛ لأنه منطق يخاطب الشرقي والغربي على السواء بغير تفرقة ولا تمييز.

ولكن منطق العقل غير منطق المصلحة !

هذه بديهة لا جدال فيها .. كنا قبل سنين نكتب فيما تقتضيه الأحداث الجارية مع الأيام .. هل تذكرون سجن أبو غريب؟ هل تذكرون مثل هذا المنطق الوحدوي كانت تتخذه أمريكا ضد العرب بعد أحداث برج التجارة العالمي، هل تغير هذا الموقف أم تطور للأسوأ فأضحى مقلوباً الآن؟ أصبح العقل تابعاً للمصلحة؛ فما هو حق في نظر الشرق يغدو باطلاً في نظر الغرب الأوروبي، وما هو قبيح في نظر العرب، يصير بالجملة جميلاً في نظر الولايات المتحدة الأمريكية، وما هو دفاع عن الحقوق والأوطان والأعراض والحريات في نظر الشعوب العربية، ينقلبُ على الفور إرهاباً, وتدعيماً للعمل الإرهابي في نظر الدولة العبرية وفي نظر الإدارة الأمريكية سواء بسواء، ويقابل كرد فعل، بشتى ألوان الوحشية القذرة، لتقابل الوحشية نفسها بالتمرير والاستساغة من جانب الإدارة الأمريكية التي سَوَّلت ألوان التعذيب كما جرت سلفاً في سجن أبو غريب! وجَمَّلت وسائل الوحشية القذرة، وناقضت الشعارات الكاذبة الزائفة التي كانت ترفعها من أجل حقوق الإنسان، ولم ترْ في الاغتصاب شعوراً بالخجل والعار والاستنكار. وهكذا وهكذا .. إلى آخر السيرة النجسة في توظيف الفكرة والتصور والمعيار توظيفاً يخدم المآرب السياسية الوضيعة والأغراض النفعية الأنانية؛ ليرعى التوظيف الخسيس مصلحة الطامع المغتصب المحتل قبل كل اعتبار للوجود الإنساني وحقوقه المشروعة، الأمر الذي يؤدي إلى تنشيط فعل "المقاومة" تنشيطاً حركياً منظماً مهما كانت في النفوس خامدة، وهو هو الأمر نفسه الذي يقودنا إلى تسليط الضوء على فضيلة "الشجاعة" في الكيان الآدمي؛ تلك الفضيلة التي نحسبها تجيء مثالاً للغضب - كونه جانباً إنسانياً مهماً في حياة الإنسان - لتستقي المقاومة روافدها الثقافية وكينونتها الفلسفية منها كيما يستقيم فيه ميزان الاعتدال.

*   *    *

ومع تطور الأحداث التي تقمع العقل السياسي العربي منذ سجن ابي غريب ومنذ تفجير برج التجارة العالمي وما يتلوها من قيام الثورات المفتتة للشمل العربي، لم تكن فكرة تأهيل المنطقة العربية للصراع الدامي ببعيدة عن أذهان الصهاينة؛ لأنها مرهونة بعقيدة ثابتة مستقرة هى إقامة دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.

أنا شخصياً كنتُ كثيراً ما أقول ولا زلت : إسرائيل هى السرطان الخبيث الذي سيقضي على الجسد العربي ما لم يعرف كيفية الخلاص منه. هى التي زرعت الفتنة ولا تزال وراؤها بالكدح الدائم طلباً للفُرقة العربية وإذكاءً للخلاف بين الأنظمة والشعوب. وهذه بداهة أخرى لا تخفى على أحد، ولكننا كعرب نتغافل عنها مع تقديم المصالح الشخصية والعبث بقضايا الأمن القومي.

ما من مصيبة ولا كارثة أحلت بالوجدان العربي إلا ووراؤها إسرائيل.

لم يكن من المقبول على الإطلاق أن لا يتصور أحد استفادة اسرائيل من الثورات المفتعلة التي جرت في المنطقة والتي أطلق عليها كذباً بثورات الربيع العربي. ولم يكن زعماء بني صهيون من الغباء لكي يفشوا في الآونة الأخيرة أسرار دولتهم؛ ولكنه اللعب على إشعال فتيل الفتنة بين السنة والشيعة أو بين إيران والعرب. ولم يكن تصريح نتنياهو في خطابه الأخير أمام البرلمان الإسرائيلي ممّا أعلنت قناة الأقصى بثها لفيديو الخطاب مع التهديد بالقصف لها وتدميرها بالأمر الهين الذي يسمعه العرب ولا يتوقفون عنده وقفة حكيمة.

