قضايا

موقفنا من الاستشراق العلمي

محمود محمد عليلقد اتضح لي خلال الاحتكاك الطويل بالدراسات الاستشراقية إزاء تراثنا العربي الإسلامي وبالأخص العلم العربي، كيف أن المجال العام والوحيد الذي تأسست عليه حركة الاستشراق هو الشرق في علومه، وكيف ركزت هذه الحركة على الجانب العربي الإسلامي منه وأولته عناية خاصة، وكيف كان للفكر الفلسفي العربي مكانة بارزة في اهتمامات المستشرقين التي تجاوزت حدود طبع وتحقيق وترجمة ونشر ذخائر هذا الفكر وتراثه إلي حيث دراسة وتحليل مضامينه ونقده والتنظير له وتقييمه، والاهم من ذلك، اتضح لنا كيف تحكمت في هذه الدراسات الاستشراقية توجهات وعوامل مختلفة غلب عليها التعصب بكل صوره وأشكاله فأفرزت أحكاما خاطئة ورؤى مهترئة ومناهج بينها وبين المنهج العلمى الحق بون شاسع .

ومن هنا، فإن علينا نحن المشتغلين بالفكر العلمى العربي كما أكد أستاذي الدكتور الحسيني أبو سعدة في كتابه "الاستشراق والفلسفة الإسلامية"، واجباً ملزماً، يتمثل في تخصيص جانب من جهودنا العلمية والبحثية لدراسة ما قدمه ومازال يقدمه الغرب من بحوث ودراسات تتناول فكرنا العربي في مجالاته المختلفة وخاصة مجال العلم، على أن تقوم هذه الدراسة على أصول وضوابط منهجية حتى لا نقع في التعصب والهوى الذي غرق في بحره المستشرقون، ولا ينبغي أن تقتصر جهودنا هذه على مجرد ترجمة ونشر الفكر الغربي، بل لابد من اعتماد نقدي يتناول هذا الفكر بالشرح والتحليل والنقد والتقويم استنادا إلي مرجعياته الأصلية ومصادره الموثوق بها، ومن ثم لا يكون دورنا مقصورا على التلقي والتأثر والانفعال والمحاكاة لكل ما يقدمه الغرب من علوم وثقافات وفلسفات، دون انبعاث روح المبادرة التي ننطلق بها إلي المعاصرة والحداثة والإبداع والتأثير من جديد .

وقد لا نكون مبالغين في آمالنا وتفاؤلنا إذا طالبنا بتضافر الجهود من جانب الدول والعلماء والباحثين والمؤسسات العلمية العربية والإسلامية تجاه الاستشراق، وهى جهود تماثل في تنوعها وغايتها العلمية جهود المستشرقين، وليس هناك ما يحول دون إنشاء لجأن علمية متخصصة على مستوى الجماعات في كل قطر عربي نقسم بينها هذه الجهود تقسيما نوعيا في المجالات: الدين، العلوم، الفلسفة، الفن، الأدب، وغيرها ، وتركز كل لجنة في مجال تخصصها على رصيد الكتب والدوريات والأبحاث والدراسات الاستشراقية، ودراسته وتحليلها ونقدها، فضلاً عن إنجاز بحوث ودراسات فيما لدى الغرب من إنجازات في هذه المجالات للإفادة منها بقدر المستطاع، كما تخص هذه اللجان بعقد المؤتمرات العلمية في البلدان الغربية والعربية والإسلامية أيضا على مستوى المستشرقين، وعلى مستوى المفكرين والعلماء بوجه عام ففي هذا ما يحقق ضرورياً من الحوار والتواصل بين الشرق والغرب وتبادل الفهم الصحيح والمنفعة بين مختلف الحضارات على أن تدعم الدول العربية والإسلامية هذه المؤتمرات مادياً وتنظيمياً.

ولا ينبغي إغفال ضرورة توجيه جانب من النشاط العلمي في أقسام الفلسفة والعقيدة، واللغات والعلوم الإنسانية في الجماعات العربية نحو دراسة الاستشراق في مجالاته المتعددة، واعتبار مادة        " الاستشراق " من المواد الدراسية المقررة في هذه الأقسام، فضلاً عن توجيه شباب الباحثين نحو إعداد رسائل علمية على مستوى الماجستير والدكتوراه في هذا المجال، كل حسب تخصصه الدقيق، ولن يتحقق ذلك إلا بإنشاء مكتبات أو أقساما في المكتبات الجامعية تضم كافة جهود المستشرقين وأعمالهم سواء في لغاتها الأصلية أو في ترجماتها العربية لتكون مرجعاً للطلبة الدارسين وللباحثين أيضاً .

