قضايا

التجارب الحاسمة ودورها في تطور النظريات العلمية (5)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الخامس والأخيرة عن التجارب الحاسمة ودورها في تطور النظريات العلمية، حيث نتحدث عن موقف إمري لاكاتوش من التجارب الحاسمة، وفي نقول : في الوقت الذي جاءت فيه أطروحة بيير دوهيم القائلة بأنه لا يجب اختبار الفرض علي حده وبصورة منفصلة بل النسق ككل، كان إمري لاكاتوش يصمم نوعا فريدا من العقلانية، وهذه العقلانية تتمثل في نقد وتغيير برامج البحث أو المعرفة العلمية (من مفاهيم وقوانين ونظريات علمية) عبر تاريخ العلم، فلقد رفض

لا كاتوش فكرة تبرير المعرفة التي تشكل النمو العقلاني للمعرفة العلمية وتسعي إلي أن تحول التاريخ الداخلي للعلم مجرد وقائع تجريبية وعبارات صلبة تعقبها تعميمات استقرائية أو قوانين علمية كما هو واضح عند التجريبية المنطقية أو التيار الاستقرائي بشكل عام الذي ينصرف إلي صدق القضايا الواقعية والأولية وصحة الاستدلالات الاستقرائية، أي أنهم انشغلوا بالمشكلات المعرفية والمنطقية إلي الدرجة التي صرفتهم عن الاهتمام المناسب بالتاريخ الواقعي .

وبالتالي لم تعد فلسفة العلم عند لاكاتوش مجرد تبرير المعرفة العلمية من خلال التأييد وعدم التأييد أو الصدق والكذب بعيداً عن تاريخ العلم، وهذا ما جعله يرفض النزعة الاستقرائية عموماً والتجريبية المنطقية علي وجه الخصوص .

ومن ناحية أخري، اعترض لا كاتوش علي بوبر بشأن التقدم العلمي، فقد أكد بوبر  علي اختبار الفرض علي حده وبصورة منفصلة، وأعد ذلك مسألة جوهرية لتقدم العلم وقياس ما يضاف إليه حقيقة، فالذي لا شك فيه أنه لا يمكن أن يقرر أحد إذا كانت نظرية جسورة مهما كانت وذلك عن طريق اختيارها علي انفصال، لكن فقط عن طريق اختبارها في ضوء سياقها المنهجي التاريخي .

وهذا معناه أنه إذا كان بوبر في محاولته للتقدم العلمي يؤكد عمومية النظرية العلمية، مع وضع في الاعتبار تكذيب النظرية اللاحقة للنظرية السابقة عند تناقضها، فإن لاكاتوش يؤكد علي أن أي نظرية تتمثل وتولد في خضم هائل من التناقضات، ومن ثم يمكن عمل تعديل في النسق النظري العلمي، وطبقا لذلك رأي لاكاتوش أن أي برنامج بحث يتألف من قواعد منهجية، حيث أن البعض منها يخبرنا بطرق البحث تجنباً للموقف السلبي، والبعض الآخر يوضح لنا طرق تبني الموجه المساعد علي الكشف أو الإيجابي . بيد أن الموجه السلبي لبرنامج البحث دائماً ما يعزل النواة الصلبة للقضايا التي لا تعرض للتكذيب، وهذه القضايا يتم التوافق عليها اصطلاحاً، ومن ثم فهي غير قابلة للتفنيد عن طريق برنامج البحث . أما الموجه الإيجابي فيعد بمثابة استراتيجية لبناء سلسلة من النظريات والاقتراحات الإجرائية للتعامل مع الشواذ المتوقعة، وبينما يتضح برنامج البحث، نجد أن حزاماً واقياً من الفروض المساعدة يلتف حول النواة الصلبة .