جاء نص الخطاب على مرأى الأسماع والأبصار ليقول : " كما تعلمون إسرائيل بالتعاون مع الاستخبارات الفرنسية، زرعنا الخميني في إيران وبعثنا له أسلحة متطورة لحمايته من صدام حسين، ثم إن الشيعة قتلوا صدام .. ونحن نتفرّج ..! وقتلوا الرئيس اللبناني ونحن نستمتع بالمشاهدة، وقتلوا الشعب السوري ونحن أيضاً نتفرج! أمّا الإخوانجية أتباع قطر فقد نجحوا في تدمير الأنظمة وتدمير جيوش الدول العربية .. ونحن نتفرّج. بالطبع؛ فشلوا في مصر لكننا محاصرين مياه مصر في جهة البلد الحليف لنا (أثيوبيا). ونحاول التأثير على الشعب المصري ونحرّضه لتدمير جيشه وتخريب النظام الحاكم بواسطة الإخوانجية في تركيا وقطر، وبواسطة الثرثارين كجوشو وزبع والجزيرة، وكل الثرثارين في تركيا وقطر يزرعون الفتنة داخل مصر .. ونحن نتفرّج !

قتلوا حاكم ليبيا ودمروا قواته، ونحن نتفرج !

والحرب بين حزب شيعة وإسرائيل كانت حرباً تمثيلية .. خسر فيها كل طرف جنوداً، وبالتالي زرعنا الشيعة في لبنان. قطّعنا لبنان إلى قسمين متضادين : فصواريخ الشيعة مفرقات صغيرة ضد إسرائيل، وصواريخهم ضد مكة متطورة وعملاقة (سكود) .. ونحن نتفرّج !

لقد سلمنا لهم جنوب لبنان لكي يدمروا كل شيء.

على سبيل المثال أمثلة بسيطة :

قتلوا ودمروا الشعب السوري نيابةً عنا.

الآن يتواجد الحشد الشيعي في جنوب لبنان بعدما قتلوا المسلمين في العراق ودمروا مدنهم كالموصل والفالوجة وما زالوا مستمرين بقتلهم .. ونحن نتفرّج !

إلى حد الآن يعتقلون المسلمين ويعدموهم في أماكن سرية. فوجود الحشد الشيعي في العراق تمثيليّة. تعرفون أن انتخابات ستجري في العراق قريباً؛ فالشعب العراقي سئم من الميليشيات المسلحة. الشعب العراقي يريد مصانع، فلاحة، تطوير، تنمية، لهذا فكر العقلاء في حل تلك الميليشيات المسلحة لتطوير العراق واصلاح الاقتصاد وتشغيل الشباب وتأهيلهم؛ قبلنا بتواجدهم في جنوب لبنان بحجة مناصرة القدس فكانوا يأخذون صور سيلفي ويعجب بهم العراقيون، وبالتالي لن يحلوا المليشيات وينجح قادتهم في الانتخابات، فيستمرون في قتل المسلمين وتهديد الأردن والخليج.

هم يبررون بقاؤهم في سورية بمحاربة داعش. تتذكرون أن داعش تم نقلهم بالباصات تابعة للشيعة من حدود لبنان لغاية شمال العراق. طبعاً ! قيادات داعش شيعة واتباعهم حمير. تتذكرون محاصرة الشيعة لقرية فلسطينية (مخيم اليرموك) حصلت مجاعة وتوفى الآلاف، حيث برر حزب الشيعة هذا الحصار بتواجد دواعش داخل المخيم ثم أختفى الدواعش أنفسهم حيث تم نقلهم بالباصات إلى شمال العراق.

وظيفتهم القتل والتفجيرات .. وتخلّف العراق .. ونحن نتفرّج !

إذن؛ الشيعة يقتلون الفلسطينيين نيابةً عنا. فهم لم يأتوا لتحرير فلسطين ولا القدس؛ لأنهم جبناء ولا يواجهون الجيوش وجهاً لوجه.

