قضايا

مسلسل ممالك النار وحروب الإعلام بين تركيا والإمارات

محمود محمد عليلا شك في أنّ للإعلام تأثير واضح في تسيير مجريات الأمور في الحياة العامة، فبعد أن تطورت التكنولوجيا أصبحت وسائل الإعلام متوفرة في كلّ وقت وحين ولا يمكن لأي شخص أن يبتعد عن تأثيرها سواءً كانت تلفازاً، أم مذياعاً، أم صحيفة، وقد تم إطلاق مصطلح السلطة الرابعة على وسائل الإعلام في المجتمعات نتيجة تأثيرها القوي في اتخاذ القرارات، فهي فعلياً لا تتخذ القرار كما في السلطة التنفيذية، ولا تستطيع تشريع القوانين والأنظمة كما في السلطة التشريعيّة، إلا أنّها من خلال تسيير وجهات النظر للمواطنين تضغط على بقيّة السلطات للتشريع واتخاذ القرارات، ومن الأدوار التي لعبت فيها وسائل الإعلام دوراً بارزاً في التأثير في الناس ما يسمى بالحرب الإعلامية.

والحرب الإعلاميّة هي عبارة عن بث الأفكار، والإشاعات، والمعلومات الخاطئة والمغلوطة وغير السويّة بين الناس من خلال الفضائيات، والإذاعات، والإنترنت، والجرائد بهدف تغيير وجهات النظر وتسييرها باتجاه ما هو مطلوب منها، وتحقيق التضليل الإعلامي، والتلاعب بالرأي، والوعي العام، وسلوك المواطنين، وتعدّ الحرب الإعلاميّة من أخطر أنواع الحروب نظراً لتأثيرها في نفسيّة متلقي المعلومة وعمل غسيل دماغ لما يؤمن ويقتنع به مما يجعله يغيّر الواقع اتباعاً لما تلقى وترسّخ في عقله، كما أنّها تعدّ حرباً باردة لا يمكن التنبؤ بنتائجها ونهايتها، وفي بعض الحالات لا يمكن معرفة المسؤول عنها، كما تأتي الحرب الإعلاميّة مرافقة لبقية أنواع الحروب سواء كانت عسكريّة، أم اقتصاديّة، أم سياسيّة، وقد تكون في حالة السلم بهدف فساد عقول الشباب والأمة، ونشر الفوضى والإرباك بين صفوفهم.

وتؤدي الحرب الإعلاميّة إلى التأثير في نفسيّة المستمع، وتثبيط عزيمته، وسلب الإرادة منه وبالتالي سهولة السيطرة عليه، فكم من حرب تم تحقيق النصر فيها بسبب ما تم بثه من أفكار ومعلومات بين الجنود، ونظراً إلى أهمية الحرب الإعلامية امتلكت القوات العسكرية محطات خاصة بها لتبث ما تريد من معلومات بين المواطنين وبين الجنود للتحكم في سير الأمور، ومن جهة أخرى قد يكون للحرب الإعلامية نتائج إيجابية من خلال رفع معنويات المواطنين والجنود في أرض المعركة، وبالتالي حماية أموالهم وممتلكاتهم من سيطرة العدو عليها، لكن في هذه الحالة يجب توخي الدقة والحذر عند بث المعلومات؛ لأنّها يجب أن تكون حقيقيّة وقريبة من الواقع حتى لا تكون النتائج سلبية عند معرفة المواطنين والجنود بالحقيقة والواقع، لذلك على الأمة، والدول، والمجتمع التنبّه إلى خطورة هذه الحرب الإعلاميّة، وترسيخ المبادئ، والقيم، والأفكار السليمة عند المواطنين والجنود العسكريين؛ لتحصينهم ضد أي هجمات قد تكون مستترة تحت غطاء العلم، أو التثقيف، أو المساعدة من الخارج

وقد شهد مسلسل ممالك النار والذي يذاع الآن علي قنوات MBC  أكبر حرب إعلامية تمر بها المنطقة العربية الآن، فهذا المسلسل يتناول فترة سقوط دولة المماليك علي يد الدولة العثمانية بقيادة السلطان سليم الأول، ويسلط الضوء علي حياة السلطان المملوكي طومان باي الذي انهزم أمام السلطان العثماني في معركة الريدانية التي جرت في مصر عام 151م، 922هـ .