ويعطينا " لاكاتوش" مثالاً علي ذلك من برنامج البحث النيوتوني؛ حيث يلاحظ أن النواة الصلبة لهذا البرنامج تتمثل في الجاذبية، وأنه لا شك في أن بين النواة والظواهر الحزام الواقي من الفروض المساعدة التي تحتك بالاختبار والتكذيب . ومن هنا قبل الحزام الواقي التعديل والتطوير ليحمي النواة، وهذا التطوير يتم بناء علي الموجه الإيجابي المساعد علي الكشف ؛ أي أننا حين اكتشفنا أن كوكب يورانوس لا يتفق مع التنبؤات الخاصة بنظرية نيوتن لم نستنتج من هذا أن النظرية كاذبة، بل علي العكس، فالنظرية أو برنامج البحث النيوتوني عامة لا يزال تقدمياً . وبعد فترة من الزمن أصبح هذا البرنامج متفسخاً ومتدهوراً لظهور برنامج أخر، وهو لأينشتين الذي فسر حركة الكوكب عطارد التي لم يستطع برنامج نيوتن حلها . هذا فضلاً عن أن برنامج أينشتين قد تنبأ بانحراف الأشعة الآتية من النجوم تحت تأثير مجال الجاذبية.

فاختبار أي برنامج يعول مباشرة علي الحزام الواقي للفروض المساعدة , ومن هنا أكد "لاكاتوش" أن أي نتيجة اختبار سالبة مفردة لا تفند برنامج البحث ككل، الأمر الذي جعله ينتقد "بوبر" عندما عول علي أهمية النتائج السلبية، حيث أن وجود أي نتيجة اختبار سلبية، إنما هي استراتيجية مثمرة لتعديل الحزام الواقي للفروض المساعدة ليعدل أو يسوي الشاذ .

وعلي هذا رفض "لاكاتوش" أن يكون نمو العلم مجرد واقعة نافية أو بينة تجريبية معارضة تكذب نظرية علي حده بصورة مستقلة، ليتم رفضها هي فقط في حد ذاتها ويستبدل أخري تعرض بدورها علي محكمة التجريب !! وهنا يؤيد لاكاتوش، بيير دوهيم لا سيما عندما رأي أن المعقبات أو النواتج التي تلزم الفرض العلمي الجديد، والتي تكون محكمة للتجريب لا تخص الجديد وحده، بل تخص النسق المعرفي بأسره الذي انتمي إليه الفرض  .

وهنا يمكننا أن ندلف إلي موقف لاكاتوش من التجارب الحاسمة، حيث ينكر أهمية ودور التحارب الحاسمة في برامج البحث العلمي، فهو يقرر أن التجارب الحاسمة ليس لها قوة كي تنحي برنامج بحث، حيث يؤكد التسامح المنهجي، فلا وجود للبت القاطع، إذ أن إلغاء برنامج يستغرق زمناً، كما أن قبول برنامج جديد يستغرق زمناً أيضاً  ؛ وفي هذا يقول لاكاتوش :" " لا يوجد هناك تجارب حاسمة إذا عنينا بذلك تجارب تؤدي مباشرة إلي القضاء علي برنامج معرفي معين . وفي الحقيقة فإنه في حال انهزام برنامج بحث معرفي واستبداله ببرنامج معرفي آخر، يمكننا مستفيدين من مرور فترة طويلة من الزمن " تسمية تجربة حاسمة إذا ظهرت جلياً أنها كانت مؤيدة للبرنامج المنتصر وداحضة للبرنامج المهزوم "، " وبعبارة أخري لا يعير العلماء آذانهم بسهولة إلي نتائج التجارب السلبية بادئ الأمر ولابد من مرور فترة طويلة من الأبحاث والاختبارات كي يقبل سوادهم بفشل النظام المعرفي الذي دحضته التجربة، فلا تصبح هذه الأخيرة حاسمة في انهزامه إلا بعد أن تكون قد ترسخت النظرية الجديدة في الأوساط العلمية، فيمكننا فقط عندها القول بأنها تجربة حاسمة .

وقد تأخذ الأمور منحي أكثر تعقيداً حسب لاكاتوش :" فإذا وضع عالم من أنصار المعسكر المهزوم بعد بضع سنوات تفسيراً علمياً لما دعي بـ " التجربة الحاسمة " يجعلها متفقة مع البرنامج المهزوم، فإن صفة الشرف يمكن نزعها عن تلك التجربة وتتحول بذلك " التجربة الحاسمة " من هزيمة إلي نصر للبرنامج  القديم .

وهكذا قد تستمر نظرية ما في مقاومة التغيير لفترات طويلة، وقد تصبح عائقاً أمام أي محاولات جدية لدحضها فتسد آذان العلماء عن صوت البني الطبيعية المناقض لها وتخلق انقطاعاً مرحلياً في المسار العلمي نحو الحقيقة . وقد يطول هذا الانقطاع أو يقصر جاعلاً من مفهوم التقدم نحو البني الموضوعية مفهوماً تاريخياً لا تندرج فيه أية حقبة منعزلة من تطور المعرفة، بل المسار التاريخي برمته .

ومن ناحية أخري يؤكد لاكاتوش أن هناك علاقة حميمة بين التجربة الحاسمة من جهة والعقلانية الفوريةInstant Rationality  . فالإيمان بالتجربة الحاسمة هو إيمان بالعقلانية الفورية والعكس صحيح كذلك، ذلك أن مفهوم التجربة الحاسمة يقوم علي تمكين العالم من الاختبار الفوري بين النظريات والبرامج العلمية المتنافسة لجأ إليها بصورة يوتوبية كل من التجريبيين المناطقة وكارل بوبر، وفي هذ يقول لاكاتوش :" أن فكرة العقلانية الفورية يمكن أن تكون مثل المدينة الفاضلة " يوتوبيا " . لكن هذه الفكرة التي يحلم بها هي خاتم دامغ لكل أنواع نظرية المعرفة . التبريريون يريدون إثبات النظريات حتي قبل نشرها والاحتماليون يأملون في وجود آلة تستطيع أن تعطي في لمحة قيمة النظرية (درجة التحقيق) التي أعطيت البرهان والمكذبون السذج يأملون أن يكون الاستبعاد هو النتيجة العاجلة لتحقيق التجربة علي الأقل" .

وهذا النص يوضح أن لاكاتوش ليس استقرائيا ولا تكذيبيا، إن لاكاتوش يميز المعرفة العلمية وفقاً لكشفيات برامج الأبحاث العلمية، ففي داخل برنامج البحث ليس هناك صوتا واحدا هو صوت التكذيب أو التحقيق (الجدليان) هما أحد تلك  الأصوات، ولكن حين يتم تقديم صوت واحد علي بقية الأصوات، فهذا يكون بواسطة عملية انتقائية من قبل التجريبين  المناطقة والتبريرين وكذلك التكذيبين، يقومون بها بعد انتهاء الأحداث، وليس العكس . ومن ثم لاكاتوش يرفض التجربة الحاسمة، والعقلانية الفورية في أن واحد، وذلك بصورة عقلانية، دون نفي امبريقية المعرفة العلمية.

ونجده من أجل هذا، يخصص مساحات من أبحاثه ودراساته لمناقشة التجربة الحاسمة " . فهو قد كتب مقالتين مستقلتين بذاتهما بخصوص " التجارب الحاسمة " : الأولي بعنوان " دور التجارب الحاسمة في العلم "، أما الثانية والأهم لأنها تشمل ردود لأطروحته عن التجارب الحاسمة، بعنوان " الشواذ في مقابل التجارب الحاسمة ".

ويرفض لاكاتوش، في العملين المذكورين سلفاً، سواء في حاضر أو ماضي المعرفة العلمية، وجود تجربة معيارية، تخضع لقواعد الميثودلوجيا، ويمكن لها أن تفصل بين نظريتين متنافستين، ودليله علي ذلك عدم وجود تلك التجارب فعلاً في ماضي العلم . أي أن بعض التجارب العلمية في ماضي العلم، والتي يزعم بعض فلاسفة العلم أنها شكلت تجارباً حاسمة، لم تكن تجارب حاسمة  علي الإطلاق في حينها، بل هي كذلك فقط عن طريق استردادها بمناهج الميثودلوجيا، علي أرضية حاضر المعرفة العلمية، وينتج عن هذا الرأي إنكار وجود معيار فوري في الماضي أو المستقبل قادر علي تقديم معايير لرفض أو قبول النظريات العلمية في الحال، ولكن النتيجة الأكثر أهمية هي عدم  شرعية الجانب الإرشادي في الميثودلوجيا علي الرغم من استبقاء الجانب القيمي لها .