ولا يغيب عن أذهاننا أيضاً، ضرورة اضطلاع اللجان العلمية المتخصصة المشار إليها، بإنشاء مجلات وإصدار دوريات علمية تتضمن ما تنجزه من بحوث ودارسات، تنشر باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها ويتم تبادلها مع المؤسسات العلمية الاستشراقية في الغرب.

وفي نقد ذاتي يستنفر الهمم العربية ويوقظ العقول من سباتها، يقول الدكتور إدوارد سعيد فى كتابه "الاستشراق": "إن العالم العربي الإسلامي، ما زال قوة من الدرجة الثانية علي صعيد إنتاج الثقافة والمعرفة والبحث العلمي . فما من باحث عربي أو إسلامي يستطيع المخاطرة بتجاهل ما يحدث في المجالات البحثية والمعاهد والجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا، غير أن العكس ليس صحيحا، فليس هناك، مثلا مجلة رئيسية تعليمية عربية واحدة للدراسات العربية تصدر فى العلم العربى اليوم، كما أنه ليس ثمة مؤسسة تعليمية عربية واحدة قادرة علي مضاهاة جامعات مثل اكسفورد، وهارفرد، وجامعة (كإليفورنيا- لوس انجلس) في دراسة العالم العربي، دع عنك أي موضوع أخر غير شرقي ... وأنها لصدمة موقظة، أن نجد علي سبيل المثال، أنه بينما توجد عشرات من المنظمات لدراسة الشرق العربي والإسلامي، في الولايات المتحدة و أوربا، فليس ثمة مؤسسة واحدة في هذا الشرق لدراسة أوربا والولايات المتحدة، رغم ما لهذه الدول من مؤثرات عظيمة فاعلة ومواجهة اقتصادياً وسياسياً في منطقتناً الشرق تكرس جهودها لدراسة الشرق نفسه" .

ومن هنا تبدو مشروعية التساؤل عما إذا كأن من الممكن أن يكون لدي الشرقيين علم شبيه بالاستشراق أو مقابل له يدرسون فيه كل ما لدي الغرب من حضارة وآداب وفلسفات وأديان وعلوم ونظم وفنون لهم فيها منهجهم وفلسفتهم ورؤاهم الخاصة وأهدافهم؟‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍وبعبارة أدق هل لدي الشرقين – وخاصة العرب – أو يمكن أن يكون لهم علم يسمي "الاستغراب" يواجهون به "الاستشراق " الغربي؟

والإجابة عن هذه التساؤلات هي كما يقول الأستاذ الدكتور محمد حسيني أبو سعده فى كتابه السالف الذكر ص 365 وما بعدها: بالنفي طبعاً، لكن ذلك لا يجعلنا نغفل عن تلك الدعوات التي تبنها بعض مفكرى العرب المعاصرين بل وبعض الغربيين أيضا إلي إنشاء مثل هذا العلم.

ومن ذلك قول الباحث العربي وإبراهيم المنذر فى تقديمه لكتاب " نجيب العقيقي " لقد وددت لو استغربنا كما استشرقوا، ووددت لو تتبعنا آثارهم ومخترعاتهم الفائقة الوصف ونقلها إلى اللغة العربية ولم نكثف بدراستها في لغاتهم، فلو فعلنا ذلك لأغنينا اللغة العربية وأمددنا النشء الجديد بكل أنواع الثقافات الحديثة مع التبحر في العلوم والفنون .

وقد أشار الباحث اليوغسلافي المسلم، أحمد سمايلوفتش إلي ذلك بقولة أنه إذا كان العرب قد اهتموا اهتماما بالغا في العصر الحديث بحضارة الغرب وآدابها، فأرسلوا البعث أن إلي معاهدة ومراكزه العلمية، وقاموا بترجمة كثير من الكتب والدراسات والمؤلفات الغربية ونشرها ونقدها، فإن من الصعوبة بمكان أن يقطع أحد بوجود علم للاستغراب، له كيانه ومنهجه ومدارسة وأهدافه واتباعه، أبلي رجاله في فهم حضارة الغرب بمثل ما بلي المستشرقون في فهم الحضارات الشرقية .

وقد حث المستشرق الألماني رودي بارت فى كتابه " الدراسات العربية الإسلامية فى الجماعات الألمانية "، مفكري العرب علي إنشاء علم الاستغراب، وتساؤل عن أما كنية التحقيق فقال:" لا باس من أن ننتهز هذه الفرصة فنثير سؤالا، ولو من ناحية المبدأ عن أما كنية أن ينشأ في العالم العربي والإسلامي اتجاه للبحث شبيه بالدراسات الإسلامية عندنا، ولكن في الجهة المقابلة ( الغرب ) بهدف دراسة تاريخ الفكر في العالم المسيحي الغربي وتحليله بطريقة علمية، ويمكن أن يطلق علي مثل هذا الاتجاه في البحث، أن أخذ مأخذ الجد، وأرسيت له قواعده الثابتة كنظام، علم الغرب أو باختصار " الاستغراب ".