ألا تلاحظون تفننهم في قتل السكان العزل. استعانوا ب 72 دولة لتدمير المدن العراقية، فالمالكي عندهم أستولى على (680) مليار دولار في سنوات ارتفاع النفط وراح يسلّمها لإيران.

لا تحاسبوني على الحوثيّ .. الموت لأمريكا .. الموت لإسرائيل .. واليمن ميت بسببهم.

ختام الحديث : الشيعة واليهود يدُ واحدة" (انتهي نص الخطاب).

إذا نحن افترضنا أن هذا الخطاب ليس بالصحيح، مدبْلج مثلاً، فهل في الواقع السياسي الحالي ما يفصح بعكس ما نسمع ونرى؟ كل المشاهد الواقعية تؤكد كل كلمة نطق بها نتنياهو ولا تخالف ما هو واقع موجود بالفعل. وشيء آخر الا يذكرك هذا الخطاب بما كان ورد في كتاب هيلاري كلنتون "خيارات صعبة"، وبخاصة فيما يتعلق بمصر؟

حقيقة إن العرب تركوا عدوهم الحقيقي وتشرذموا وراحوا يفتعلون العداء مع أنفسهم، ضربوا أنفسهم بأنفسهم بعدما تفرقوا فضاعت هُويتهم، وصاروا شيعاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون. ولن تقوم لهم قائمة ما لم يتحدوا ويعتصموا. لن تقوم لهم قائمة وهم أبعد خلق الله عن الوعي والتضامن والتحالف والانتماء والقومية والعروبة والوطنية والعصمة والاتحاد ثم المقاومة المشروعة بكل تلك المعاني السامية المهجورة.

*   *    *

وإذن؛ فالمنطق العام والمشترك مفقود أو يكاد! وعلى هذا المنطق وحده تقوم جذور التسامح التي نأملها جميعاً كما يُفهم من البداية تحقق أجواء السلام. أما دون ذلك؛ فهو عبث إنساني وفوضوي لا يولد إلا العنف، والعنف بدوره لا يخلف إلا العنف.

وإذا كان منطق العقل العام أو المشترك مفقوداً بفقدان فاعليته التطبيقية؛ فإن الغرض المقصود من إلغائه على هذا النحو هو تزييف الوعي العربي وتغييب حكمه ومقرراته على أرض الواقع. وبما أن القناة الإيجابية الوحيدة تكاد تكون معطلة عن الفاعلية الواقعية فلا تنتظر من شعاع الضوء أن يجلو الأبصار فتتضح خلاله الرؤية ويختفي من ثمّ الغموض ويزول التخليط. الواقع؛ وليس شيء غيره، ينطق بالتزييف المقصود للوعي العربي وللثقافة العربية. ومن استعلى على الواقع وقدَّر العجز عن قراءته قراءة جيدة, فليس يحكم إلا بعكس ما هو موجود، وبعكس ما هو مُشَاهد على مرأى ومسمع من شهود التحقيق.

ومن الطبيعي إذا اختلطت الأوراق وتباينت المفاهيم، أن يسمى الغرب المقاومة عملاً إرهابياً, وأن يَصِفُوا الكفاح من أجل الحرية والاستقلال بأوصاف الشر واللا إنسانية، وهم في الحق أبعد خلق الله عن الإنسانية, وأكثرهم توصيفاً للشرور والكوارث تسببها ويلات الحروب، وهم أشَدَّهم إيغالاً في قهر الإنسان وحقوقه، وأقلّهم احتراماً لتلك الحقوق؛ فما كان من دعاة السلام الأعرج المأفون إلا أن يحاولوا جهدهم - قَدْر ما استطاعوا وفوق ما استطاعوا - أن يقوِّضوا دعائم الإرهاب الذي هو في الأصل مقاومة مشروعة دفاعاً عن حق العربي في أن يعيش على أرضه كريماً حُراً آمناً مُعَافى من سطوات القهر والمذلة والإبادة والتدمير، ثم التزييف المقصود لوعيه ولمداركه العقلية، وأن تنقلب المقاومة المشروعة لديهم من فورها إلى توجهات إرهابية، وأن ينقشوا على خريطتهم الموبوءة بعض الدول التي تمثل محور الشر، وخاصّة حين ظهرت تلك النزعة التآمريّة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001م، على ما جرى سلفاً في الولايات المتحدة الأمريكية.

