قضايا

حول دور الشباب في صناعة ثقافة اجتماعية واعية (2)

عدي عدنان البلداويتغيير طريقة التفكير ..

ان التفكير بالسعادة والنجاح والخير يأتي أولاً من داخل الشخص.. على كل منّا ان يبحث عن السلام في داخله، عن الوعي، عن النجاح ويتبناه ويبنيه في افكاره ليستجيب الواقع لنغمات هذا التفكير، فحياتنا نصنعها نحن، وبيئتنا نعيشها نحن، وباستطاعتنا ان نتجاوز كثيراً من السلوكيات السيئة اذا رفضناها ولم نهمل احتمالات تأثيراتها الجانبية على افكارنا ولو بعد حين ..

النجاح الظاهري لا يشكل قيمة انتاجية عالية في الواقع مالم يرافقه نجاح داخلي، فمثلما تتمنى لابنك ان يحصل على درجات عالية في الامتحان الوزاري ويحظى بقبول في احدى الكليات العالية، تمنى له ان يحصل على ذلك كجزء يتطلبه بناء شخصيته، فالشهادة العالية واللقب العلمي يدعمان استقرار الذات وتوازنها ويحفزانها على العمل الإيجابي ..

وربما يستطيع تحقيق ذلك دون التفكير بالجانب الذاتي بناء الشخصية، لكن النتيجة ستكون شخصية تفكر بالمصلحة الخاصة والحرية الفردية بنسب متباينة بين المجاملة والأنانية، ومثل هكذا شخصية لا تسهم في تحضر المجتمع، ولعلها تستفيد من حالات الغفلة وقلة الوعي عند الآخرين لتحول تفكيرها السلبي، ألا يحدث مثل هذا اليوم خصوصاً مع الطبيب الذي يستغل جهل المريض بحقيقة وضعه الصحي فيستغفله ويستغله ماديّاً، بينما لا يكون لهذا السلوك مقبولية عند طبيب تتناول شخصيته مفهوم الحرية من جانب المسؤولية وليس من جانب شخصي بحت ..

يختلف مدى صناعة الوعي حسب مزايا النفس ونوع الأفكار التي تتيناها، فالشخص الصالح يصل مدى صناعة الوعي عنده حدّ توجيه النصح والإرشاد والإشارة الى الطرق المؤدية الى الوعي، بينما يبلغ مدى صناعة الوعي لدى الشخص المصلح حدّ التضحية بالنفس من أجل إيقاظ الناس لتغيير واقعهم من حالة الهزيمة الى حالة الغنيمة، ومن حالة السوء الى حالة الخير، ومن الركود الى الحراك الإيجابي النابض بالحياة بحيث لا يكون يومه نسخة عن امسه ..

دفع كثير من المصلحين حياتهم ثمناً لوعي وتحضر مجتمعاتهم، ووصفت تضحياتهم من قبل البعض بأنها جاءت بسبب وجودهم في غير ازمنتهم، فثقل على البعض تقبلهم وعدّوهم خطراً يهدّد حياتهم التي اعتادوها على ما فيها من سوء وسلبيات وظلم..

حين تأتي التضحية نتاج تفكير قائم على فكرة الحرية المسؤولة فإنها تقود الى مرتبة الشهادة، بينما التي تقوم على فكرة الحرية الشخصية فإنها تقود الى التخلص من النفس وليس التضحية بها .. لذا كان لتضحية المصلحين، ومن مختلف المجتمعات والأمم دوراً ملهماً ودافعاً لتحفيز النفس ..

 

الوعي والحب ..

الانتقال من حالة الحرية الشخصية الى حالة الحرية المسؤولة تأتي من درجة الإشباع الداخلي المعنوي، ودرجة الإشباع تأتي من احترام الذات وحب النفس حبّاً لا يقود الانسان الى الأنانية والغرور بقدر ما يهذب تلك النفس ويشغلها بما يصلحها ويهيؤها لعمل الخير على صعيد العلم والعمل والصحة والعلاقات الاجتماعية، فالحبّ عنصر جذب لكل ما يتضمنه مفهوم الخير، وما لم تحب نفسك فربما لن تستطيع ان تفكر تفكيراً إيجابياً تنمو معه نفسك نموّاً يثمر شخصية متوازنة لها هويتها الواضحة التي لا تقبل نسخها أو تزييفها، وتنطلق منها في الواقع حيث التفكير بالنجاح والسعادة والأخلاق الحميدة والعلاقات الطيبة، في الواقع اننا نقوم بمثل هكذا تصرفات وسلوكيات ايجابية، لكن اغلب الناس يؤديها من منطلق عاطفي انفعالي بفطرة سليمة، وربما نندهش كثيراً لحالة شخص حلو اللسان، يبادر الى تقديم العون، فإذا به متقلب المزاج والمواقف، فهو في لحظة غضب غيره في لحظة رضا ..

