قضايا

مقالة العقل في الإسلام (2)

مجدي ابراهيمرسالة العقل في الإسلام مع كل ما أشارت إليه آيات الكتاب هى حضور العقل فهما عن الوحي، والعقلُ ها هنا ليس هو بعقل الفلاسفة كما تقدّمت الإشارة إليه في السابق، ولا هو بالحجة التي يستند إليها الفيلسوف في محاولة توفيقه بين الفلسفة والدين، إنما العقل هنا هو "نور الغريزة" الفطري، كما أراده الحارث بن أسد المحاسبي، جاعلاً إيّاه أساساً نستخدمه لفهم القرآن وللعلم به وللعمل على السواء.

وحضور العقل معناه حضور العلم في صدر العالم، ولا يتمُّ علم العلماء لهم، ولا لغيرهم ممن يريدون منهم المعرفة ويستنبطون أحكامها ويتلقطون إشاراتها، فيتلقون عنهم لطائفها حتى يكون العقل قائداً لهم وهادياً: " فأهل العلم بكلام ربّهم عزّ وجلّ هم أهلُ الصفاء من الأدناس، وأهلُ الخاصّة من الله عزّ وجلّ الذين أشعروا فهمه قلوبهم وتدبروا آياته عند تلاوته بألبابهم".

لم تكن نصوص المحاسبي في "العقل وفهم القرآن" بالتي تعزل العقل عن الأجواء الإلهية التي يخوض فيها ويعوم؛ لأن فضيلة التفكر في القرآن: أي المعرفة العقلية القرآنية، لم تكن دعوة إلى الأخذ بمطالب القصد الإلهي وكفى، ولكنها كانت فضلاً عن ذلك؛ مزيّة من مزايا الارتقاء صعداً بفهم الإنسان لكشف حقيقته الأصيلة: حقيقة كونه مصنوع على الصورة من الله وبالله وفي الله قصداً. وهذا هو جوهر الأديان.

إنما العزلة عن العقل من قلة الدين، والبعد عنه هو بعدٌ عن التفهيم والتنوير، وهو كذلك بعدٌ عن التّديُّن الرشيد؛ فإذا أحضَر الإنسان عقله، وهو نور الغريزة لدى المحاسبي، فإنه متلق مع ما في القرآن من نور ورحمة وموعظة وبيان، وحق وبصائر. وحضور العقل على الحقيقة من جانب الإنسان يؤهله إلى أن يعظم عنده قدر ما ينال بفهمه من النجاة وما في الأعراض عن فهمه من الهلكة.

وعليه؛ فلا تستغرب حين تجد كلمة العقل ومشتقاته ترد في القرآن تسعاً وأربعين مرة وتكرر مثل هذا التكرار على اختلاف الآيات التي ذكرت فيها مثلما تتكرر كلمة "النور" ومشتقاته، بنفس العدد تسعاً وأربعين مرة مما يحيطك علماً بأن العقل هنا هو نور الغريزة، وأن مدلول النور في القرآن قد يترادف مع مدلول العقل على المعنى الذي يكون فيه العقلُ فيضاً من الأنوار الإلهيّة.

ومن شدّة تأكيد القرآن على نور العقل في الهداية إلى الإيمان أن الله قد جَعَلَ الرِّجس على الذين لا يعقلون، والرّجسُ هو السخط أو العذاب؛ فكأنه بهذا الاعتزاز بنور العقل كقيمة علويّة تهدي الإنسان إلى حقيقة الإيمان يقرر: بأنّ الذين لا يعقلون فلا يهتدون هم من ثمّ أهل السخط من الله وهم أهل للعذاب بما غيّبوا العقل؛ فمنعوه من الهداية وحجبوه عن الإيمان:"وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون".

لكأنما تعلق الإذن بالإيمان على المشيئة الإلهية هنا، إنما هو إذنٌ للعقل بتعقل الإذن المُعلّق على الله، وفي غياب إذن العقل لفقه الحكم - حكم المشيئة - يكون السخط ويحلُّ العذاب؛ لأن تعطيلاً في هذه الغيبة للعقل لايرضاه القرآن فيقرّر السخط والعذاب على الذين لا يعقلون.

ولك إنْ شئت أن تسحب من فورك - هذا المعنى لتطبّقه على خصائص الحياة العقلية؛ كما عرفتها العقول على وجهتها المثلى، فهل ترى في هذا الدين ما يكبّل حرية العقل والتفكير ويقيّد دور الفكر في حياتنا العقلية؟!

فإذا لم تر شيئاً من هذا كله؛ فقُل: سبحان الله في أسرار هذا الكتاب الذي هو نعمة عظمى لقوم يؤمنون.