ثم رُحنا نتوخَّى الدفاع عن أنفسنا، وأصبحنا في موقف "المنفعل"، ندافع عن إسلامنا وثقافتنا وكياننا ووجودنا، ونقاوم بقدر المستطاع الميسَّر لنا ونشرِّع للمقاومة فلسفة عقيمة من شأنها أن تتوخى الدفاع بعد أن كانت في الأصل حقاً لا ينكره إلا جاحد أو مكابر أو ظالم دنس السيرة في تاريخ الإنسان كله، وتناسينا الواجب المفروض علينا جميعاً في ذلك كله؛ وهو أننا في الأصل في موقف "الفاعل" الذي يجب أن يُملي إرادته إزاء كل ما هو موجود في بلاده، وأن يرفع الظلم الواقع على كل فرد من أفراد الوطن، وأن يسترد حقوقه المنهوبة بالقوة كما سلبت عنه بالقوة، وأن السلام مع العجز وقلة الحيلة خنوع واستسلام وضعف يأباه شرف البقاء على ظاهر الأرض.

لكن مع ظهور المقابل لما يسمى بـ " ثقافة المقاومة" في التبرير المنطقي العربي، ظهرت وصمة الإرهاب خاصّة عربية بل وإسلامية في المفهوم الغربي، وبخاصة في توظيفات الإدارة الأمريكية؛ لكل أعمال العنف التي تجرى في المناطق العربية مرادفة لكلمة إرهاب.

بيد أن المقاومة ليست إرهاباً، ولن تكون، غير أن الكلمة قد اتخذت شكلاً آخر من أشكال تزيف الوعي المقصود في الثقافة العربية من قبيل التفكير السياسي الغربي الخاص بالإدارات؛ فالمقاومة الفلسطينية للإرهاب الإسرائيلي : إرهاب الدولة بغير منازع، هى في نظر إسرائيل إرهاب عربي. والمقاومة العراقية التي كانت للعنف الأمريكي هى في نظر الأمريكان توظف على أنها إرهاب عربي. والمقاومة الأفغانية للتوحش الأمريكي هى في نظر الأمريكان إرهاب إسلامي يفرضه غصباً تنظيم القاعدة، كما يفرض هذا التنظيم مساحة من العلاقات الدولية التي تسمى في منطق الغطرسة الأمريكية بـ" محور الشر" الذي تجب إبادته من على ظهر الأرض، تحت شعار القضاء على الإرهاب.

وليس بخافٍ على أحد أن هناك توحيداً بين الإدارة الأمريكية والسياسة الإسرائيلية في نظريتهما إلى الإرهاب، هذا فضلاً عن توحيد النظرتين واشتراكهما معاً في كل الأعمال التي لا تمت إلى الإنسانية بصلة؛ فبالإضافة إلى أن هناك خلطاً ظاهراً بين الأوراق - كما تقدَّم - حول تحديد مفهوم الإرهاب صادر عن محاولة تزييف الوعي العربي بقصد تغييب مفاهيمه الثقافية والحضارية؛ فهو ذات الخلط الذي وجّه الجهات المسئولة في مصر - منذ أن نشأت هذه الهوجة الشرسة غير المعقولة ضد الإنسانية - إلى عقد مؤتمرات دولية للإرهاب تضع تعريفاً محدداً ودقيقاً له، وتحدد بطبيعة الحال الإجراءات الكفيلة بمواجهته، وتفرِّق بينه وبين المقاومة المشروعة لإنهاء الاحتلال، وهو عمل مطلوب دائماً ينبغي أن يُعقد لأجله الكثير من المؤتمرات؛ ليصل الصوت العربي إلى أسماع العالم قاطبة؛ ولإزاحة هذا الخلط المُشين على المستويين المحلي والعالمي.

هناك أيضاً على الجهة المقابلة نوعٌ من التعالي تمليه سيادة القوة، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي إسرائيل، لا يستقر معه مثل هذا الواقع المقرر الذي يحمل معاني الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتحرير المرأة، بل الواقع الحق ينفي هذه المعاني بالجملة، ويقيدها بقيود التناقض والتعتيم والتضليل، وإذا هو قبلها فلتكن في محيط تلك السيادة ولا تخرج عنها، ولا عن كواليسها السياسية وسماديرها المرجعية.

فالسياسة الأمريكية مثلاً توظف الحُريّة توظيفاً يتناسب مع مفهوماتها وإمكانياتها هى، والأمريكي (صاحب السيادة والسطوة) كأنه هو المخلوق الوحيد الذي يصحُّ أن يطلق عليه حراً، أمّا بقية الشعوب الأخرى فهم عبيد بالقياس إليه، فهو المخلوق الوحيد الذي يملك الحق المطلق في أن يعطي ويمنع، ويأمر وينهي، يمنح الصكوك والتراخيص والوعود، ويسلب عن الآخرين حقوقهم وأوطانهم ووجودهم البشري على أراضيهم المنهوبة.

يعلمُ الأمريكيون كما تعلم سائر الشعوب الأوروبية أن حرية الأمم لن تنال بغير أن تزهق في سبيلها الأرواح، ففي سبيل الحرية يهون الموت، وفي سبيل الحرية يظل الجهاد فضيلة، ولو فتح الجهاد أبواب المنون على مصراعيها ليدخل منها البشر أفواجاً من وراء أفواج. ومن عجيب المفارقات أننا نقرأ في تاريخ الكفاح الأمريكي من أجل الحريّة مقولات تعبِّر عن انتصار الإرادة الحرة أمام طغيان الاستعمار والاستبداد، وبذل الجهود المضنية في سبيل ترسيخ قيم العدالة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى ولو كان الموت هو المقابل لمثل هذه القيم التي يناط ترسيخها بالأفراد فضلاً عن الجماعات.

ثم في الوقت نفسه نرى على الجانب الأخر أن المطالبة بالحريات، وتقرير الشعوب حق مصيرها، ودفاعها عن حرمة أراضيها، يعدُّ في نظر الأمريكان اليوم إرهاباً أو ما يُشبه الإرهاب يندرج تحت ما كان يسمى بمحور الشر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001م، وهو الأمر  الذي ينبغي أن تطارد فلوله من الجميع، غرباً وشرقاً، بغير تفرقة بين حق وباطل، أو بين فضيلة ورزيلة، أو بين قيمة ونقيصة، أو بين شرعية وظلم، أو بين مقاومة وإرهاب في الضمائر الأمريكية الحاكمة والمحكومة على السواء.

وبظهور التصريح الأمريكي المُعْلن عن وجوب إبادة محور الشر والدول التي ترعاه، وكان المظنون في مقدمتها دولة العراق الشقيق, قامت فينا قيامة الدنيا دعوات وراء دعوات : أنه لا حلَّ على الإطلاق إلا بالمقاومة؛ فنحن العرب نقاوم كل مظاهر العنف والقتل والتشريد والتنكيل والتوحش مقاومة مشروعة ندفع بها الظلم الواقع على أراضينا وأطفالنا وشيوخنا ونسائنا وأنفسنا، فهل في ذلك كله ما من شأنه أن يعيبنا؟

وإذن؛ فما هو السلاح الذي ينبغي علينا أن نتسلح به لنثبِّت شرعية هذه "المقاومة" التي نشهرها دوماً في وجوه الأعداء المغتصبين؟!

هذا سؤال منطقي نطرحه للوقوف - بالإجابة عليه - على لب لباب "ثقافة المقاومة"، وبالرجوع إلى جذور المصطلح في الثقافة العربية, تجدنا مفتقرين - كل الافتقار- إلى الأسس الباطنة التي يقوم عليها فعل المقاومة وتنهض به مقوماتها، ثم تزيده فاعلية كيما يسري روحاً لا جسداً خامداً كسيحاً عاجزاً أو مشلولاً في القواعد العريضة من طبقات الشعوب، بحيث تتقبله طيعة راضية من ناحية، أو مؤثرة تأثيراً قوياً في الأنظمة العربية من ناحية أخرى؛ لتملي عليها فريضة التوحيد والاشتراك والتعاون والمناهضة الجماعية.

وممّا لابد منه وجود خلفية ثقافية وروحية للمقاومة، بمعنى وجود غطاء روحي يحفظ شرعيتها على أقل تقدير كعمل مقصود تابع لنية خالصة في التوجُّه، وحاضرة مع المطالب العلوية في اللقاء، ولا تطبق بصورة هوجاء، تخلو من القيم الدافعة أو المانعة؛ فمعنى كونك متصفاً بالمقاومة هو أنك قادرُ على منع تسرب الضعف إلى كيانك بالمرة، كائناً ما كان هذا الضعف، ولن تكون مقاوماً وأنت ضعيف من الداخل، مكدود الفاعلية والحركة والتأثير، قليل الحيلة فيما تنتوي فعله وتريد أن تفعله، فتفرض على الحياة التي تحياها عناصر القوة والفاعلية والحركة الإيجابية في الشئون الحياتية العامة قبل الخاصّة.

فإذا أنت وَجَدتَ أجناساً كثيرة من الشعوب العربية تتخذ من المقاومة دستوراً لها بغير توافر هذه الخلفية الثقافية القائمة على الوعي الفاعل البناء لا المزيف المقهور؛ فاعلم إنها "هبة غضب"عرضية وكفى غير مسلحة بالوعي الداخلي، ولا هى مذكاة بفاعلية القوة المنظمة الباطنة قبل الظاهرة، والخفية قبل المعلنة، أعنى قوة الضمائر والقلوب قبل قوة الأبدان والأشكال، وتتوافر فيها امتلاك زمام الإرادة في الباطن قبل الظاهر، وفي المضمون قبل الشكل، وفي الجوهر واللباب قبل القشور والأعراض. وإلا فقُلْ لي بربك : ماذا عساه يملك رجل من قوة الإرادة البناءة وهو مقهور من الداخل، ضعيف في مواجهة النفس، إذا هو وهبها الدفاع عن الوطن؛ فانطلاقاً من هبة غضب عرضية، وإذا هو سلبها الحياة؛ فظاهر الأمر أنه استشهاد، أما حقيقته فهو غضب يائس من الحياة أو من الوجود، أو ثار لعزيز مفقود، الأمر الذي يشعل في النفس فتيل الغيظ والانتقام ويقوي فيها نار الأخذ بالثأر تحت وطأة حميتها الجاهلية فيلهب جذور الحفيظة الغائرة في أعماق المنتقم. والانتقام شيء والمقاومة المشروعة ذات الثقافة المؤسسة على الوعي الباطن والإخلاص لله شيء آخر. ولن تسمى مقاومة مشروعة وهى بغير هذا التأسيس.

فلئن كانت بمثل ما سبق من ظواهرها القشرية، فقد فقدت أخص خصائصها، ولكنها إنْ تكن مُدعَّمَة بالطاقات الروحيّة الفاعلة على شرط الإخلاص لله فقد كملت خصائصها؛ ولا خوف - من بعدُ - على الوجود ولا على الحياة ولا على مصائر المقاومين.

لك أن تتخيل هذه المقاومة يدعمها وعي عربي موحَّد ومشترك، ويزكيها وجود روحي نلتمس آثاره في الفكر والواقع، ومصادره من يقين الإيمان بالله، وتتغلب فيه مقومات الإيثار وتقديم النفس والوجود قرباناً لله والوطن، على مثل هاته الأنانية الشائعة والحالات الفردية المبذولة جهداً عرضياً في طريق الدفاع عن مقدسات الوطن!

أقول؛ لك أن تتخيل تكاتف القوى الوطنية لا تفرقها، وعموم الوعي بمثل هذا التكاتف المتضامن ظاهراً وباطناً في الإنسان العربي؛ فهل يبقى بعد ذلك وجود في هذه الأمة مستلبُ ومستباح؟ لماذا لم تحرر ثقافة المقاومة شيئاً مما هو منهوب في أراضي الوطن؟ ولم لم تورث فينا تقديم النفس قرباناً إلى تلك الفرائض الكريمة؟

والجواب: لأننا في الحق لم نتخلق بأخلاق هذه الثقافات، ولم نعمل بمقتضياتها ولم تسرْ فينا حياة روحيّة وممارسة عملية، يشترط فيها أول ما يشترط : فقه الدلالة الباطنة وتزكية الوعي الغائر في أعماقنا الروحية الخفية المستترة فيما نحن عليه قادمون.

 

بقلم : د . مجدي إبراهيم

أستاذ الفلسفة الإسلامية

 

في المثقف اليوم