وقد تجاوز الدكتور حسن حنفي حد الأمل والتمني في إنشاء علم " الاستغراب " إلي حيث اتخذ خطوة إيجابية في هذا   الاتجاه ..... وذلك بتأليفه كتابا بعنوان " مقدمة إلي علم الاستغراب " ابأن فيه الأهداف التي يتوخاها من هذا العلم الذي يدعو إليه ... ومن هذه الأهداف " فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا (الشرق – العرب) بالآخر (الغرب) والقضاء علي مركب العظمة لدي الآخر الغربي بتحويلة من ذات دارس إلي موضوع مدروس " وعلي هذا " يظهر الاستغراب كدفاع عن النفس، وخير وسيلة للدفاع الهجوم، والتحرر من عقدة الخوف تجاه الآخر، وقلب المواين رأسا علي عقب وقلب المائدة في وجه الخصوم " .

ومن بين مهمات علم الاستغراب أيضا – فيما يقول المؤلف – القضاء علي المركزية الأوربية وبيان كيف أخذ الوعي الأوربي مركز الصدارة عبر التاريخ الحديث داخل بنية الحضارة الخاصة ورد ثقافة الغرب إلي حدوده الطبيعية بعد أن أنتشر خارج حدوده إبان عنفوانه الاستعماري "، " أن مهمة علم الاستغراب هي إعادة التوازن للثقافة الإنسانية بدل هذه الكفة الراجحة للواعي الأوربي، والكفة المرجحة للوعي اللاأوروبي ... وتصحيح المفاهيم المستقرة والتي تكتشف عن المركزية الأوربية، من اجل إعادة كتابة التاريخ من منظور اكثر موضوعية وحياداً واكثر عدلاً بالنسبة لمدي مساهمة كل الحضارات البشرية في تاريخ العالم .

ومنذ سنوات دعا بعض مفكرين من العرب والمسلمين إلي ضرورة إنشاء مؤسسة عربية إسلامية علمية عالمية تقف علي قدم المساواة مع الحركة الاستشراقية، وتكون علي هيئة " أكاديمية " تخدم ثقافتنا وتراثنا، فتعمل علي إحياء التراث وتنقيته، وتجديد الفكر العربي والإسلامي، وإعادة صياغة تشكيل العقل والوعي العربي، كما تعمل أيضا علي دراسة الغرب وتراثه بكل محتواه الديني والعلم والأدبي والفلسفي والفني، وتحليله ونقده وتقيمه والغرض من إنشاء هذه الأكاديمية تحقيق هدفين رئيسين: أحدهما، أحياء التراث العربي الإسلامي في جميع مجالاته وتقنية مما علق به من شوائب وإبراز الدور التاريخي الفاعل الذي قام به أعلام هذا التراث في شتي ميادين العلم والمعرفة .

وفي هذا الصدد يقوم العلماء والمفكرين العرب بالرد علي المستشرقين المتعصبين في كل مجال وتصحيح أخطائهم وفي ذلك يقول الدكتور محمود حمدي زقزوق فى كتابه " الإسلام فى الفكر الغربى ": " .. أن هناك ضرورة لإقامة مؤسسة إسلامية عالمية للبحوث العلمية الإسلامية تكون بعيدة كل البعد عن أية تيارات سياسية أو دعائية ويتكون أعضاؤها من صفوة الباحثين الإسلاميين في شتي المجالات بصرف النظر عن جنسياتهم، في حدود مائة عضو يتوزعون إلي مجموعات عمل، يتوفر كل فريق منها علي دراسة قطاع معين من قطاعات الفكر الإسلامي . وتخطط هذه الصفوة أيضاً للبحوث الإسلامية في جامعات العالم الإسلامي، فتصل الحاضر بالماضي، وتجديد شبابنا تراثنا وتجنده لخدمة الحياة الإسلامية المتجددة " .

وفي هذا الصدد أيضا يقول المفكر الإسلامي مالك بن نبي فى كتابه " إنتاج المستشرقين "، لقد أن الأوان للتفكير في إقامة مؤسسة إسلامية علمية عالمية لا تنتمي بالولاء لقطر إسلامي معين ولا لمذهب سياسي أو فكري أو ديني معين، بل يكون ولاؤها الأول والأخير لله وحده ولرسوله محمد (صلي الله عليه وسلم) وتستطيع استقطاب الكفاءات العلمية الإسلامية في شتى أنحاء العالم، وتقف علي قدم المساواة مع الحركة الاستشراقية دوريات ومجالات علمية ذات مستوى رفيع، تنشر بحوثه بلغات مختلفة وتعمل علي استعادة أصالتنا الفكرية واستقلالنا في ميدان الأفكار، فهذا هو الطريق الصحيح إلي الاستقلال الاقتصادي والسياسي، إذ أن المجتمع الذي لا يصنع أفكاره الرئيسة لا يمكنه علي أية حال أن المنتجات الضرورية لاستهلاكه ولا المنتجات الضرورة لتصنيعه .

وينعي الدكتور إدوارد سعيد على ما يعانيه واقع الثقافة العربية والإسلامية من تردى وفراغ الدراسات العربية والإسلامية المتنوعة والمتعمقة التي تضاهى وتواجه العمل الاستشراقى، كما يعنى على فراغ العالم العربي من مؤسسات علمية وتعليمية تضاهي جامعات أوربا وأمريكا فى دراسة العالم العربي، ويكشف عن خطر تتلمذ الطلاب الشرقيين على يد المستشرقين من حيث يعودون إلي أوطانهم العربية مكررين القوالب الفكرية " الكليثيهات " التي هي مذهبيان جامدة استشراقية على مسامع جمهورهم المحلى، وأن الطالب من هؤلاء في علاقته بمن هم أسمى منه مكانه وخاصة أساتذته الغربيين، سيبقى المخبر الذي ينتمي إلي السكان الأصليين وهذا هو بحق في الغرب إذا قدر له البقاء بعد انتهاء دراسته وتدريبه.

وأما الهدف الثاني لهذه المؤسسة العلمية الإسلامية العالمية التي نصادق على الدعوة إلي إنشائها، فهو هدف يكمل الهدف الأول وإن كانوا يغاير في الاتجاه، من حيث يتوجه نحو دراسة الغرب وتراثه وحضارته بكل محتواها، ونقدها وتحليلها، وبيان مصادرها والمؤثرات فيها والكشف عن ما في هذا المحتوى المتنوع من إيجابيات وسلبيات، ويبدو أن ما صدر من جانب كثير من المستشرقين من أحكام خاطئة، وتزييف و افتراءات وتخل عن الموضوعية والتعصب في تناولهم لتراثنا الإسلامي، والقدح والتشكيك في الإسلام ومصادره، والوحي والقرآن والنبي والسنة والنبوية، وفي الفكر الإسلامي وأعلامه وجودهم العلمية، قد دفع بعض مفكرينا المعاصرين إلي الدعوة إلي انتهاج هذا المنهج والاستشراقى المهتدي في دراستنا للغرب في دينه وفكرة وحضارته، فها هو الدكتور مصطفي السباعي في كتابه " الاستشراق والمستشرقون " يقول: " كثيرا ما أتمنى أن يتفرغ منا رجال للكتابة عن هذه الحضارة الغربية وتاريخ علمائها بالأسلوب نفسه الذي يكتب به المستشرقون من تتبع الأخبار الساقطة، وفهم النصوص على غير حقيقتها، وقلب المحاسن إلي سيئات، والتشكيك في كل خبر يصدر عن هؤلاء الغربيين، ولو حصل هذا، لخرجت منه صورة لهذه الحضارة ولرجالها مضحكة ومخزية ينكرها المستشرقون قبل غيرهم "

ثم يعبر السباعي عن أمله في تحقيق هذا الهدف وخطر هذا المنهج الاستشراقى، فيقول بأنه سيأتي يوم ننقلب فيه نحن إلي دراسة تراث الغربيين ونقد ما عندهم من دين وعلوم وحضارة وسيأتي اليوم الذي يستعمل فيه أبناؤنا وأحفادنا من الباحثين – مقاييس التي وضعها هؤلاء الغربيون في نقد ما عندنا الغربيين أنفسهم من عقيدة وعلوم، فإذا هى أشد تهافتاً وأكثر ضعفاً مما يلصقونه اليوم بعقيدتنا وعلومنا".

وإذا كان ما دعوا إليه بخصوص موقفنا من الاستشراق العلمي، وما صادقنا الدكتور الحسيني أبو سعدة عليه من دعوات غيرنا إلي إنشاء مؤسسات علمية عربية إسلامية أو إنشاء علم الاستغراب، يعد حتى الآن من قبيل الآمال أو الأحلام، فإن من الأحلام ما يتحقق إذا صدقت النيات وتضاعفت الجهود، وتحقق الوعي الكامل بذاتنا وبالآخر وما يدبره لنا مما يتهدد هويتنا ويكاد يعصف بوجودنا ذاته .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم