قضايا

نمطية تفسير الاضطرابات النفسية في المجتمع العربي

اسماعيل ايت حمو"المرض النفسي بين الاخصائي والراقي"

مما لا شك فيه فمن الطبيعي جدا أن يلجأ الأفراد للطبيب عند تعرضهم للمرض العضوي، ولكن الأمر يختلف تماما عندما يكون المرض نفسيا، فلا مجال للاستغراب أن تجد زيارة الطبيب أو الأخصائي النفسي مستغربة ومستهجنة في مجتمعاتنا العربية، بل يذهب بعضهم إلى القول إن الذي يراجع طبيبا نفسيا يعتبر مجنونا ومعقدا ومختلا!

إذن ماهي الخلفية التي تشكل أرضية إلى هذا النوع من التمثل حول الاضطراب النفسي..!؟

التمثل العامي للمرض النفسي "المرض النفسي كوصمة عار":

لحد بعيد، نخاف المرض ربما لأنه يزيد ضعفنا أضعافا؛ وإذ يفرض المرض "العضوي" نفسه علينا فيجبرنا على الاعتراف به وبحث سبل علاجه، نواجه المرض "النفسي" بكلّ طاقة الخوف المكنونة بداخلنا والتي تترجم لقوة رافضة ومناهضة له، بل ومتنصلة من وجوده. ومع ذلك، لا يتوانى المرض النفسي ولا يتوارى عن فرض تأثيره حتى يصل به الأمر أحيانا لإزهاق الأرواح. بحسب منظمة الصحة العالمية "ينتحر حوالي 900 ألف شخص على مستوى العالم سنويا، والأكثر من ذلك أن معظمهم حسب المنظمة تتراوح اعمارهم مابين (15-40 سنة) وتصنف الأمرض النفسية كأحد أبرز أسباب الانتحار بل وغالبيتها تتميز بالقابلية للعلاج والتدخل، فيما يحرمنا الجهل، بإمكانية الشفاء من بعض الأمراض النفسية، من طلب العلاج، يعد الجهل وصمة العار التي ترافق المرض النفسي. فما زال المريض النفسي ـفي منظور قطاعات اجتماعية واسعة هو ذاك "المجنون" ضعيف القدرات الذي تعتزله الناس وتخافه...

و ربما يرجع ذلك أيضا لجهل عامة الناس لذلك الإختلاف القائم بين المرض النفسي والعقلي.. إن الجهل إذا يمثل بؤرة التخلف المكرسة في مجتمعنا العربي فهو بمثابة حجر عثرة عتيدا في طريق الصحة النفسية، إذ كثيراً ما تصنف السلوكيات المرضية للمريض النفسي على إنها "عار"، لذلك تواجه من قبل مختلف بنيات المجتمع (الأسرة، الاقارب، الاقران...) بالسعى الدؤوب للردع العنيف والاستنكار المتعالي...و كثيرا ما يتم توجيه المريض للتشكيك في مبدأ الايمان لديه وأن المرض ناتج عن نقص في المناعة الدينية نظرا لخلفية هذه الاخيرة وماكنتها داخل المجتمع.

وهنا يمكن أن طرح السؤال : هل الدين مناقض حقا للعلاج النفسي أم الدين تم ترويضه لما يخدم مصلحة بعض رجال الدين؟

اذن كما سبق وأشرنا فان التشكيك في مبدأ المناعة الدينية من أبرز الاسباب التي تشكل البنية الاولية الى اقتناع الفرد بلا شك بالتوجه للرقاة على حساب الاخصائي والطبيب النفسي وكثيرا ما يستهلك المريض في وصفات الدجالين التي تلخص شكوى المريض على إنها محض "مس شيطاني أو عين أو سحر..."

ان الرقية الشرعية تأخذ أبعاد مخيفة وخطيرة بالمغرب على وجه الخصوص نظرا لانتشار شريحة عريضة من ممن يتزعمون العلاج بالرقية . فممارسوها لا يترددون في الجمع في نشاطهم بين العنف الجسدي والجنسي، مشكلين خطرا كبيرا على صحة من يلجأون إليهم...

ففي غرفة تشبه حجرات المستشفيات العقلية، يعكف رجل بقميص أبيض، وبلحية مبعثرة، وميكروفون موضوع بعناية أمام كاميرا، على ترديد تعويذات لطرد السحر.. في جانب من هذه الزنزانة المؤثثة بالوسائد، تقوم امرأة مغطاة بالكامل بحركات مرتجلة تحاول مسايرة إيقاع ما يردده الشيخ، وتطلق صرخات حادة وتنطق كلاما غير مفهوم. تحتد المواجهة الماسوني" بمغادرة جسد هذه "المسكونة".

