قضايا
كورونا.. قراءة ثقافية لواقع مأزوم
منذ أن ظهر فيروس كورونا خلال شهر يناير الماضى واجتاح العالم كله، لم تتوقف تداعيات الأزمة حتى تحول كورونا إلى ظاهرة معقدة، تجاوزت كونه ظاهرة مرضية ليصبح ظاهرة ثقافية متعددة الأبعاد.
وفى هذا المقال سنحاول أن نرصد حركة كورونا فى تجلياته المختلفة، علمية وسياسية واجتماعية وأخلاقية وأيديولوجية وفنية وفلسفية.
1- كورونا علمياً
كورونا، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، هي زمرة واسعة من الفيروسات تشمل فيروسات يمكن أن تتسبب في مجموعة من الاعتلالات في البشر، تتراوح ما بين نزلة البرد العادية وبين المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة. كما أن الفيروسات من هذه الزمرة تتسبب في عدد من الأمراض الحيوانية.
هذه السلالة الخاصة من فيروس كورونا لم تُحدد من قبل في البشر.
وبالرغم من توالى الحالات، وانتشارها على مستوى العالم بشكل مخيف، إلا إن الجهود البحثية المبذولة، خاصة فى الصين موطن الفيروس، والتى سجلت مؤخراً معدلات صفرية فى انتشار المرض، لم تصل إلى مصل يقضى على هذا الفيروس. والمفارقة أن هشاشة الفيروس التى كشفت عنها تلك البحوث، إنما كشفت فى الوقت نفسه عن هشاشة المجتمع الدولى المعاصر، وتهافت قوته المزعومة، بل كشفت عن تهافت مفهوم الإنسان المسيطر على الطبيعة إزاء واحدة من تجلياتها الضعيفة. والحقيقة أن المعركة لم تنته، وأن التحدى مازال قائماً. فالتجربة، غالباً ما تثبت أن الإنسان هو صاحب الكلمة الأخيرة فى معاركه ضد قوى الطبيعة.. تاريخ الكوارث الطبيعية يؤكد ذلك.
2 - كورونا سياسياً وأخلاقياً
على المستوى السياسى، عادت ”نظرية المؤامرة” للظهور لتتصدر المشهد التفسيرى الذى يأبى إلا أن يفهم ظاهرة كرورنا بوصفها نوعاً من ”المؤامرة”. وبالرغم من تعدد سيناريوهات التفسير التآمرى، يظل السيناريو الأمريكى والسيناريو الصينى هما الأبرز، والأكثر قابلية للتصديق. فالقطبان يمثلان القوتان العظمتان اللتان تتحكمان فى الاقتصاد العالمى، والصراع بينهما من أجل الهيمنة يحمل فى طياته إمكانية المؤامرة بشكل كبير. وبالرغم من الطبيعة الاقتصادية للصراع، إلا إن إمكانية التفسير البيولوجى لا يستبعدها البعض كأحد أشكال الجيل الرابع من الحروب الدولية.
ولأن الكارثة هذه المرة عالمية، فإن نظرية المؤامرة صارت أكثر تعقيداً، بحيث تداخلت المؤامرات الخارجية مع المؤامرات الداخلية، ما جعل المشهد أكثر ضبابية. فمما لاشك فيه أن اللاعبين السياسيين لن يفوّتوا فرصة الاستفادة من تصعيد التفسير التآمرى، ودفعه إلى صدارة المشهد اليومى المأزوم، لتحقيق مكاسب سياسية يصعب تحقيقها فى ظل الظروف العادية. إن تسييس كورونا ليس بالأمر بالمستبعد، ويكفى أن موقف ترامب ومعارضيه من كورونا، خاصة فى بداية الأزمة، أعاد إلى السطح الصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين من خلال خطابات مؤدلجة اعتمدت كثيراً على العاطفة الجمعية المستثارة بفعل الكارثة.
وعلى أى الأحوال، لا يخلو الأمر من إيجابية، فعلى المستوى الإنسانى الأخلاقى، تحولت مقولات من قبيل: “العولمة”، ”العالم قرية صغيرة”، إلى واقع حقيقى، ربما لأول مرة، والمسألة على هذا النحو خلقت نوعاً من التعاطف الإنسانى العميق، بحيث صار كل إنسان على هذه البسيطة يشعر بأخيه الإنسان العائش على الأرض نفسها ويتعرض للمخاطر ذاتها. وبهذا المعنى صار البحث عن حل للأزمة هدفاً جماعياً عالمياً يسعى الجميع، دون أنانية، لتحقيقه. وليس أدل على ذلك من محاولة الصين مساعدة إيطاليا لتجاوز أزمتها. ونشر التوعية بالتدابير اللازمة لحماية المواطنين فى جميع أنحاء العالم من قبل الصين ومنظمة الصحة العالمية، وباقى بلدان المعمورة. ليس هذا فحسب، بل تراجعت أعمال العنف والإرهاب فى العالم، وخفت حدة الخلافات السياسية فى الخارج، والصراعات الحزبية فى الداخل، ونسى الجميع أطماعهم وأحقادهم، ووقفوا يداً واحدة فى وجه العدو المشترك، القادم من رحم الغيب ليهدد الجميع، دون استثناء، بالموت والخراب. إن أخلاقيات ”ما بعد كورونا” إنما هى أخلاقيات الإيثار، أو ”ما بعد الأنانية”، أن تفكر، لا فى نفسك وحدها، ولكن من أجل الآخر كذلك.
3- كورونا اجتماعياً
على المستوى الاجتماعى، خلقت كورونا حالة فريدة داخل البيوت، فقد أدى إحجام الناس عن الخروج إلى الشارع ومقار الأعمال إلى وضعية إجتماعية مزدوجة، فهى من ناحية انعزال عن العالم الخارجى الموبوء، ومن ناحية أخرى هى ارتباط بالبيئة الأسرية ذات الدفء والأمان، هى وضعية هجرها إنسان هذا العصر، الذى كان يميل إلى مغادرة مسكنه، والمكوث أغلب الوقت بالخارج، ما أدى إلى فقدان الكثير من أبجديات التواصل الاجتماعى. لقد اعتمد الإنسان المعاصر كثيراً على العوالم الافتراضية بحيث افتقد دفء العلاقة، وحرارة المشاعر، فصارت أماكن السكنى بمثابة فنادق مخصصة، فقط، للمبيت، وتقطعت سبل الحوار بين الأفراد فصاروا مثل الجزر المنعزلة.
بهذا المعنى، استرد الإنسان وعيه بالآخر، وإحساسه بالمكان، فقد عاد كل منا إلى ركنه المفضل، أو مقعده الأثير، أو مكتبته التى علتها الأتربة، كى يواصل ممارسة هواياته، أو يلتف، بصحبة الزوجة والأولاد، حول التليفزيون، يشاهدون الأفلام والمسلسلات، ويتابعون أخبار كورونا فى نوع من المقاومة السلمية للفيروس الذى اجتاح العالم وحيّر العلماء. لقد نجح الإنسان، بهذا المسلك، فى تحويل كورونا إلى عالم افتراضى، وتحويل نفسه إلى عالم حقيقى فى سياق جدلية لن تتوقف بين ما هو واقعى وما هو افتراضى.
4 - كورونا فنياً وأدبياً
على المستوى الإبداعى، وفى تجربة بروستية فريدة، تلتقط الذاكرة الثقافية بعض تفاصيل الأزمة اليومية ذات الدلالة، وتعيد إلى الوعى المعادل الفنى الذى سبق وأن عبّر عن وقائع مماثلة فى الماضى البعيد. فمشهد الكمامات التى تغطى وجوه الأطباء ورجال الدولة والمارة الذين خرجوا لقضاء حاجياتهم الضرورية، أعاد إلى الأذهان مشهد الجنود الأمريكان، الذين كانوا يرتدون الكمامات والسترات الواقية داخل قطار عابر للقارات، يحمل راكباً مصاباً بفيروس معد فى فيلم "َمعبر كاسندرا” الذى أخرجه جورج كوزماتوس عام 1976وقام ببطولته ريتشارد هاريس وصوفيا لورين. وتكمن أهمية الفيلم فى أنه يحمل وجهة نظر أوربية تدين الموقف الأمريكى من أوربا، وتفضح تورط الأمريكان فى أعمال غير قانونية لتطوير الجراثيم. كما لا يمكننا أن ننسى موقف الكولونيل الأمريكى ماكينزى اللاإنسانى بتحويل مسار القطار، بعد أن سرت العدوى فى الركاب، ليمر عبر جسر كاسندرا المتهالك، الآيل للسقوط.
وفى السياق نفسه، ارتفعت مبيعات روايات الأوبئة، خاصة فى مكتبات إيطاليا، البلد الأكثر تسجيلاً لمعدلات الإصابة بفيروس كورونا، وعلى رأسها رواية ”الطاعون” للفرنسى ألبير كامو الصادرة عام 1947، وتدور أحداثها حول طاعون يصيب مدينة وهران الجزائرية، ويفرض عليها الحصار من الداخل والخارج بحيث تتحول إلى سجن كبير. ورواية ”العمى” للبرتغالى جوزيه ساراموجو، الصادرة عام 1995، وتدور أحداثها حول وباء غير معروف أسبابه يصيب سكان المدينة بالعمى. ورواية ”ستاند” للأمريكى ستيفن كينج، التى تدور أحداثها بعد نهاية العالم. لكن تظل رواية ”عيون الظلام” للأمريكى دين كونتز هى الأكثر إثارة للجدل، لأنها تنبأت، بشكل صريح، بظهور فيروس يشبه كورونا عام 2020 بمدينة ووهان الصينية، أول بؤرة تفشى فيها الوباء على الحقيقة.
والسؤال الذى يطرح نفسه، لماذا يلجأ الإنسان للخيال عندما يواجه خطر الموت؟
في حالات الأوبئة وما يستتبعها من خوف وعزل صحى وانسحاب شبه تام من الحياة الخارجية، تزداد أوقات الفراغ من ناحية، والرغبة فى التعرف على مصدر الخطر من ناحية أخرى. قد تشغل المواد الإخبارية، المذاعة على القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعى، هذا الفراغ غير أن الرؤية الكلية والدلالة التى يمكن استخلاصها من المشهد الواقعى المباشر، لا يمكن أن يصل إليها المواطن، إلا من خلال الفنون والآداب، التى تقدم الأزمة فى صورتها الحية بوصفها عصارة خبرة إنسانية، عملية وتأملية، عميقة تجاوز قيود الزمان والمكان. وبهذا المعنى، يمكن للإنسان المأزوم أن يرى نفسه داخل المشهد فى شموليته بحيث يفهم حقيقة ما يدور الآن، وما يمكن أن تؤول إليه الأحداث فى المستقبل.
5 - كورونا إيديولوجياً
على المستوى الإيديولوجى، برز إلى السطح الخلاف الحاد، والدائم، بين الاتجاهين: الدينى والعلمانى، خاصة فى البلدان العربية. فقد رأى أصحاب الاتجاه الأول فى فاجعة كورونا نوعاً من الغضب الإلهى، الذى أنزله المولى سبحانه وتعالى على رؤوس العباد عقاباً لهم على ما اقترفوه من آثام، على كافة المستويات، خلال السنوات الأخيرة. وعلى رأس هذه الآثام الإبتعاد عن الدين، وشيوع الفاحشة، وضياع الحقوق، وانتشار الظلم بين بنى الإنسان.
ومن هذا المنطلق وجد أنصار هذا الاتجاه أن الحل إنما يكون بالعودة إلى الله وإقامة شعائر الدين التى هجرها الناس بعد أن غرّتهم الدنيا، وكانت وسيلتهم الدعوة إلى الإكثار من التوبة والاستغفار، وهو ما تبدى بوضوح فى الرسائل المتبادلة على مواقع التواصل الاجتماعى، والتى عبّرت عن نفسها من خلال الأدعية المأثورة والأحاديث النبوية والآيات القرآنية، وأقوال بعض المشايخ الذين يحتلون مكانة خاصة فى نفوس المسلمين مثل محمد متولى الشعراوى ومحمد جبريل.
وبعد ازدياد معدلات الإصابة بالفيروس، وما تذيعه الأنباء العالمية من تدهور الأوضاع فى البلاد كافة، خاصة فى إيطاليا، ومع حرص الحكومات على اتخاذ التدابير الضرورية اللازمة لمقاومة كورونا وعلى رأسها فض التجمعات ومنع الصلاة فى المساجد، خرج سكان مدينة الإسكندرية إلى الشوارع فى تظاهرة حاشدة، متوجهين إلى الله، الملاذ الأول والأخير، بالدعاء، مرددين ”الله أكبر”، ”اللهم ارفع عنا البلاء”.
وعلى الجانب الآخر، انحاز أنصار الاتجاه العلمانى إلى التفسير العلمى، ورأوا فى فيروس كورونا ظاهرة مرضية لها أسبابها الموضوعية، وتاريخها التطورى المسجل فى الأرشيف الطبى بمراكز البحث العلمى. ووفقاً لهذا الاتجاه، لايكون العلاج بالدعاء والإكثار من ممارسة شعائر الدين، التى هى فى الغالب نوع من التدين الشكلى البعيد عن جوهر الدين، وإنما يكون بالأخذ بالأسباب وتطبيق مناهج العلم، المتأسس على التجربة المعملية الدقيقة. وهى تجربة قوامها الملاحظة الحسية المباشرة، والفرض العقلى المستخلص من الملاحظة، ثم التحقق من الفرض عن طريق التجريب لاختبار مدى صحة الفروض. بمعنى غياب الميتافيزيقا من أى مرحلة من مراحل البحث.
وفى هذا السياق، دعا د. محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، إلى ”صلاة علمية”، فحواها فتح المعامل ومراكز البحث لدراسة وباء كورونا والعمل على إيجاد مصل للمرض الذى أرعب العالم. وهو ما يتسق ورؤيته التجديدية للدين، التى عبّر عنها فى كتابه الأخير ”نحو عصر دينى جديد”، وهو الكتاب الذى أثار حفيظة شيخ الأزهر فى مؤتمر جامعة الأزهر حول تجديد الفكر الإسلامى، وكان سبباً فى إثارة جدل دينى علمانى لم ينته حتى الآن.
والملاحظ أن كلا الفريقين لم يكن يقدم حلاً حقيقياً بقدر ما يدعو إلى أن يكون الحل على الطريقة التى يريدها. فالتجربة المتكررة تثبت أن أحدهما لا يملك ما يمكن أن يقدمه، على الحقيقة، سوى مجرد ”الدعوة”. دعوة العلمانيين إلى العلم، ودعوة الدينيين إلى الدين. وربما كانت دعوة د.الخشت هى الاستثناء الوحيد فى هذا السياق، نظراً لأنه يطرح دعوته من موقع المسئولية، أى من حيث يملك القرار، والأدوات التى تمكنه من تنفيذ القرار وتحويله إلى واقع ملموس.
والحقيقة المؤسفة أن العقلية العربية، فيما يبدو، عندما تنقسم على نفسها، فإنها لا تُعنى بتحقيق تصوراتها على أرض الواقع قدر عنايتها بإحباط تصورات الآخر ومنعه من نقلها من دائرة النظر إلى دائرة العمل. وفى هذا الصدد، التقط الإسلاميون بعض تفاصيل أزمة كورونا التى تصادف وأن اتسقت مع بعض قناعاتهم، لتدعيم خطابهم محل نقد العلمانيين، كما حدث فى إعادة طرحهم لقضية ”النقاب” على خلفية الخطاب الطبى الذى أكد على ضرورة ارتداء “الكمامة” كنوع من التدبير الوقائى لمقاومة انتشار الفيروس، وربطهم لما احتواه هذا الخطاب من تأكيد على النظافة الشخصية بالوضوء كشرط للصلاة التى تتكرر خمس مرات يومياً، وكذا علاقة الخوف بضعف المناعة الذى ترجمه الإسلاميون من منظور إيمانى يجعل الأمان النفسى فى إصلاح علاقة العبد بربه.
وعلى الجانب الآخر، انتقد العلمانيون هذا الخطاب التلفيقى، من وجهة نظرهم، واعتبروه استمراراً لمسلسل الوهم الذى يخدع به السلفيون العامة ممن لا يمتلكون حسّاً نقدياً. والحقيقة ألاّ تعارض بين الفريقين، فكلاهما يتبنى رؤية للعالم ومنهجاً للتعامل مع قضاياه، لكن الخطاب الطبى، وخطابات الأزمة عموماً، تنطوى على بعد وقائى وبعد ميتافيزيقى فى الآن نفسه، وهى أبعاد تتماس مع الرؤية الدينية بنحو أكثر. وفى كل الأحوال، فإن العمل هو المنطقة الوحيدة التى يمكن أن تلتقى عندها الدعوة العلمية بالدعاء الدينى، وهى مسألة تخرج عن نطاق قدرة الطرفين، وتقع فى ملعب السياسية، وهى مسألة لها حسابات معقدة. وعلى ذلك، لا يُستغرب أن يحل الانتظار محل العمل، فينتظر العلمانيون الحل من أمريكا أو الصين أو أوروبا، وينتظره المتدينون من السماء.
وفى سياق حالة الانتظار العامة التى رسخها تعليق الحكومات للعمل، وغلق المحال، وفرض حظر التجوال على المواطنين، برزت السخرية كأداة فعالة لمقاومة الملل، وتعويض النقص الناجم عن عدم القدرة على الفعل. وضح ذلك، بنحو خاص، على مواقع التواصل الاجتماعى، فكثُرت المنشورات المصورة ومقاطع الفيديو التى تبعث على الضحك. والملاحظ أن البنية التى كانت تحكم المواد الساخرة هى الجمع بين المتناقضات، على نحو ما أشار برجسون فى فلسفة الضحك، وكانت المفارقة الصارخة الباعثة على الضحك، فى الغالب، هى تلك المتعلقة بتدابير الوقاية من الفيروس من ناحية، وسلوكيات الأفراد من ناحية أخرى، فشاهدنا من يرتدى قفازاً ويدخن ”الشيشة” فى الوقت نفسه، ومن يضع كمامة على ”التوكتوك”، ومن يرتدى كيساً بلاستيكياً ويمشى فى شوارع المدينة كملّاح فضائى. ولاحظنا التناقض نفسه فيما يتعلق بعزلة الرجال وجلوسهم فى البيت، فطول أمد المكوث فى البيت، وفقاً لهذه المنشورات، جعل الرجال يقومون بأعمال النساء، وجعل النساء يمارسن على الرجال سلطات أكثر، فلعبن أدوراً لا تخرج عن شخصية ”السجان” أو ”الخاطف”.
6- كورونا فلسفياً
على المستوى الفلسفى، جاءت كورونا متسقة مع نزعة الفلسفة المعاصرة إلى مغادرة قاعات الدرس والالتحام بالواقع من خلال خطاب حى يُعنى بقضايا الناس ويتوجّه إلى العامة. وفى هذا السياق كثُرت المقالات الفلسفية التى تناولت وباء كورونا، ومن أبرزها ما كتبه سلافوى جيجك عن تهافت الدرس التاريخى بعد أن فاجأ كورونا الجميع بسلوك يخالف ما اعتاده الإنسان فى الماضى، ما أدى إلى إرباك حساباته. وما كتبه فتحى المسكينى عن تداعى مفهوم “الفرد” فى ظل فيروس نجح فى اختراق البنية المتماسكة للذات.
وبمكننا أن نضيف أن كورونا، الذى تنتقل عدواه عن طريق اللمس، لمس البشر أو الأسطح الخارجية للأشياء، وفى ظل استحالة عملية لتجنب لمس الأشياء بنحو ما تستدعى التدابير الوقائية، إنما تؤكد أن حاسة اللمس هى الجسر الذى يربط الإنسان بالعالم، وليس أى حاسة أخرى، وأن معنى أن تكون موجوداً هو أن تكون ملامساً للوجود. فيمكنك أن تحيا دون أن ترى أو تسمع أو تشم رائحة الحياة، لكن لا يمكنك، بأى حال من الأحوال، أن تحيا دون أن تلمس العالم، حتى العالم الافتراضى، الذى أبعدنا عن ملامسة العالم الواقعى، لا يمكننا الدخول إليه إلا عن طريق ملامسة أزرار الكومبيوتر أو شاشة الموبايل. وبهذا المعنى، يقع على الوعى الثقافى عبء إعادة الاعتبار للعالم الملموس، بعد أن هجره الوعى المثالى واستغرق فى عوالم تجريدية مفارقة.
وأخيراً، يمكننا أن نقول إن فيروس كورونا حمل كل هذه الدلالات، لا لخاصية فريدة فى تكوينه، وإنما لكونه ظهر فى عصر معقد، لديه من وسائل الاتصال والتعبير ما من شأنه أن يحيل أى ظاهرة، أياً ما كانت، إلى حدث ثقافى يستوجب القراءة والتحليل.
د. ماهر عبد المحسن