ولا يبلغ الإنسان ذروة الكمال إلا حين يستشعر المعرفة من الله بالله. ومعرفة الله أكبر من مستطاع العقل الكامل، ولأجل ذلك، كان الله هو أول المعارف، ففيه تاهت الألباب عن تكييفه وتحيرت العقول عن إدراكه. فعلى هذه المعرفة سوف تنبني المعرفة العقلية القرآنية، وسوف يصير العقل موصولاً بالله أجلّ اتصال وأكرمه؛ فكامل العقل عند المحاسبي هو الذي يعقل عن الله معرفته، ويقر بعقله أنه عاجز عن إدراك كنه معرفته.

وقصورُ العقل البشري عن إدراك حقيقة الله لا ينقص قيد أنملة من قيمة العقل لا عند المحاسبي ولا عند غيره من أقطاب التصوف السُّني من أهل الولاية؛ وإنما هو على العكس من ذلك تماماً ... اكتمالٌ لهذا العقل واختبارٌ  ممتاز لقيمته. فإن ّهذه القيمة تتبلور من غير شك في وعي العقل لحدوده، وأولها عجزه عن الإحاطة بموضوع الإلهي. وهذا الوعي بعجز الإدراك المعرفي لله إدراك إحاطة وشمول جملة وتفصيلاً، لا يلغي توقف العقل عن البحث في المعرفة الإلهية توقفاً كاملاً، إذْ العقل عن الله عند المحاسبي يتفرع إلى فرعين: فرع أول يمدُّ خيوطه نحو "الفهم". وفرع ثان يقفز بالموهبة إلى "البصيرة". فأمّا العقل في فرعه الأول "الفهم"، فهو بمثابة الظاهرة العقلية التي تؤدي إلى إصابة المعنى من ناحية، والقدرة على التعبير عن هذا المعنى بشكل ما من أشكال البيان من ناحية أخرى. لكأنما العقل باعتباره غريزياً لا يخلو من كونه فهماً يصيب المعنى إدراكاً ونظراً ومنطقاً واستدلالاً وحدساً معاً ثم إقصاءً للعاطفة وتحكيماً للبداهة .. وكلها ملكات إدراكية تتداخل في العقل النظري كمنهج عند المحاسبي، فإذا هو عقل يُحسن التعبير عن ذلك بوجه من الوجوه.

وليس الفهم فهماً سكونياً جامداً يقف بصاحبه عند حدود التعطيل، كلا بل هو على وجه الدقة فهم متحرك وحي معاً، فهو متحرك باتجاه الأشياء والظواهر الموجودة في العالم الخارجي على كافة ما يتصل منها اتصالاً مباشراً بالحسّ أو بالدنيا أو ما يتعلق منها تعلقاً مباشراً بالروح وتطلعاتها في عالم الآخرة، ولأنه يتصدّى لأشياء موجودة لها معان موجودة وخاصّة بكل شيء من هذه الأشياء. هو "فهم حي" أشبه ما يكون بحياة هذا الشيء نفسه؛ فإذا أصاب الإنسان هذا المعنى بعقله، فقد حَقّق الفهم على اختلاف ما نفهم من معانيه: الحركة والحياة، واستقام له بعد الفهم البيان.

أمّا العقل في فرعه الثاني "البصيرة"؛ فهو بمثابة غريزة النفاذ تتخطى معاني هذه الأشياء الواقعية إلى ما بعدها؛ فالبصيرة العقلية تهدف بهذا التخطي إلى معرفة قيمة الأشياء في جوهرها الإلهي من جهة، وقيمتها الأخلاقية من جهة ثانية. وأن الإنسان ببصيرته العقلية ليقتدر على أن يتعرّف على عظيم قدر الأشياء النافعة في الدنيا والآخرة. وهنا يكمن موطن العقل عن الله، حيث تتجلى للإنسان من خلال هذه التجربة العقلية وخصائص المعرفة في طابعها الإلهي: قدرة الله تعالى في هذا الكون، وتسخيره الأشياء لمنفعة الإنسان، ووقوفه على الحكمة من وراء الفعل الإلهي.

ولما كان الإنسان عند المحاسبي يطيع الله بالعقل وحده، وكان العقل الغريزي يُفرز فهماً وبصيرة، صارت البصيرة باعتبارها عقلاً نافذاً إلى المعرفة وكشف حقائق الأشياء، سبباً في النهاية لطاعة الله طاعة عقلية، والاتصال به اتصال هداية وتوفيق.

ليس العقل عند المحاسبي إذن جهداً نظرياً وكفى، كما هو الشأن عند الفلاسفة، ولكنه عقل عملي ينحو منحي التطبيق الفعلي لما قد يكون ممكناً بالعقل عن الله من معاني القرآن وأحاديث الرسول. وتهدف مجموعة هذه المعقولات إلى توخي الأخلاق العملية، والتحلي بأكرم الفضائل الأخلاقية التي تنزّه صاحبها عن أن يكون عُرضة لمواطن الزلة والغفلة.

ولا يكتفي المحاسبي بالإشارة إلى هذه الأخلاق القرآنية فقط، ولكنه يقدم تحليلاً نفسياً ذوقيّاً لهذه المعاني الأخلاقية القرآنية.