ومن أجل البرهنة علي رفضه للتجارب الحاسمة، يقسم لاكاتوش التجارب الحاسمة إلي نوعين من التجارب : التجارب الحاسمة الصغري " minor crucial experiments " ثم التجارب الحاسمة الكبري " major crucial experiments ".

التجارب الحاسمة الصغري هي تجارب علمية تحدث في إطار برنامج بحث محدد، وهي التي ربما تفصل بين نسختين مقترحتين لبرنامج البحث ذاته، ولا يصفها لاكاتوش بأنها " عمل روتيني " يحدث بصورة دورية داخل برنامج البحث العلمي، وهي بالتأكيد التجارب التي تؤكد الطابع الأمبيريقي للمعرفة العلمية، ومع ذلك يصف لاكاتوش ذلك العمل الروتيني بأنه نسبي، بمعني أنه من السهولة بمكان الهروب من التكذيب لتلك التجارب لصالح إحدى نسخ البرنامج . ولعل هذه الإشارة تعني وضع لاكاتوش للتجارب الصغري كحقيقة موضوعية بين قوسين، والتشكك في مدي تعبيرها عن حقائق العالم الثالث، ولعله لم يتعمق في دراستها لأنها ليست هي التجارب الحاسمة التي يدور حولها النزاع بينه وبين الوضعيين .

إن الهروب من التكذيب سوف يؤدي في  نهاية الأمر إلي " التصادم بين برامج الأبحاث وبعضها مع البعض الأخر "، وإذا وصل مستوي البحث العلمي إلي هذه الدرجة، تبدأ الحاجة إلي التجارب الحاسمة الكبري، وهي التي يدور حولها النزاع بين لاكاتوش والوضعيين. وتلك التجارب الحاسمة الكبري من وجهة نظر لاكاتوش ، هي التي يفترض أن تحكم أو تفصل بين برامج الأبحاث المتنافسة .

ويعطينا لاكاتوش  مثالا علي ذلك من خلال تفسيره للنظرية الجسيمية والنظرية الموجية في الضوء، فيقول :" إن التجارب الحاسمة المشهورة لن تكون لها قوة إلغاء برنامج بحث أو أي شئ يفيد ... فمن خلال منهج البحث للتجارب الحاسمة الصغري بين الصياغات المتتالية نجد أن التجارب تقرر بسهولة بين  bth، (n+)th الصيغة العلمية، بما أن (n+)th ليس فقط متناقضة مع bth لكنها أيضاً تحل محلها، إذن (n+)th كان لها محتوي متحقق أكثر ضوء نفس البرنامج،وفي ضوء نفس نظريات الملاحظة الثابتة جداً، فإن الاستبعاد يكون علمية روتينية نسبياً . وإجراءات الاستئناف أيضاً غالباً ما تكون سهلة : ففي حالات كثيرة نجد أن النظرية الملاحظة المتحداة، بعيد عن أن تكون ثابتة جيداً، فهي في الحقيقة افتراض مختلف ساذج غير مصاغ، والتحدي هو الوحيد الذي يكشف وجود هذا الافتراض المختفي، ويسبب صياغته واختباره وسقوطه . فإن الزمن وأيضاً النظريات الملاحظة تكون راسخة في أحد برامج البحث : وفي مثل هذه الحالات يمكننا أن نحتاج إلي تجربة حاسمة كبري .

ويستطرد لاكاتوش فيقول:" وعندما يتنافس برنامجان للبحث، فإن نماذجهما العليا الأولي عادة تعالج مظاهر مختلفة من الميدان خذ مثلاً، المثال الأول للمرئيات الشبه كروية عند نيوتن وُصفت علي أنها انكسار ضوئي، والمثال الثاني للمرئيات الموحية عند هويجنيز وُصفت علي أنها تداخل ضوئي . وأثناء توسع البرنامجين للبحث، نجد أنهما بالتدرج يتجاوزان حدود كل منهما الآخر وصيغة nth (النظرية الجسيمية) للأول نجدها متناقضة بكل وضوح وبطريقة مثيرة مع mth (النظرية الموجية) الثانية . وأجريت تجربة عدة مرات، وكنتيجة لذلك هزمت الأولي في المعركة، بينما انتصرت الثانية . لكن الحرب لم تنته، فأي برنامج بحث مسموح له ببعض الهزائم . وكل ما يحتاجه لكي يعود هو أن يقدم صيغة { n1)th أوth   n+))} وإثبات لبعض محتوياته الجديدة .

ويختم لاكاتوش حديثه فيقول :" لكن إذا لم تكن هذه العودة متوقعة الحدوث، بعد الجهد المعلن، فإن الحرب تكون خاسرة، وتري التجربة الأصلية بتفهم للماضي علي إنها تجربة " حاسمة " . لكن بصفة خاصة، إذا كان البرنامج الخاسر ناضجاً، وكان سريع التطور، وإذا قررنا أن نسلم بصحة نجاحاته العلمية السابقة، ونعترف بفضله العلمي، فإن التجارب الحاسمة المزعومة تتلاشي واحدة بعد الأخري في صحوة الاندفاع نحو الأمام بثورة هائلة .

والسؤال الآن، ماهي مبررات لاكاتوش في رفض التجارب الحاسمة؟

يمكن أن نحدد السبب الرئيسي لهذا الرفض  من تاريخ العلم نفسه، فقد سرد لاكاتوش بصورة مجملة، العديد من التجارب العلمية  التي لم تؤخذ علي أنها حاسمة، إلا بعد عقود من إجرائها . ومن هذه التجارب تجربة  " ميكلسون – مورلي Michelson – Morley Experiment "، والتي يزعم التكذيبيون أنها كانت حاسمة بين برنامج بحث نيوتن  من جهة، وبرنامج بحث أينشتين من جهة أخري . ويري لاكاتوش أن التجربة سوف تكون كذلك فقط، إذا نظرنا إليها من وجهة نظر الوضعية . فلقد مرت تلك التجربة بمراحل عديدة من التمحيص والنقد والتعديل، ربما لا يجعلها تستقر علي نتيجة ثابتة وفاصلة . بالإضافة إلي هذا لم تكن الملهم الرئيسي لأينشتين، فهو لم يبدأ منها، بل كانت مجرد نتيجة بعدية  من نتائج نظريته .

لقد كان الهدف الرئيسي والمعلن من تجربة ميكلسون هو اختبار كل من نظريتي " فريزينل " Fresnal من جهة و"ستوك" Stock من  جهة أخري، وهما النظريتان المتنافستان بخصوص حركة الأرض نسبة للأثير . فقد ذهب فرينل في نظريته إلي أن تلك الحركة إيجابية، سواء قرب سطح الأرض، أو علي بعد ملايين الأميال . أما ستوك فقد ذهب إلي  التأكيد أن تلك الحركة تساوي صفراً قرب سطح الأرض، لأن الأثير يتحرك تبعاً لحركة الأرض، لذا فهو ثابت كما هو الحال بالنسبة للأجسام الثابتة علي سطح الأرض، لذلك فليس هناك ضرورة لافتراض وجود الريح الأثيرية التي افترضها فرينل .

وتزعم الاستقرائية والتكذيبية أن النتائج السلبية الفورية التي انتهت إليها تجربة ميكلسون، قد أدت إلي نبذ برنامج البحث النيوتوني، ومحاولة استبداله ببرنامج أينشتين، مما يجعل تجربة "ميكلسون – مورلي " تجربة فاصلة في وقتها، لدرجة أن نتائجها المكذبة لنظرية الأثير تعد الأساس الذي انطلقت منه نظرية النسبية .

لقد قدم لاكاتوش تحليلاً تاريخياً لتلك التجربة، جعلته يبين أن أن اعتبارها تجربة فاصلة، هو أمر استردادي قائم علي اسقاط تلك الفكرة نفسها من تاريخ العلم . فالعلم لم ينمو فعلاً بسبب التجارب الحاسمة، ولكنه سيبدو وكأنه نما هكذا بسبب استرداد تاريخ العلم علي هذا النحو، وهو استرداد لا يؤيده تاريخ . فلقد أكد لاكاتوش حقيقة المراجعة المستمرة والتنقيح، بل والبلبلة المستمرة التي مرت بها تجربة " ميكلسون – مورلي " مما يجعلها تجربة ذات  نتائج إشكالية، أكثر منها نتائج دوجماطيقية ، فلاكاتوش يؤكد أن ميكلسون قد أجري تجربته ثلاث مرات قبل سيادة برنامج أينشتين، وهو أجراها فيما بعد من جديد بعد السيادة العلمية لهذا البرنامج، وفي كل مرة كان يخرج بنتيجة مختلفة . فلقد ذهب ميكلسون في تجربته الأولي لعام 1881 – إلي تأكيد أنها قد أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك نظرية ستوك، ودحضت نظرية فرينل بصورة قاطعة، وهو الأمر الذي تخلي عنه في تجربته الثالثة . والحق أن الاختلاف الموضوعي لنتائج تجربة ميكلسون، لا يدع مجالاً للشك في سخف الرأي الذي يؤكد أن تخلي العلماء عن نظرية الأثير، وفقا لنتائج تجربة " ميكلسون – مورلي " هو الذي أدي إلي ظهور نظرية النسبية . فالمشكلة بالنسبة لميكلسون ليست نفي أو تأكيد الأثير الذي ترتكز عليه نظرية البصريات النيوتونية، بل توكيد نسخة معينة من برنامج الأثير .

لقد ذهب ميكلسون في أحد كتاباته " إلي أن يصف تجربته بأنها فاشلة، وأن النتائج الصفرية أو التي تأكد تقترب من الصفر لتلك التجربة مناقضة لكل التوقعات، ولعل هذا الرأي لميكلسون، هو الذي أضعف موقف الوضعيين، وجعلهم يعتبرون أن تجربة ميكلسون قد أدت إلي الفشل في إدراك الأثير الذي هو خطوة ضرورية للنسبية، ولكن عبارة ميكلسون تعبر عن موقف إشكالي، أكثر من كونه موقفاً باتاً وقطعياً في صالح نظرية ضد أخري . وأية ذلك – أن أينشتين نفسه فكر، أي تأثير لتجربة ميكلسون عليه . بناء عليه، فإن لاكاتوش ينتهي إلي حقيقة أن  التجارب الحاسمة هي اختراع سيكولوجي بعدي، من ابتكار أصحاب العقلانية الفورية .

وهناك تجارب أخري علي غرار تجربة ميكلسون - مورلي، يشرحها لاكاتوش بتفصيل دقيق، ليثبت أنها  لم تؤخذ علي أنها تجارب حاسمة، إلا بعد عقود من إجرائها، منها تجارب العالمين الألمانيين " أوتو لومر Otto lummer " و " إرنست برنجشايم Ernst Pringsheim " التي فندت بصورة دامغة النظرية الكلاسيكية للإشعاع وأدت إلي نظرية الكم (88) ؛ وتجربة "بيتا " التي ظن كثير من العلماء أنه سيصل بها الأمر إلي أن تقف ضد قوانين البقاء والحفاظ، لكنها في الحقيقة انتهت إلي كونها أكبر دليل دامغ لانتصارها .