ويرى يونس لوكيلي، الباحث الأنثروبولوجي الذي حضر أطروحة للدكتوراه حول الرقية الشرعية تمت مناقشتها بجامعة محمد الخامس بالرباط، "في المغرب، توجد الرقية لدى الفقهاء والزوايا والأضرحة منذ قرون طويلة. ولكن الرقية الشرعية ظاهرة جديدة، رأت النور مع بروز الفكر السلفي الوهابي، وانتشارها بدأ مع وصول هذا الفكر إلى المملكة في الثمانينيات من القرن الماضي". ثم يضيف "تمت هيكلة هذه الممارسة الجديدة سريعا من خلال إنشاء مراكز متخصصة وكذا عبر الشبكات الاجتماعية". وبالفعل فقد حصلت هذه الظاهرة الجديدة على منصات رقمية متطورة للحديث عن كل شيء: السحر وأنواع السرطان، والعجز الجنسي... إلخ. ويصادف أصحاب الرقية الشرعية نجاحا كبيرا....و مما لاشك فيه كما اشار الباحث هنا على أن الرقية الشرعية تستهوي الكثير من المرضى نظرا لخلفيتها الدينية بالتالي فمن المسلمات جدا أن شريحة كبيرة من المرضى جربوا أولا الرقية الشرعية قبل اللجوء إلى الاخصائي النفسي. فهم لا يستعينون بهذا الاخير سوى كحل أخير فقط.

إن هذه الممارسات المشينة، التي تدخل في نطاق الدجل، لها عواقب وخيمة. فهؤلا الرقاة يستغلون هشاشة المصابين باختلالات نفسية من أجل تدجينهم". بالتالي جني أرباح مغرية من وراء هذا التدجين...فسواء كانوا أغنياء أو فقراء، متعلمين أو أميين، يعتقد زبناء هذا "الطب الغيبي" أنهم "مسكنون" بأرواح شريرة، ويترسخ في أذهانهم أن "الابتهال والدعاء" سيحررهم. والرقية تبدأ أولا بالتشخيص، لتحديد إن كان المريض مصابا بمس، أوضحية للسحر أو العين الشريرة، ثم بعد ذلك ينطلق العلاج او الاستثمار الذي قد يستغرق عدة حصص والتي غالبا ما تكون مكلفة جدا

فهذه التجارة تقوم أساسا على بيع المنتوجات المتعددة، بل إن عدة رقاة تحولوا إلى متخصصين في العلاج بالنباتات، ولا يترددون في وصف الأعشاب، والأبخرة، وأنواع أخرى من المياه التي يفترض فيها طرد الجن.

ففعلا استطاع هؤلاء الفئة أن "يؤسسوا خيالا دينيا حول هذه المنتوجات الفرعية التي تساعد، حسب زعمهم، على التخلص من الأرواح الشريرة"، وتكمن قوة وخطورة الرقية الشرعية في كونها تستعين بما هو إلهي، ومن يلجأون إليها لا يمكنهن الشك في فعالية كلمة الله ولا في وصفات من يحمل هذه الكلمة". إذ في أفضل الحالات يصرحون بأنهم تعافوا، وفي أسوئها يتظاهرون بذلك. بهذا الخصوص،  وفي هذا الصدد يشير عبد الحليم أوتريد، المتخصص في الطب النفسي والعصبي، حكاية حدثت له: "في التسعينيات، كانت لدي مريضة تعاني من 'الهوس الاكتئابي' (bipolaire)، وقد أصيبت بانتكاسة بعد توقفها عن تناول الأدوية بنصيحة من أحد الرقاة. وأخبرني أحد أبنائها أن هذا الراقي أوضح لوالدته أن الجني الذي يسكنها كان مدمنا على الأدوية وبالتالي عليها التوقف عن تناولها حتى يتسنى طرده".

إن متاجرة الرقاة لا تتوقف على مبدأ الماديات فقط، فقد يتم تجاوز ذلك إلى حد بعض الممارسات الشنيعة والمدانة من خلال تنائية العنف والجنس فبعض الرقاة يلجأون إلى العنف الجسدي والجنسي لطرد الجن المزعوم. "إنهم يعتقدون أنه يجب تعذيب الروح الشريرة وبالتالي المريض للحصول على أحسن النتائج الممكنة"...ولا يترددون في استغلال الهشاشة النفسية للمريضات للاعتداء عليهن جنسيا...وهذا ما يبرره الرقاة يما يسمونه 'الاشتباك الجسدي'، كأحد انواع طرد الجن، وهناك من الرقاة من يطلب من المريضات خصوصا صورا إيروتيكية أو ملابسهن الداخلية "للقيام بالتشخيص الدقيق"، بينما أخرون يفرضون عليهن أخذ حمامات بين أيديهم والسماح لهم بلمس أعضائهن الحساسة، بل وحتى القيام بوصال جنسي "لطرد الجن".

إن المعطى الذي نعمل على صياغته من ما سبق لا يهدف إلى الضرب العرضي في المعتقدات الدينية أو التشكيك فيها لكن الأمر الذي يطرح نفسه كضرورة ملحة، ويدفعنا بقوة الى التساؤل، لماذا المجتمعات المتقدمة وبناءا على استغلالها المعقلن لمختلف الدراسات والأبحاث العلمية وخاصة الأبحاث السيكولوجية استطاعت من خلالها أن تنهج لنفسها طرق علاجية موضوعية تتصف بالمصداقية العلمية، وقد نجحت فعلا في تحقيق طفرة نوعية في مجال التشخيص والعلاج النفسي، في حين ما تزال الممارسات الفقيهية عاجزة لحد الساعة عن تقديم أي تطور يذكر إذا لم نقل أنها تكرس المرض وفقط؟.

 

اسماعيل آيت حمو

 

في المثقف اليوم