ولا يخفي ما لكلامه في النفس ومقامات السلوك وأحواله، من أثر بالغ على من جاء بعده من الصوفية. وإذا كان الغزالي قد تميز بغوصه في أعماق الموضوع الذي يعرض له غوصاً يتيح له النظر فيه من أفق فسيح مديد الأطراف، وبعلميته المنهجية في النظر، والتي تصلح أن تكون نموذجاً للمنهج العلمي كيف يكون.. فقل عن الغزالي ما شئت أن تقول: في قوة حجته، وفي قدرته القادرة على التحليل، وفي سعة أفقه وغزارة علمه، وحضور بديهته، وفي عقلانية نظرته، فلن تجاوز الحق. وهو من بعد هذا كله قد استمد ذلك واستقاه من السابقين عليه سواء من الصوفية، وفي مقدمتهم الحارث المحاسبي أو من الفلاسفة.

وكتاب " الإحياء" للغزالي فيه الكثير من كتاب "الرعاية"، وكما أن للمحاسبي أثاره على الغزالي، كانت هناك أثاره على المدرسة الشاذلية الذين نصحوا مريديهم بقراءة "الرعاية" تماماً كما نصحوهم بقراءة القوت والأحياء.

لقد فرّق المحاسبي بين العلم النظري بالإيمان، والعلم بالإيمان مع العمل، كما فرّق بين نوعين من العمل: عمل ظاهر بحركات الجوارح، وعمل باطن بحركات القلوب.

وإنا لواجدون في هذه التفرقة تمييزاً بين ضربين من العقل، كما هو ممكن التمييز عنده حسبما تشير إليه بعض الأقوال المنسوبة له عند أهل الطبقات. ضربا العقل: نظري وعملي كما تقدّم؛ فالعقل النظري لا فائدة منه ما لم يكرع من معين الإيمان. والعقل العملي هو التخلق بأخلاق الكرام من أهل الفضل الذين هم يعملون بحركات القلوب ويرصدون حركاتها في مطالعات الغيوب. وما دام لكل شيء جوهر، فجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر. الصبر على ماذا يا ترى؟

أظنه إنْ لم أكن مُفتاتاً على المحاسبي هو نهوض العقل بتبعاته الأخلاقية. والصبر على ذلك كل الصبر كله، مع الاستطاعة والمراقبة لحركات القلوب، ومع تقدُّم العلم واقترانه بالعمل على السواء. ثم إذا هو منح هبة   "الاتصال" كان الصبر عليها أشدّ وأقسى، حيث ينقلب العقل إلى عمل بحركة القلب، وحيث تتعطل حركة الجارحة لبواغت الاستبصار وجلالة المشاهدة وصواعق الواردات، وحيث يكون الكل في واحد في مقام الشهود، وحيث يغيب عن رؤية الشهود لكل ذي مرئ، ولكل ذي وجود. قال ابن خفيف ( ت371هـ) سألت رويم بن محمد عن التصوف .. ما هو؟ فقال: يا بنيّ التصوف إفناء الناسوتية وظهور اللاهوتية. فقال: زدني رحمك الله، فقال: لا رحمني الله إنْ كان في ذلك مزيد.

فكأن غاية التصوف في هاته الإشارة السالفة، ظهور اللاهوتية بعد إفناء مظاهر الناسوتية، فإذا ظهر للعبد شيء من اللاهوت، فلا يبقى أمام الجارحة التي هى محل المراقبة والإحاطة غير أن تعمل بمقتضى ما يملي عليها حكم الحال .. وياله من حال ينفد في طريقه زاد الصابرين. هنا يكون الصبر ألزام ما يلزم للعبد ويكون العقل أبدع معنى من معانيه .. فلا حركة ولا انزعاج، ولكن عقال ورسوخ وتمكين، ولا فناء ولا غيبة، ولكن صحو وحضور وبقاء، يتحول فيه القلب إلى عمل يعقل حركة القلب حين يستقبل طوالع الغيب وطوارق الرهبوت. لأجل ذلك قال المحاسبي:"العمل بحركات القلوب ومطالعات الغيوب، أشرف من العمل بحركات الجوارح".

ذلك نوع من العقل فريد وغريب؛ فأي عقل ذلك الذي نعمل به ونحن نستشرف مُطالعات الغيوب؟! أي عقل وأي نوع من العقل تلك أوصافه؟! إلا أن يكون هو العقل البصيري: عقل الروح الذي به يصل الواصلون، وعنده يقف شوط المسيرة الإنسانية في أقصى ما تتبلّغها القدرات وتصيبها الطاقات والملكات طامحة إلى مزيد من الترقي والوصال.

إنه العقل الإلهي ولا ريب! وذلك أكمل معاني العقل عن الله عند المحاسبي: أن يكون الوصول إلى الله بالله، بعد أن تنتهي أشواط المسيرة العقلية لدى الإنسان الذي كان عقل عن الله، فإذا كمل العقل فيه وصل إلى الله بالله. وكفى بالله ولياً، وكفى بالله نصيراً.

(وللحديث بقيَّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم