قضايا

بحث في صيرورة الخوف

كاظم لفتة جبرعجيب هذا الأمر الذي  يتداركنا بين هينه وأخرى حول الخوف ومدى سيرورته فينا ومدى تأثيره علينا، وعلى المحيطين بنا، فالخوف هو شيء يتمحور بين الأنا والانت ليظهر تأثيره على الهوية الانسانية ومهمة وجودها .

الانسان منذ وجوده يبحث عن أسباب الخوف التي تعتليه، مما وجه تفكيره نحو هذه الاشياء التي تسبب له الرعب والهرع، فكل حضارة شُيد كيانها الخوف والقلق من المجهول،او من سيطرة الغزاة عليها من الحضارات الاخرى، مما جعل الفرد يشيد حضارته من أجل الدفاع عن نفسه ومن المخاوف المجهولة .

في البدء كان الخوف ذو نزعة ميتافيزيقية (غيبية)، او بحث عن الاصل للكون  الذي تسبب لنا بالقلق، مما وجه الانسان وعيه في البحث عن هذا الاصل سواء كان خيال او من الواقع، فالحضارات الاولى كان خوف الافراد وقلقهم ذو نزعة اسطورية واقرب ما يكون الى الدين فكان الفرد يقدم الغرابين الى الاسطورة، لكي ينجوا من الهلاك ويطمئن قلبه، اذ  لجأ الى اسطورية الخوف لكي يبعده عن واقعة اليومي ليبدع كما في الحضارات الشرقية .

الا ان المشكل الاساس الذي وجد الخوف هو الفناء المؤكد لنا جميعاً،  جعل الفرد يتجه نحو ايجاد حل لهذه المشكلة الوجودية التي ترتبط بفناء هويته مع وجود النوازع الدينية التي تألفها كل حضارة وامة ظهرت فكرة الخلود في الشرق،او التناسخ في اليونان، كما أعلنه فيثاغورس لتخفيف قلق الموت فكان الموت هو انتقال وليس فناء،الا ان ذلك لم يمنع سيولة الخوف فيما بعد .

ما ان فرغ الانسان من ذلك الا وظهرت نزعة اخرى تتدعي الحماية له، وهي الدولة المتمثلة بالحاكم الذي كان يعرف نصف اله، مما جعل الخوف ينتقل الى الواقع البشري، وظهر العنف مع الدولة التي كانت ترعاها الالهة بصفة ان قوانينها تمثل قانون العدل الالهي فساد العنف بنزعته الدينية مما جعل الانسان يعيد تفكيره في مفهوم سيولة الخوف وتعدد وجهات الرعب .

الا ان هناك عقول أخذت على عاتقها اعادة بناء الهوية الانسانية متمثلة بالمثلث اليوناني سقراط (339ق.م) الذي يرى الانسان بوصفه عقلاً يستطيع تقرير مصيره وهويته بعيداً عن استقلال القلق والخوف الموجه له من  قبل الدولة او الافراد لذلك قام بعادة انتاج المفاهيم التي اسيء استخدمها من قبل السفسطائيين واللعب بعقول الناس .

ثم جاء أفلاطون (427ق.م) ليقدم لنا الخلود بمفهومه الديني الاسطوري ليعيد الاسطورة من جديد مما جعل الانسان بعيدً عن وجوده وذاته،الا ان مجيء أرسطو (384 ق.م) الذي قدم الانسان كجوهر يعي ذاته والاخر من خلال اخضاع المفاهيم الميتافيزيقية للواقع الانساني ومحاولة تقديم أنسان يمتلك ارادته، ينظر: يوسف كرم،تاريخ الفلسفة اليونانية.

ثم جاءت الأديان اليهودية و المسيحية والاسلام واعلنت سيطرتها على هوية الانسان فجعلته طاعا لها من خلال مبدأ الثواب والعقاب، وامتلاك الخطيئة لمصيره اذ اصبح لمفهوم الخوف والعنف غلافا مقدساً، ادى الى استقلال هذه المفاهيم لصالح بعض الافراد المتمثل بالحاكم،او الخليفة،او الكنيسة، ادعوا انهم يقع على عاتقهم الحماية،او الوصاية على الناس مما ازداد الخوف والعنف أنذلك وظهور تيارت في الجانب الاسلامي للخوض في قدر الانسان ومصيره كالقدرية والجبرية والوسط بينهما ،او من خلال الفلاسفة المسلمين اما الجانب المسيحي الذي اعتمد على مثُل افلاطون،وواقعية ارسطو،والايمان المسيحي،كما اعاد توما الاكويني (1225) الهوية الانسان من خلال  الاعتماد على واقعة .

الا ان التطورات التي شهدها عصر الثورة الصناعية (عصر التنوير) اذ انتج لنا واقعا جديدا للخوف والعنف في ظهور الايديولوجيات والاّلات الفتاكة وسيطرتها على حرية ومصير الافراد والمجتمع، وكلما حاول الانسان السيطرة على الطبيعة واخضاعها لسيطرته ظهرت سيولة الخوف من خلال ازدياد مفاهيم العنف كما يبين توماس هوبز (1588) الطبيعة الانسانية (الانسان ذئب لأخية الانسان)والكل في حرب ضد الكل، مما يبين اثر السلطة على العقل الانساني في توفير غطاء شرعي وقانوني للدولة في سيطرتها على الافراد من خلال توفير قانون الحماية لهم ، اتاح للدولة استخدام العنف المقدس لتوفير الامان للمجتمع.

الا ان مجيء ديكارت (1596) اعاد للفرد وعيه وكينونته من خلال (ألانا افكر أنا موجود) والشك في كل الحقائق، واعادة برمجتها من جديد وفق منهج العقل المستقل عن الايديولوجيا، الا ان ذلك لا ينفي وجود القلق والخوف عند الانسان من العدم مما جعلة يستعين الايمان بالله لغرض الاطمئنان من الخوف، ينظر :ت.ز.لافين،من سقراط الى سارتر البحث الفلسفي ت:أشرف محمد كيلاني،ص376  .

ان هذا الوضع المأساوي هو الذي حرك الفكر الانساني لظهور الوجودية التي ترى على الانسان ان يعي ذاته ويعيد هويته المفقودة مع  سورين كيركجارد(1813) الذي بحث في هذا القلق الانساني فيرى ان الانسان لم يخلق للراحة والسعادة، لكننا ننشد السعادة للهروب من القلق والاكتئاب وعن الشعور باليأس ولكن لا مهرب من هذه الحقيقة هي اننا نعيش في قلق،و ان الحل يكمن في الايمان والعيش مع اليأس والإغراق به،مصدر سابق،ص373.

 اما فردريك نيتشه (184) فيرى ان هذا الحل الديني يجعل من الانسان ضعيف وجبان ومجبور في اعماله، نتيجة الخوف والقلق الذي يعتريه بذلك يكون ضحية هذا الخوف والعنف الموجه له من قبل الدولة والكنيسة، ويصور لنا نيتشه العصر الحديث بان الله قد مات  بمعنى ان الدين الحقيقي والقيم الاخلاقية قد انتهت بسطوة الانسان على أخية الانسان ومحاولة اخضاعه الى الاخر بالقوة، الا نيتشه يقدم حل الانسان السوبرمان،او الحامل والعارف للقيم الاخلاقية الحقيقية البعيدة عن كل ايديولوجيا دينية،او سياسية،او اقتصادية،وهو الذي يقرر مصيره وليس الاخر بعكس سارتر (1905) الذي يرى ان الوجود عبث، وان الحل هو خلق علم اخر من خلال الخيال الادبي للوجودية، الا ان ذلك لم يمنع من وجود العنف والقلق وسيرورتهما الوجودية من خلال الموت،ص376 .

مهما وفر الانسان من حلول لهذا العنف سواء كان من الطبيعة من خلال ايجاد منبهات قبل وقع الكارثة،ومحاولة السيطرة عليها،او من الامراض ومحاولة توفير العلاجات اللازمة لها، او الاّلات ومحاولة ايجاد البديل لها لمواجهتا، لذلك نجد علاقة ازدياد الخوف والعنف علاقة عكسية لا تنتهي الا بوجود فلسفة تحقق ذات الانسان وهويته وتحرره من مصيره.

 

 كاظم لفتة جبر

................................

ينظر : زيجمونت باومان (الخوف السائل) ت: حجاج ابو جبر .

      

 

في المثقف اليوم