وهنا وجدنا الدولة التركية تشن هجوما عنيقا علي المسلسل وتتهمه بأنه يتضمن العديد من المغالطات المنهجية والمنطقية، كما لم تكن الدولة التركية والتي كانت تقوم منذ سنوات طوال وهي تكلف الخزانة التركية بملايين الدولارات في الإنفاق علي مسلسلاتها التاريخية أن تري مسلسل بهذه الضخامة وذلك الإنفاق مثل مسلسل " ممالك النار"، فلم تكن تتوقع أن دولة مثل دولة الإمارات العربية الشقيقة يمكن أن تنافسها في الساحة، ولهذا تعجبت من ردة فعل أروغان الغاضبة من مسلسل " ممالك النار"، والذي وصلت تكلفته إلي 40 مليون دولار، وهذا المسلسل قد أحدث ضجة كبيرة ومتابع بشكل استفز الدولة التركية، والذي جعلها تقلل من قيمة المسلسل وأهميته وتبرر غضبها بمحاولة تسيس قصته وهدفه وهذه المحاولة لست غريبة علي دولة تركيا، فقصة ممالك النار تكشف حقائق خلال حقبة شهدت تزييف للتاريخ وتعتيم علي الجرائم التي مارسها العثمانيون خلال فترة حكمهم علي الشرق الأوسط .

والجدير ذكره أن مسلسل ممالك النار هو من تأليف مصري وإنتاج إماراتي ويعرض خلال الأيام علي قناة MBC  السعودية وربما يكون هذا هو ما يغضب أردوغان ونظامه، فكل يوم يطل علينا أحد المقربين السياسيين الأتراك والتابعين لنظام أردوغان ويهاجم المسلسل وكان آخرهم المستشار ياسين اقطاي Yeni Şafak مستشار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، هجوما على مسلسل "ممالك النار"، حيث نشر المقالين على موقع "يني شفق التركي"، الأول بتاريخ 27 نوفمبر تحت عنوان: ما الذي يخدع مسلسل "ممالك النار"؟، أما الثاني والمنشور بتاريخ اليوم 1 ديسمبر فيحمل عنوان: تبددون أموالكم بلا طائل"؟.

وعونا نركز علي المقال الأول وهو كما قلنا بعنوان "ما الذي يخدع به مسلسل ممالك النار"، وهو يطرح سؤال طويل وعريض قد طرحه علي نفسة يقول هذا السؤال: م الذي يخدع به مسلسل ممالك النار، وقد أجاب ياسين اقطاي فقال: " يمكن أن تعتبر المسلسل الذي يحمل اسم ممالك النار، الذي بدا عرضه علي MBC  التي تمتلكها السعودية ويقع مقرها في الإمارات، حملة مضادة تهدف لخفض تأثير المسلسلات التركية التي اكتسبت أهمية أسطورية في العالم العربي بل وفي العالم كله بمرور الوقت، وأما التصريحات التي جعلتنا نضع هذا التقييم للمسلسل فتستند لما قاله منتج المسلسل بنفسه بهذه المناسبة عندما قال أنه سيفشي أسرار إدارة الدولة العثمانية المليئ بالوحشية، وفي الواقع فإن المسلسل يستهدف بشكل مباشر الدولة العثمانية ، وكذلك الجمهورية التركية الحالية ممثلة في الدولة العثمانية، واعتقد أن هذه هي المرة الأولي التي يشهد فيها الإعلام الرسمي العربي هجوما علنيا بهذا المستوي يستهدف تركيا.

كما وصف الكاتب أيضا إيقاف MBC  السعودية لعرض مسلسلات بأنه بوجهة النظر المريضة التي تمنع العرب من فتح صفحة جديدة مع تركيا ومعانقتها وفي هذا يقول : إن الاهتمام الذي حظيت به المسلسلات التركية في العالم العربي في السنوات الأخيرة، وانتشار تأثيرها إلي هذا القدر يبرهن في الحقيقة إلي أي مدي اشتاق العرب لمعانقة إخواتهم من الأتراك، وأبرز ما يعبر عن هذا الاشتياق نذكر علي سبيل المثال لا الحصر الإقبال الشديد علي مسلسلات مثل قيامة أرطغرل والسلطان عبد الحميد وكوت العمارة بل وحتي سائر المسلسلات الدرامية الأخري الشهيرة، ولايتطرق أي من هذه المسلسلات لأي مسألة عليها خلاف بين العرب والأتراك، بل إنها لا تسعي حتي للرد علي مثل هذه الدعاية المغرضة فهذه المسلسلات لا تستهدف الأنظمة العربية الحالية، كما لا تحمل أي هدف أو بعد يرمي لمعاداتها أو تحريض الشعوب ضدها، لكن علي الرغم من ذلك فإن قناة MBC  السعودية اخترت كأول مشروع ضخم يهدف لخفض تأثير هذه المسلسلات مسلسلا يستهدف الدولة العثمانية بشكل مباشر، وهو الأمر الذي يحمل الكثير من المعاني .

ويستطرد المؤلف كلامه فيقول: ... وفي النقيض ترس شخصية طومان باي بطل مسلسل ممالك النار لا تحمل وصفا سوي إظهار مقاومة وحشية ومسكينة أمام الدولة العثمانية، أي – في الواقع – أمام وحدة المسلمين ونهضتهم، فكيف لهم ان يصنعوا من شخصية كهذا بطلا يقدمون من خلاله رسالة إلي الناس اليوم ؟ ولنفترض أنهم قدموا رسالة من ثلاث أو خمسة أسطر، فكيف ستتلقي الشعوب العربية أو سائر الشعوب الأخري هذه الرسالة ؟ هل سينظر الناس إلي هذا النوع من الرسالة ويحذفون من عقولهم الرسائل التي قدمها مسلسل قيامة أرطغرل أو المؤسس عثمان؟ وهل سيحجم هذا المسلسل حقاً تأثير هذه المسلسلات؟ يالها من محاولة مسكينة !

ويبدو أن أتباع  أردوغان في حالة غضب شديد من مسلسل ممالك النار، فقبل يومين خرج أيضا مستشر تركي سابق وهو الدكتور عمر قورقماز كبير مستشاري الرئيس أردوغان وقال لصحيفة ترك برس بأن المسلسل لا يهاجم تركيا فقط بل يهاجم الإسلام والتاريخ الإسلامي .

وهذا الهجوم قد أجاب عليه كاتب المسلسل سليمان عبد الملك عبر حسابه علي تويتر وقال : كل وقائع التاريخ المسلسل حقيقية من الانقلاب إلي قتل الأخوة والأطفال والتفاصيل مأخوذة من مصادر عربية وتركية وإنجليزية موثقة . وفيه وقائع أفظع وأقسي لا تصلح للنقل إلي الشاشة علشان محدش يضحك عليكو ويقول إنه تزوير ومغالطات .

وبعشرات التغريدات، هاجم رواد موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، ياسين أقطاي وغيره وجاءت التعليقات - التي نستعرض أبرزها- في معظمها مشيدة بالمسلسل، ومؤكدة أنه لا يعرض سوى الصورة الحقيقية للدولة العثمانية: "ممالك النار ينقل الصورة الحقيقية للدولة العثمانية تعودتم تنقلون التاريخ حسب روايتكم فقط. شكرًا لمن قام على مسلسل ممالك النار لأنه بيّن الحقيقة"، "أهنئ من قام على هذا المسلسل فالصراخ أعلاه يؤكد أن المسلسل ضربهم في مقتل بل أتى على الجرح"، "مسلسل يسرد الحقيقة الموجعة لكم، والذي لم تتوقعون أن يظهر مثل هذه الأعمال يوماً"، "صراخكم طرب".

وكتب آخرون "مسلسل يعمل فيكم كده.. من كثر صياحكم تحمست اتابع المسلسل رغم اني مو من متابعي المسلسلات"، "إن شاء الله لن يكون العمل الاخير الذي يفضح جرائمكم.. إن شاء الله ستكون هناك سلسلة من الأعمال الفنية لفضح جرائمكم حتى تصل لعصر إبراهيم باشا"، "المسلسل فضح حقيقة الدولة العثمانية الغازية والدموية، الصياح دليل على أن المسلسل نجح في إزالة الغشاوة عن المغيبة عقولهم حول حقيقة الدولة العثمانية الغازية وجرائمها في الوطن العربي".

كما جاء في تعليقات المغردين المستمرة منذ نشر المقالين: "من كام سنة بيجملوا تركيا بالدراما من مهند ونور ووادي الذئاب وارطغل وعبدالحميد وقيامة إسماعيل، وفجأة مسلسل واحد بس يهدم كل ده ويوجعهم في قلب إسطنبول"، "المسلسل لا يخدع إنما يعري ويكشف جرائمكم التي خدعتم بها البعض باختلاق أكاذيب ونسبها لأشخاص مجرمين من الاحتلال العثماني على أنها إنجازات وانتصارات لخدمة البشرية. الكذب حباله قصيرة".

مهاجمو أقطاي أكدوا أنهم ليسوا بحاجة لمسلسل حتى يعرفون تاريخ الدولة العثمانية الإجرامي، وكتب بعضهم "يكفي الجرائم التي ترتكبوها في شمال سوريا والعراق وفي المناطق الكردية داخل تركيا لشرح هذا التاريخ الإجرامي"، "تاريخكم مزور والمسلسل يظهر الحقيقة كما في كتب التاريخ الحقيقية كما ان معظم مصادره من كتبكم فلماذا الانكار"، "مسلسل فضح حقيقة تزويركم للتاريخ يا غزاة".

وأرسل المغردون تعليقاتهم على حساب أقطاي، ووجهوا لهم كلماتهم ردًا على تأكيده أن المسلسلات التركية لا تتطرق لأي مسألة عليها خلاف بين العرب والأتراك، ولا تستهدف الأنظمة العربية الحالية، ولا تحمل أي هدف أو بُعد يرمي لمعاداتها أو تحريض الشعوب ضدها، قائلين "ممالك النار هو رد على مسلسل ارطغرل الذي تم إخراجه على ما يريد أردوغان، وهذه البداية يا أقطاي باقي ما شفت شي"، "هذا المسلسل أعطى صورة حقيقية لأطماع الاتراك في الوطن العربي من مئات السنين وغزوهم لمصر والشام، وهي ديار مسلمين، وإسقاط دولة المماليك دليل قاطع أن دولة بني عثمان ابعد ما يكون ان تسمى خلافة إسلامية بل دولة غازية حتى سليم الأول سمى نفسه الغازي وأول غزواته على المشرق الإسلامي".

والسؤال الآن لماذا كل هذا الغضب التركي من مسلسل ممالك النار؟

اعتقد أنه ربما أن المسلسل يمثل نقطة تحول رئيسية في طبيعة دراما العلاقات التركية – العربية طالما دأبت تركيا علي توظيف القوي الناعمة؛ ولا سيما الدراما التركية التي لعبت أدوار رئيسية في خدمة السياسة التركية، فضلاً عن الاقتصاد التركي علي مستوي السياسة فقد ساهمت الدراما التركية في تحسين صورة تركيا وتحسين صورة التاريخ التركي – الاستعماري – الاحتلالي لبلدان الشرق الأوسط باعتباره فتح إسلامي لهذه البلدان زيف الحقائق التاريخية، ومن ثم جنت تركيا عوائد سياسية ربما زادت من شعبية السياسية للأتراك والدولة التركية وجنت بالتبعية عوائد اقتصادية ضخمة بلغت إلي نصف مليار دولار ومن ثم فهي صناعية سياسية وصناعة اقتصادية الآن، والمسلسل بلا شك قد أحدث تحول في طبيعة العلاقة، فلأول مرة يبادر الطرف العربي ويكون له رواية أخري غير الرواية التي طالما سردها الأتراك، هناك الآن لأول مرة دول عربية من خلال مسلسل عابر للحدود العربية لا يعبر عن هوية وطنية حتي وإن كانت من إنتاج إماراتي أو غيرها، ولكن ربما يعبر عن مجموعها هؤلاء في دراما استطاعت أن تمزج وتُجري تنسيق واضح بين مملثين عرب من كل البلدان ومخرجين عرب وأجانب ومن ثم فهي تمثل نقلة متأخرة ولكنها أيضا مهمة في إطار العلاقات العربية – التركية، فلأول مرة يستطيع الطرف العربي أن يلعب دور المبادر وليس فقط المستقبل للرواية التاريخية للأحداث سواء كانت الأحداث الجارية أو الأحداث التاريخية .

 

د. محمود محمد علي

 

في المثقف اليوم