يقف افتقاد الوقت الكافي للتدبر والتفكير وراء كثير من المشاكل التي تعترض الشباب في بلداننا العربية المسلمة، بالإضافة الى إسهام الفهم الخاطئ لاحترام الحريات في تقليل فاعلية حضور الحكمة وقت الأزمات والمواقف الصعبة، فالأخبار التي تردنا عن الذين كانوا قبلنا، من خلال تداول وتبادل الاخبار، أو عبر مدونات وكتب، تفيد بتمتع العقلاء والكبار فيهم بالحكمة وتمكينها في حفظ سلامة المجتمع على الرغم من قلة مصادر المعرفة آنذاك، ويبدو ان الحرص والنية الحسنة كانت تحمل مفهوم الحكمة في حياة الأجيال السابقة، بينما تتعدد وسائل المعرفة والإطلاع واكتساب الخبرة اليوم لا تسجل حضوراً امام قرارات سريعة انفعالية يتخذها بعض الشباب في قضايا مصيرية مثل الزواج والطلاق ، يغلب على اكثرها عدم التفاهم وعدم الانسجام مبرراً، ويعيش المجتمع اليوم قصصاً كثيرة غريبة باحداث مثيرة، مقلقة، حزينة، خطيرة..

في السابق لم يكن عدم الإنسجام مبرراً للإنفصال بين شابين لم يمضي على زواجهما اكثر من شهرين او ثلاثة، على الرغم من ان كثير من حالات الزواج لدى جيل الآباء والأجداد لم تكن قائمة على تعارف مسبق، مثلما هي قائمة على هيمنة حالة الرضا على الطرفين فيما يتعلق بخلفية كل منهما الأخلاقية والدينية، على ان توافر هذه الحالة من الرضا لا يلغي وقوع المشاكل بين الزوجين أو بين العائلتين، لكن الفكرة الجيدة كما اشرنا خلال البحث تجذب اليها أفكاراً جيدة، وهو ما كان يقف وراء تدارك كثير من تلك المشاكل، بينما اليوم لا يتدخل الكبار في قرارات الشباب وان كانت على حساب البناء الأسري الجديد لأبنائهم .. فالوضع الإجتماعي تغير كثيراً والأبناء اليوم اكملوا دراساتهم الجامعية وهو ما كان مقصوراً على بعض الأسر في السابق، كما ان الفتاة اليوم لا تخرج من بيت أهلها الى بيت زوجها كما في السابق، فهي طالبة وموظفة ومعلمة وطبيبة ومهندسة، بينما أمّها قد تحسن القراءة والكتابة في احسن حالات كثير من العوائل، وهو ما اوجد حاجزاً معنوياً بين الآباء والأبناء، جعل الآباء يشعرون بتعطل دورهم التوجيهي تجاه اولادهم، ولعل بعضهم وقف الى جانب رغبة ابنه او ابنته في الإنفصال وان كانت قائمة على سبب بسيط .. يضاف الى ذلك تحوّل الدور التوجيهي المسؤول للقاضي والمحامي والباحث الإجتماعي الى دور وظيفي لدى كثيرين، فرضته أوضاع البلاد المضطربة وانتشار الفوضى وظهور اعراض الأنا غير الواعية عند كثير من الناس، فصارت الموعظة في قاموس الحياة اليوم تترجم على انها تدخل في شؤون الغير يوجب التحذير وربما العقاب، وينسحب ذلك على كثير من شؤون الحياة الإجتماعية كالتعليم والصحة وغيرها..

 منعت مديرة مدرسة احدى الطالبات من ادخال موبايلها الى قاعة الإمتحان، فأبلغت والدها، وبدوره هدّد المديرة وانفذ تهديده عبر اشخاص نافذين في المحافظة، فصدر بحقها كتاب يعفيها من ادارة المدرسة، وعلى الرغم من انها تمكنت من استعادة حقها عبر القضاء، لكن هذا الحدث السيء القى بظلاله على المشهد التربوي واحدث في نفوس كثير من المعلمين والمدرسين حيطة وتلكؤاً من تفعيل دورهم التربوي مكتفين بالأداء التعليمي فوقعت حالة من الضعف في علاقة الطالب بالمدرسة والمعلم وبمرور الوقت تحجم تعريف المدرسة لدى كثيرين ليكون مرحلة رقمية للحصول على الشهادة، ليس لها أثر تربوي معنوي، فيتخرج الطالب من المدرسة وهو لا يحمل عنها أي رصيد تربوي، معرفي، اجتماعي، يعتمد عليه في حياته المقبلة كما هو الحال مع جيل الآباء ..

وبحضور هذا المفهوم الجديد للمدرسة، غابت كثير من الملاحظات البسيطة التي من شأنها ان تسجل حضوراً منعشاً لهذا الواقع الرتيب، فمثلاً غاب عن معلمة الصف الأول الابتدائي ان تطلب من تلاميذها جلب الكتب والدفاتر وفق الجدول كي يتجنب الصغار حمل حقيبة مليئة بكل الكتب والدفاتر، وغاب عن مدير المدرسة ان يعلن لطلابه عن جائزة قيمة للطالب المثالي في الأخلاق داخل وخارج المدرسة، وكنت قد اقترحت ذلك في احدى السنوات المنصرمة على احدى ادارات المدارس الصديقة للطفل بعد رصدي لبعض الحالات وجدت فيها أطفالاً يتقاذفون السب والشتم في الشارع اثناء لعبهم، بألفاظ معيبة لا تناسب اعمارهم، لكن الفكرة لم تنفذ، على الرغم من ترحيب كامل اعضاء مجلس الآباء والمعلمين ومصادقة مدير المدرسة على ادراجها ضمن نشاطات المدرسة!!..

 

عدي عدنان البلداوي

 

في المثقف اليوم