ومن جهة أخري لقد أثار رأي لاكاتوش في التجارب الحاسمة حفيظة كثير من فلاسفة العلم وعلي رأسهم " أدولف جرونباوم A. Grunbaum"، فهو علي الرغم من كونه فيلسوفا غير تكذيبي، فإنه شعر بوطأة نفي نمو العلم بواسطة التكذيب الصريح والمباشر، مما جعله يقول عن موقف لاكاتوش بخصوص التجارب الحاسمة  إنه " سيؤدي إلي نفي امبريقية المعرفة العلمية، خصوصا وأن لاكاتوش فيلسوف غير توكيدي " . لقد بين لاكاتوش أنه لا يرفض التكذيب كمفهوم منطقي، ولكنه يرفضه كمفهوم مفسر لنمو المعرفة العلمية . إن التكذيب المنطقي للمعرفة العلمية يتم عبر تاريخ طويل لبرنامج البحث، وتلعب فيه التجارب الدرامية دوراً كبيراً دون أن تكون تجارباً حاسمة، ولهذا فإن لاكاتوش يضع مفهوماً للتكذيب التاريخي للنظريات العلمية، وهذا المفهوم هو مفهوم " التأكل الاحتكاكي Attrition " للنظريات العلمية .

والمقصود بالتأكل الاحتكاكي للنظريات العلمية أثناء تطور المعرفة العلمية هو نمو العلم من خلال الصراع الحاد والعنيف، وكذا الحوار والنقاش بين مختلف النظريات العلمية . ولعل هذا التأكل الاحتكاكي للنظريات العلمية يشابه من وجوه كثيرة الأنموذج الذي قدمه لاكاتوش لتطور الرياضيات، من خلال تقديم الفروض، ثم نقدها ومحاولة تفنيدها، ثم الدفاع عنها باستخراج الفروض المستترة منها، وتوجيه سهام التكذيب إلي تلك الفروض المستترة أو الحالات المعاكسة المحلية، وإذا كان هذا الرأي صحيحاً، فهو من ثم متسق مع القول بأن لاكاتوش لا يفهم الإنجاز النيوتوني، إلا من خلال فهمه للتطور الكشفي للمعرفة الرياضية لمفهوم التأكل الاحتكاكي – الذي لم يجد للأسف الشديد عناية فكرية من قبل لاكاتوش أو حتي من قبل تلاميذه – هو المعادل الكشفي للمنطق الجدلي والكشفي لشروط تطور المعرفة الرياضية، ولذلك يقول لاكاتوش :" إنه حين يري التكذيبيون تجارب سلبية حاسمة، أري أنا وأتنبأ خلف أية مبارزة ضارية بين النظرية والتجربة بـ : " حرب معقدة بين برنامجي بحث متنافسين بواسطة التأكل

"in the war of attrition between two Programmes  " .

وهنا يستبدل  لاكاتوش مفهوم التجربة المعيارية  الفورية الحاسمة بين النظريات العلمية أو برامج الأبحاث، بمفهوم التأكل الاحتكاكي الذي يؤكد تاريخية نمو المعرفة العلمية، وتشبث العلماء بقضاياهم، هذا بالإضافة إلي تأكيده صعوبة التكذيب السريع لقضايا المعرفة العلمية، وذلك دون أن يذكر استبعاد العلم لبرامج الأبحاث ومن ثم للقضايا والنظريات العلمية، فقبول برنامج بحث معين ليس نتيجة للتكذيب الفوري لمنافسه أو التوكيد الفوري لنواته الصلبة، بل هو " نتيجة تاريخية يتخذها العلماء، بعد فترة طويلة من دراسة المعطيات المتاحة من بينات تجريبية وقوي تفسيرية للبرنامج .. الخ .

نخلص مما سبق أن لاكاتوش ينكر وجود التجارب الحاسمة، كحقيقة فعلية في مسيرة تقدم المعرفة العلمية , وهو حين يقبل التجارب الحاسمة، فهو يقبلها فقط كحقيقة استردادية زائفة – مثلها مثل الوقائع الإستردادية للأساطير – تطرحها المنهجيات الاستقرائية والتكذيبية بطريقة ايديولوجية، من خلال تدعيم منطقهما الكشفي، وبالتالي فهو  كما يري بعض الباحثين يرفض اعتبار التجارب الحاسمة كبناء عقلي قويم للمعرفة العلمية . وعلي هذا، يمكننا النظر إلي عمل لاكاتوش  كإعادة بناء كشفية في مقابل إعادة البناء التي قدمتها كل من الاستقرائية والتكذيبية للتجارب الحاسمة .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم