قضايا

نقدُ العَقل الدَّعويّ

مجدي ابراهيم(1)

لا يفترق النقد بداهةً عن التجديد ولا عن الإصلاح؛ فالنقدُ يُظهر المآخذ والعيوب وهو في نفس الوقت يُصلحها، ويجدّد في طرائق التعبير عنها. ولا يعني النقد بوجه من الوجوه هدم ما هو قائم بل يعني التجديد في البناء وتغيير طريقة التفكير التي تلازم النظر الدائم في بنية الخطاب الديني بُغية الإصلاح من أجل مسيرة الوعي الإنساني والحضاري على التعميم.

وعلى هذه المفردات الثلاث : النقد، والتجديد، والإصلاح، تقوم رؤيتنا في هذه المقالات تباعاً؛ فلا تفترق واحدة منها عن الأخرى؛ فكلها تنصب في النهاية في بوتقة واحدة؛ لتنصهر جميعاً كيما تُشكل رؤية نحن أحوج ما نكون إليها في زمن القيم الدينية الساقطة؛ زمن الاعوجاج والتسطيح في الفكر والقول والتسليك.

لن يكون هنالك تفكيرٌ في الدين بغير سلوك يصاحبه، ولا اعوجاج لهذا السلوك إلا والنقد يمارسه، ولا تحجير لأصول الدين إلا والتجديد يرافقه. هذه ثلاث مفردات لا غُنى عنها لمجرد التفكير في الدين، لا بل ولمجرد فهمه على مستوى النظر العقلي أو على مستوى الممارسة العملية. وكل مباشرة دينية تفتقر إلى وازع الإيمان مع النظر والتصحيح هى عُرضة للسقوط والتطرف، بمقدار ما هى عُرضة للإساءة إلى الدين الذي يُنتسب اليه ويُدان له بالولاء. ولذلك؛ وجب التصحيح كما وجب الإصلاح، وهما يرتكزان على النقد وعلى التجديد في آن.

ولم تكن دعوة قائمة وليس فيها من التجديد ومن النقد ما من شأنه أن يرجعها إلى مصادرها الأصلية، وينأى بها عن (الترقيع) الذي يقطعها عن المصدر التأسيسي، ويوردها موارد المصادر الخارجة عنها؛ لتحلّ مكان مصدرها التأسيسي وتنوب عنه كلما سنحت لها الفرصة بالتجاوز المرذول.

والعقل الدعوي جزء لا يتجزأ عن العقل العربي عموماً؛ فعوائق تقدّم هذا العقل هى نفسها عوائق تقدُّم العقل الدعوي : الإخفاقات هى نفسها الإخفاقات، والمزايا إنْ كان موجودة هنا هى بلا شك المزايا هناك. العقل العربي يشمل العقل الدعوي ويضمّه إليه، وكل تقدُّم في هذا هو تقدم في ذاك.

ولسوف نقف على نقاط هامة نقوم بمناقشتها في ظل هذا الواقع الذي أنبت تحت اسم الدعوة إلى الله، تقديم الخطاب الديني وهو في غاية العوج والانحراف، ثم إدانة العقل الدعوي على وجه العموم، واعتبار الخطاب الديني، في بعض جوانبه، مدنس بلوثة الذين يقدمون عليه؛ لأنه أسفر عن وجه كريه، نتج منه التطرف والعنف والإرهاب بكل مستوى يُدني من قيمة الخطاب الديني نفسه، ولا يرقيه.

*  *  *

وأول ما يقابلنا في سلبيات العقل الدعوي هو احتكار الخطاب الإسلامي، واحتكار الحقيقة المطلقة، وفكرة "الاحتكار" نفسها هى ضد الحريّة وضد الإسلام وضد العقل على التعميم : ضد شموله وإحاطته. ويلزم لشيوع فكرة الاحتكار أن يقوم النقد فاعلاً بناءً من جهات كثيرة.

والأصل في النقد (critics) فلسفيّاً، وبالتالي منهجيّاً, هو قبل كل شيء : اعتراف الناقد بمحدوديّة تفكيره. والقول بحصول هذا التفكير ضمن أطر تقيد عملياته، بمعنى خلخة اليقينيان الثابتة وإعادة بنائها المعرفي بمقدار إعادة النظر فيها مراجعة وتصحيحاً. واحترام هذه الحدود والقيود هو ضمان تنظيم الأفكار وإحكامها, ونجاح التحقق في كل المسائل. ثم إن النقد هو التمييز بين العقل والتفكير. فالأول يشمل الثاني ضرورة، ويشمل معه الحدس, والمُخيلة, والشعور، وكل آليات المعرفة التي تتداخل في العقل أحياناً، فيكوِّن مثل هذا التداخل صوراً ومسائل في الذهن يطرحها ولا يجد لها أجوبة ثابتة يقينية.

وهذا ما حَصَلَ لكل الفلسفات القديمة التي لم تميز بين التفكير المقيد والعقل الطليق فضاعت في المتاهات الميتافيزيقية. من أجل ذلك، ولدت هذه اللفظة، لفظة النقد (critics) في التوطئة الأولى لكتاب "نقد العقل الخالص" لكانط، حين أكّد أنه أطاح بـ "المعرفة" ليترك المجال للإيمان، بمعنى إنّه أفسح لليقين الديني مجالاً لم تطرقه المعرفة العقلية التقليدية.

ويقصد "كانط" "بالمعرفة" التي أطاح بها هى "معرفة" المدرسيين، المحفوظة بالتواتر والتقليد من زمن أرسطو، والتي تؤكد حقائق ما ورائية كأنما وقع فيها بحث وفحص وتمحيص.

هنالك يقوم النقد كمنهج باحثاً في الشروط التي تجعل طبيعة البحث والتفكير ممكنين في إطار مشترك من المراجعة النقديّة المنهجيّة؛ الأمر الذي يجعل معناه اللغوي، كما في الصّحَاح يأتي من "نقدت الدراهم وانتقدتها، أي أخرجت منها الزيف"، وبالتالي أبقيت الصالح المستقيم. ولكن النقد كمنهج في المسائل الدينية والدّعويّة، قد يتخذ شكلاً آخر باستثناء شراكة المعنى اللغوي بين مجال الفلسفة ومجال الدّين، وفي إطار عمل التصحيح والمراجعة النقديّة على الأقل من حيث المفاهيم المغلوطة وتمييز الصواب فيها من الخطأ، والحق من الباطل.

ولكن النقد كمنهج في المسائل الدينية والدعويّة قد يتخذ شكلاً آخر باستثناء شراكة المعنى اللغوي بين مجال الفلسفة ومجال الدين.

وإذا كان صحيحاً أن النقد لازمٌ من لوازم الفلسفة لا تستغني عنه أبداً ولا تقوم لها قائمة بغيره على الإطلاق، فمن الصحيح كذلك أنه يلزم للدين منهجيّة نقديّة (Methodology of Criticism) تماماً كما هى مُلزمة في مجال الفلسفة، وبخاصّة حين يدّعي العقل الداعي إلى الله امتلاك الحقيقة الإلهيّة المطلقة ثم التعبير عنها قولاً وفكراً، وفرضاً وإلزاماً تحت الخضوع لاتجاه بعينه، وفرضه بالقوة والعنف على الآخرين، فكأنما يصبّ دعواه هذه في قالب محفوظ يقف عليه وحده ولا يقبل غيره من اتجاهات تخالفه ولا يكتفي بذلك بل يزعم لنفسه ولغيره إنّ قالبه هذا هو "الحقيقة" التي لا حقيقة سواها، يدعو لها بشتى وسائل الدّعوة ويدعمها بكل أنواع الدّعم، ويتعصب ويحارب من أجلها ويقاتل، ولو كلفه ذلك ما يطيق وما لا يطيق.

إنه؛ إذا كانت معاجم اللغة ذكرت أن النقد تمييزٌ وفرز بين الفاسد المعطوب والصحيح الذي لا زيف فيه ولا فساد، فبمقتضى هذه التفرقة البسيطة يلزم للدّين أن تكون له منهجيته النقديّة تماماً كما هى لازمة للفلسفة، وربما كانت للدين ألزم منها للفلسفة؛ فإنه من الخطر الشديد أن يكون الزيف باسم الدين حاضراً ولا يهدمه النقد ولا يعرّيه ولا يكشفه أمام القلوب والعقول وبصائر المتديّنين.

ولم تكن مسائل الدين ممّا تحتمل هذا السكون عن تطبيق القواعد النقديّة مطلقاً لأنها بالطبع من الصفاء والنقاء والتعلق بمسائل المصير وخلوص السريرة بمكان بحيث تكون أمضى فاعلية في قلوب المتدينين من مسائل الفلسفة، ومن هنا كان خطرها وكانت كذلك درجة قبولها للنقد إذا وجد فيها الزائف المعطوب، ولا بد أن يوجد.

وبديهيٌّ أن يتوجّه النقد إلى الفكر من حيث هو فكر أفرزه أشخاص مثلي ومثلك، ولا يتوجّه إلى النّص الديني من حيث هو نصّ إلهي طريقه الوحي الذي لا ينطق عن هوى.

فالنقدُ لا يلحق النّص المقدّس ولا يجوز بالبداهة أن يلحقه، ولكنما يلحق التخريج والفهم لهذا النّص في إطار حركة الممارسة العملية للتوجّه والتلقي، فهو يقوم على مدى فهم الأشخاص وعلى تخريجهم للنّص الديني، وعلى إمكان توظيفهم له سواء كان التوظيف سياسيّاً أو اجتماعياً أو دينياً أو ما شئت أن تضيف ممّا عساه يكون خاضعاً لدرجة الفهم مُقاساً على مستوى التخريج، فعلى هذا إذن يقوم النقد ولا يقوم على النّص المقدّس من حيث هو نص مقدس.

تلك كانت ولا شك نقطة مفصليّة فارقة ينبغي الأخذ بها بداهةً حتى لا يختلط علينا الأمر في قولنا بلزوم المنهجية النقديّة في مجال الدين أكثر من لزومها في حقل الفلسفة، إذ كانت الفلسفة مُجرّد فكر بشري لك أن تقبله إن وجدت فيه جدارة القبول، ولك أن ترفضه إن لم تجد فيه ما يحق لك قبوله، فحُريّة الحركة النقديّة هنا متاحة أكثر ممّا تتاح الحركة في مجال الدين.

ولكن مع ذلك لا شئ يدعو بالمطلق إلى إعمال النقد في مجال الدين ليكون ألزم منه في حقل الفلسفة غير هذه المساحة المحدودة التي بموجبها تكون التفرقة الفارقة بين النّص الديني في ذاته وبين ما يُقام على النّص من شروح وتأويلات ومن توظيفات وتخريجات، هنالك يعمل النقد عمله الواسع على هامش تلك المساحة؛ لأنه يتناول تلقي البشر للوحي ماذا عساه يكون، وكيف تمّ وبأي المسالك والطرق، وما مدى درجة توظيفه بعد فهمه وتخريجه، وكيف تحوّل إلى ممارسة فعليّة بعد أن كان عقيدة نظريّة، وهل بإمكان تلك العقيدة التي لا تتجاوز كلمات نظريّة تدور في فلك أصول الدين الذي هو علم الأحكام الشرعية الاعتقادية؛ أن تتحوّل إلى ممارسة سلوكية تشمل أصول الفقه الذي هو علم الأحكام الشرعية العملية، وكيف قنع فقهاء الإسلام بوجود هذه الهوّة السحيقة بين الاعتقاد والعمل؟

ثم ما الفرق أصلاً بين الاعتقاد والعمل إذا ما كان الاعتقاد إيماناً، وكان الإيمان هو ما يصدّقه العمل، وهل تقدح قلة العمل أو حتى عدمه في صحة الاعتقاد الذي هو تصديق قلبي، وكيف فهموا وشاءوا أن ينقلوا الفهم للناس؛ ليكون هو نفسه سلوكاً دينياً مع أن الفهم من بنات أفكارهم؟ وهل كان هذا الفهم صحيحاً أم كان فاسداً معطوباً وهكذا، وهكذا أو ما يشبهه.

ومن المعلوم بداهةً أن النقد يجري في تلك الزاوية ولا يجري في غيرها وبخاصّة إذا كان هذا الغير هو النص المقدّس.

وإذا نحن أردنا تنظيراً للعقل الدعوي؛ فبالقياس. كما أن هناك عقلاً نظرياً وعقلاً عملياً حسب كانط وهنالك عقل أخلاقي, هناك كذلك عقل دعوي يتمثل في مجموعة الخصائص التي تحكم هذا العقل وتتحكم في مخرجاته المعرفيّة.

وقد يتبادر الأذهان من الوهلة الأولى كيف يمكن نقد العقل الدعوى وهو موصول بالنص القرآني:" ادْعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هى أحسن؟ فإن الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هى أحسن، سبيل المقاصد الدّعويّة، فكيف يمكن نقد هذا كله وهى من مقومات العقل الدّعوى؟ ربما يجوز النقد بلا شك في مجال السياسية والأخلاق وفي ميادين الفلسفة النظريّة وفي كل ما يكون ثمرة من ثمار العقل ونتيجة من نتائج بحوثه ودارساته؛ ففي حالة الانحراف عن جادة الاستقامة يلزم أن يكون من جهة العقل نفسه ما يقوّمه ويتعدل به طريق التقويم، وهو النقد؛ إذ كان النقد تطهيراً به لا بغيره يجئ التقويم، فكيف يستخدم النقد في هذا المحراب العلوي، محراب الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هى أحسن؟ إنّ هذا لشيء عجاب !

وأعجب منه أن تكون صفات العقل الدّعوى خاصّة هى الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا يكون في الداعية شئ من هذا كله، فلا الحكمة بموجودة، ولا الموعظة الحسنة متوافرة، ولا المجادلة بالتي هى أحسن مطبقة فعلاً في الواقع العملي، فماذا تنتظر من عقل يزعم الدعوة إلى سبيل الله وهو يخالف خصائصها، ويأتي بخصائص يستنها على هواه هى حصيلة جهود بشرية سبقت لقرون خلت، فالنّص الديني المقدس فارغ من مضمونه ومن دلالاته العملية، متروك أو يكاد، لأن العمل الصوري فيه قشرة سطحية ولكن العمل الفعلي يخدم الاتجاه، يتأخر النص لتتقدم موالاة الاتجاه، ولا يخدم الفهم الصحيح لهذا النص من جميع زواياه.

ونتيجة توظيف الدين في خدمة المآرب السياسية تصبح حقيقة ثقافتنا العربية والإسلامية في أغلب ضروبها ديناً ملوثاً بالقتل والدمويّة تماماً كما يُصبح الدين نفسه ثقافة مُجرَّد ثقافة لا عقيدة قلبية تواجه مسائل المسير والمصير؛ لأن امتلاك الحقيقة المطلقة إنما هو في حقيقته مُجرد قول، ولا يزيد، أو قل هو مُجرّد دعوى عريضة لا يقوم عليها دليل.

حديث الله للبشر شئ، وحديث البشر عن الله شئ آخر. فالأول ولا شك وحي بإطلاق، هابط من عند الله عن طريق أنبياء الله كيما يبلغوا رسالة الله للناس.  والثاني عمل بشري صاعد من البشر، وهو في صعوده تقف وراءه جميع المزاعم البشرية مثقلة بأهواء البشر وتطلعات البشر وتوظيفات البشر وزعامات البشر وما يدور في مطالب البشر وغاياتهم ممّا عساه يكون آخر الأمر نقيصة ثم عرضة للنقد والفحص والتمحيص.

من تلك اللفتة المنهجيّة الدقيقة في التفرقة بين حديث الله للبشر وحديث البشر عن الله، تقوم المنهجيّة النقدية كضرورة فاعلة في الدين بمثل قيامها وأكثر في مجال الفلسفة؛ وبالتالي يعاد النظر فيما يفرزه عقل الداعية عبر تاريخ العقل الديني الطويل من أنماط ثقافية منوّعة ممتدة بجدوز سحيقة في التاريخ والثقافة يخترعها من عنده، وكأنه مُوكلُ من الله بتملُّك الحقيقية الإلهية معرفياً، وتلك هى نفسها الكهانة التي يرفضها الإسلام ولا يقبلها لا العقل ولا الشرع.

وعليه، فليس من حق أحد أن يدَّعي احتكار الخطاب الإسلامي، ليس من حق الفقهاء أن يحتكروا الإسلام؛ ولا من حق السلفية، ولا من حق الشيعة، ولا من حق أهل السنة؛ ولا من حق المعتزلة؛ ولا الأشاعرة، ولا الإخوان المسلمين، ولا من حق فرقة ولا مذهب ولا طائفة؛ ولا شيء من ذلك كله ليس من حقه أن يحتكر الإسلام.

ليس من حق من يملك "خطاباً" عن الإسلام أن يحتكر الإسلام، وما كان الإسلام في مصدريه الكبيرين : القرآن والسُّنة يحتكر خطاباً قط، وبالتالي فالخطاب الديني المُعبر عن هذين المصدرين في لغة من عنده يملكها سائر الناس ليس من حقه في أداة التعبير - فضلاً عن طريقة التفكير - أن يحتكر الإسلام إلا بمقدار ما يصيب من الحقيقة الكبيرة قَدْرَاً يمتلك فيه هذه الحقيقة، وهو معدوم !

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

 

في المثقف اليوم