قضايا

القوى القومية الكردية: العثة الدفينة في لباس النظام السياسي الجديد

ميثم الجنابيالقضية الكردية- أفق مغلق وبدائل محتملة (3)

إن الأحداث التاريخية الكبرى تقاس بنتائجها. وما جرى ويجري في العراق هو دون شك أحداث تاريخية كبرى من حيث مقدماتها ونتائجها بالنسبة له وللمنطقة عموما. بل يمكننا القول، بأن ما جرى ويجري في العراق هو أحد الأحداث التاريخية الكبرى التي وضعت وسوف تضع مع مرور الزمن الجميع على محك الامتحان الاجتماعي والسياسي. والقضية هنا ليست فقط في أن ما جري ويجري في العراق هو صراع عالمي من حيث قواه المتصارعة، بل ومن حيث غاياته.

وقد يكون من الصعب أن تدرك القوى السياسية الفاعلة في العراق الحالي حجم ومستوى استقلالها الفعلي في إدارة شئون الصراع السياسي الداخلي، إلا أنها تساهم في الإبقاء عليه "محررا" من تأثيرها الفعلي. بعبارة أخرى، إن الصراع الدائر في العراق لا يتمثل حقيقة مصالحه الجوهرية. والقضية هنا ليست فقط في أن اغلبها هو نتاج تدخل خارجي (أمريكي)، بل ولعدم ارتقائها إلى مصاف الإدراك الفعلي لحجمها الواقعي ضمن المسار العام للسياسة الأمريكية في العراق. وعموما يمكن القول، بأنها جميعا تبدو كالنملة السوداء على صخرة صماء في ظلام السياسة الأمريكية. أما إدراكها الذاتي فانه لا يتعدى أوهام "السيادة" المزيفة. وهي سيادة يمكن بلوغ الكثير من مقوماتها في حال التمتع بالقدر الضروري من الرؤية الواقعية المستندة إلى إدراك واقع العراق الحالي ومتطلبات انتقاله الفعلي من التوتاليتارية إلى الديمقراطية.

غير أن تجربة السنوات الاولى عما يسمى بمحاولات تذليل التوتاليتارية والدكتاتورية تكشف عن عمق الخلل البنيوي في المجتمع عموما وفي قواه السياسية بالأخص. فقد كشفت الانتخابات الاولى في العراق عام 2005 ونتائجها السياسية عن التناقض المثير في هذه الظاهرة. إذ كانت الانتخابات خطوة تاريخية هائلة إلى الأمام في مسار الحرية، وخطوتان إلى الوراء في مجال المسار السياسي. بمعنى أنها أشركت الجماهير للمرة الأولى في تقرير شئون الدولة، إلا أن "انتخابها" كان محكوما بمستوى الخراب الشامل. مما أدى بالضرورة إلى ارتقاء قوى عاجزة من حيث إمكانياتها وأيديولوجياتها على تحقيق مشروع الانتقال العقلاني إلى الديمقراطية.

وهو تناقض سوف يطبع مجمل المسار العام والخاص للعملية السياسية في العراق. وبالقدر الذي يثير هذا التناقض حساسية بالنسبة للضمير والوجدان العراقي المعذب في انتظار تحقيق آماله الفعلية في البديل الديمقراطي، إلا انه كان اقرب إلى وهم الآمال الشعبية المتربية بنفسية التأمل العاطفي "للأمام المنتظر". وهو تأمل يشكل الخطوة العملية الأولى لتذليل نفسية الوهم والتأمل الخادع. والقضية هنا ليست فقط في أن العراقيين سوف يدركون خلال فترة بسيطة أن "الإمام المنتظر" ليس أكثر من قوى سياسية محترفة في إتقان صناعة الوهم، بل ومتمرسة أيضا في لعبة الرذيلة السياسية المغلفة بلباس التدين والورع الكاذبين. وتجسدت هذه الظاهرة بصورة نموذجية في شكل ومضمون "المساومات" السياسية التي عملت من اجلها القوى "الفائزة" في الانتخابات. بمعنى أنها عوضا عن أن تتوجه إلى الناخب الفعلي، فإنها اختبأت وراء تاريخها المقدس "الشيعي" و"الكردي"، أي الطائفي والعرقي لتحيك منهما نموذجا جديدا لنفسية المؤامرة والمغامرة. وجعلت هذه الممارسة منهما بالضرورة قوى "خارجية" عن العراق، بمعنى أنها أخذت تخرج أكثر فأكثر عن المسار الضروري للانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية. ومن ثم إعادة إنتاج قيم الصدامية بلباس جديد.

فقد كان تاريخ العراق المعاصر، خصوصا بعد انقلاب تموز عام 1958 وحتى اليوم هو زمن الانتقال من دكتاتورية إلى أخرى. وبهذا المعنى لم يكن أكثر من زمن الانتهاك الدائم لفكرة الدولة الشرعية والمجتمع المدني والثقافة العقلانية. أما الآمال التي وضعت على إمكانية البناء الواقعي والعقلاني للدولة الشرعية والمجتمع المدني بعد سقوط الصدامية، فإنها تقف أمام امتحان تاريخي غاية في التعقيد.

فالوقائع الفعلية ما بعد الانتخابات الاولى التي جرت بعد سقوط الدكتاتورية، تشير إلى حقيقة واحدة جلية ألا وهي استمرار زمن المساومات الخفية، أي المؤامرات والمغامرات الجزئية التي تضع مصالح الأحزاب والقوى التقليدية فوق مصلحة البناء الضروري للدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الاجتماعي. وإلا فمن الصعب فهم طبيعة ومستوى "المساومة" السياسية بين الحركات السياسية الشيعية والحركات القومية الكردية. فهي قوى تختلف من حيث مكوناتها وغاياتها القومية والسياسية والأيديولوجية. لكنها التقت في الممارسة العملية. وهو أمر يشير إلى أن القوة الفاعلة في أساليبها تقوم في غلبة المصالح الضيقة، أي المصالح التي لا علاقة جوهرية لها بفكرة البديل الديمقراطي في العراق.

وكشفت هذه النتيجة من الناحية السياسية عن ضحالة هذه القوى، ومن الناحية التاريخية عن طابعها العابر والمؤقت. وليس مفارقة أن تسود في رغباتها وأعمالها وأقوالها فكرة المؤقت. تماما كما يمكننا القول، بأن ما توصلت إليه هو عقد مؤقت اقرب ما يكون إلى زواج متعة محكوم بحساب العد والنقد. وشأن كل متعة مؤقتة عرضة للزوال السريع لأنها محكومة بمشاعر الغريزة ومتطلبات الجسد. بينما الدائم في تاريخ الدول والأمم والثقافات هو إبداع الروح.

وليس هناك من معنى للروح في العراق المعاصر غير الطاقة العقلية والأخلاقية الساعية لنقله من مستنقع التوتاليتارية والاستبداد إلى فضاء الحرية والديمقراطية المحكومة بقوة القانون والشرعية. ويشكل هذا الانتقال مضمون الغاية الكبرى التي يعاني العراق منها وفيها لكي تكون تضحياته الجسيمة وآماله الكبرى على قدر من الوفاق لا يمكن حجبها "بوفاق وطني" هو اقرب ما يكون إلى طائفية مبطنة وقومية مغلفة بعباءة التدين المزيف والوطنية الكاذبة.

إن الوفاق الضروري والحقيقي بالنسبة للعراق المعاصر لا يمكن إرسائه على أسس الخروج المغامر على منطق الديمقراطية الاجتماعية، كما رأيناه ونراه في "زواج المتعة" الذي جرى للمرة الأولى بين القوى السياسة الشيعية والقومية الكردية، والذي كان يكمن في كل الخراب الشامل للنظام السياسي الذي أرست اسسه من حيث الجوهر طغمة عائلية قبلية لأقلية جبلية (محكومة ومسيرة بقوى خارجية ومعادية للعراق مثل الولايات المتحدة واسرائيل) لا علاقة لها بفكرة الدولة والنظام الديمقراطي بالمعنى الدقيق للكلمة. انها لم تكن مستعدة ولا راغبة ولا قادرة على العمل بمعايير العقد الاجتماعي السياسي الجديد. فقد ادت هذه السياسية وكشفت في الوةقت نفسه بشكل لا يدع مجالا للشك، بأن القوى الطائفية (الشيعية) والقومية العنصرية (الكردية) في العراق لا تفعل في الواقع إلا على إنتاج صدامية جديدة. أما مصيرها النهائي فهو السقوط في مزبلة جديدة!

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم