قضايا

كورونا.. إيجابيات في بحر السلبيات

محمود محمد عليلا شك في أن الانتشار السريع لفيروس «كورونا» أثار حالة من الرعب والخوف في العالم كله؛ حيث تحولت الدول من السياحة والرومانسية والجمال إلى مدن هادئة.. الجميع يلزم منازله.. الشوارع تبدو شبة خالية.. معظم المراكز التجارية مغلقة.. والأماكن الترفيهية موصدة.. جميع حكومات دول العالم أصدرت نشرة صحية لجميع المواطنين بها والمغتربين توصي بضرورة أن يلتزموا المنزل، وطالبت المؤسسات والشركات الموظفين بأن يعملوا من بيوتهم، لأن التزام المنزل جزء مهم جدًا من خطة الانتصار في المعركة ضد كورونا.

صحيح أن كورونا أحدث ذعراً ممتد عبر الحدود وعلي امتداد القارات.. صحيح أن كورونا آثار حالة من الفزع.. صحيح أن كورونا حصد أرواح آلاف حول العالم ولا يزال.. غير أن كورونا لم يكن شرا مطلقا !! بل منح الأرض " قبلة حياة" وهدنة ربما كان كوكب الأرض في حاجة إليها.. كورونا جعل الأرض تلتقط أنفاسها.. تسببت الإجراءات الاحترازية المصاحبة لانتشار كورونا في فوائد عدة.. وأمام الضحايا المتزايدين للوباء بدأ النظام البيئي في التعافي !.. وزارة البيئة الصينية اعترفت بتحسن جودة الهواء 21.5 %.. وخلال الفترة التي أغلقت فيها مصانع عدة بالصين وغيرها.. وتراجع معدلات حركة السيارات حول العالم.. انخفضت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسب فاقت 25 % .. وفي كالة ناسا كشفت صور التقطت بالأقمار الصناعية مفاجآت أخري.. تراجعت انبعاثات ثاني أمسيد النيتروجين في يناير وفبراير.. تلاشت سحب الغازات السامة من سماوات المناطق الصناعية في الصين وغيرها.... الباحث بمركز جودة الهواء في ناسا " في ليو " قال: إن النتائج مثيرة للدهشة وأكد أن ما حدث في الكوكب أقرب ما يكون هدنة كانت مطلوبة

نعم كورونا تمثل غمة ولكن ستزاح بإذن الله وسنتعلم منها الكثير فكما نعلم أن كل مسرحية وورائها كواليس وهذه الكواليس كثيرا ما لا ننظر إليها ، فقط ننظر للمسرحية فقط.. ننظر للعرض فقط.. ننظر للأبطال فقط.. البطل الذي معنا هنا في مسرحية كورونا والعرض الخاص بنا هو فيروس انتشر حول العالم فأحدث رعب ما له رعب ووباء عالمي، وأناس كثيرون فقدناهم وما كان لنا أن نفتقدهم..

ولكن ما وراء الكواليس هو الأهم من العرض المسرحي علينا أن نشاهده ،حدث أن جسم الإنسان في حاجة إلي راحة.. الآن في ظل الحجر الصحي بدأ الإنسان يستيقظ طبيعي في السادسة صباحا، وذلك لكي يذهب إلي العمل ويستغرق في عمله ساعات قليلة فقط كي لا يتعب جسمه وهو لا يرهق.. ثم يعود إلي بيوته في الظهيرة بشكل عادي.. لا يخرج هنا وهنا وإنما يمكث في البيت ولا يخرج بعد الظهيرة كما كان مألوفا من ذي قبل حين كان يخرج من بيته إما للذهاب إلي القهوة أو النادي أو خلافه.. أو يشغل نفسه بعمل آخر فجسمه يتعب أكثر.. هذا هو ما نقصده من وراء الكواليس.. وراء الكواليس بسبب كورونا بدأنا نوفر في الإنفاق لأن هذا الإنفاق كان يستنزف بسبب الخروج الكثير.. كورونا أعادت الحميمية في الأسرة.. كورونا أعاد المودة والرحمة في الأسرة مرة أخري .

لا شك في أن المحنة التى يعيشها العالم مع فيروس كورونا المستجد تدعونا للعودة إلى الأخلاق والقيم والتسامح واحترام الآخر والتعاون على الخير، كما تدعو كل الشرائع والديانات السماوية، بل حتى الديانات الوضعية، التى تحتكم للمعايير الإنسانية في التعامل بين البشر، وما يحدث في مختلف دول العالم ترتبط بهذا الفيروس اللعين ما يدعونا إلى التأمل والتخلى عن الأنانية وحب الذات، التى أنهكتنا طوال الفترة الماضية وأظهرت أسوأ ما فينا.

ليس هذا فقط بل وضح لنا كورونا جانب آخر وهم وهو أهمية النظافة التي يتهاون فيها البعض، حتي أنها باتت شيئا أساسيا، مثل غسل اليدين بالماء والصابون.. من كان يتوقع ذلك؟.. كورونا بات له تأثير على البيئة والإنسان بالرغم من مخاطره وسلبياته.. كورونا إذا كان قد حول كثيرًا من المدن إلى بيوت للأشباح بسبب خلو شوارعها من البشر، فإنه ساهم فى تقليل نسب التلوث فيها، خاصة تلوث الهواء الناجم عن دخان المصانع وعوادم السيارات، وتلوث الماء الناجم عن مخلفات الإنسان.. يقول العلماء إن الرياضة المستمرة والغذاء الصحي والبعد عن التدخين من العوامل الفعالة في مقاومة آثار الفيروس.. تكافل البشر مع بعضهم البعض.. الحياة باتت مشاركة بين الكل.. حتي في مصرنا الحبيبة ظهرت عديد من المبادرات للتكافل بين الجميع فصاروا كالبنيان المرصوص.. جهود رسمية مع الجهود الشعبية جنباً إلي جنب.. الأسرة والزوج والزوجة والأولاد بات هناك تواصل مباشر.. لم تكن لك فرصة للتسابق في الجلوس مع أسرتك والاهتمام بها..

نعم لقد غير كورونا من أسلوب حياتنا بالفعل للأفضل من حيث الاهتمام أكثر بالنظافة وعادات صحية وغذائية سليمة، إضافة إلي أن الحجر ومنع التجول قد سمح بقضاء وقت أطول مع العائلة.. كما أن له تأثيراً إيجابياً علي البيئة وتخفيف التلوث.. كورونا كان عاملا هاما في ذلك الأمر، حيث غير حياة المجتمعات البشرية للأفضل... مستويات تلوث الهواء والغازات الدفيئة تظهر انخفاضا كبيرا فوق عدد من المدن والمناطق حول العالم بسبب تأثير انتشار فيروس كورونا.. باحثون في نيويورك وجدوا أن مستويات أول أكسيد الكربون الناتج عن السيارات انخفض بنحو 50 % مقارنة بالعام الماضي.. وانخفضت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بشكل حاد.. وفي إيطاليا أظهرت صور الأقمار الصناعية أن تلوث الهواء فوق شمال إيطاليا انخفض بشكل حاد.. وقالت  وكالة الفضاء الأوربية إنها لاحظت انخفاضا هائلا بشكل خاص في انبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين المنبعث من محطات توليد الطاقة والسيارات والمصانع فوق شمال إيطاليا.. وقال علماء إيطاليون " إنها المرة الأولي في التاريخ التي نري فيها شيئاً كهذا"..

فى مدينة البندقية الإيطالية ساهم كورونا فى تنقية مياه قنوات المدينة، حيث كثرت أعداد الأسماك الصغيرة بشكل أكثر بكثير مما كانت عليه سابقاً وعادت البجع إلى القنوات مرة أخرى وتم مشاهدة حتى الدلافين فى القنوات وهذا الأمر لم يشاهده سكان البندقية منذ سنين طويلة.. كل هذه الإيجابيات بسبب انعزال الإنسان المدمر الأول للبيئة عن تخريبه لها...

يبدو أن 2020 ستكون أنظف سنة في تاريخ البشرية بعد أن زاد الناس من وتيرة نظافتهم بسبب جائحة كورونا، بل أن دولا ومدنا ومجتمعات صغيرة اعتبرت كورونا فرصة للتعقيم الشامل الذي لا يمكن أن يحدث فيما سبق ، نظر لاكتظاظ الأماكن المستمر.. فالكمامات مثلا يسعي الناس لإرتدائها هذه الأيام ليس طارئا ، بل كان ارتدائها من الأساسيات بسبب التلوث والانبعاثات الكربونية.. وكثير من العلماء ونشطاء البيئة دقوا ناقوس الخطر بسبب تغير المناخ والاحتباس الحراري.. إلي جانب أنها أكثر دول العالم سكانا ونقصد هنا الصين كما قلنا سالفا ، فقد تربع الصين عرش الدول من حيث الانبعاثات الغازية التي بلغت نحو 30% العام الماضي من حجم الغازات عالمياً وفرض السلطات بحظر التجول دفع بتقليص هذه الانبعاثات.. وزارة البيئة الصينية أشارت أن الصورة قد تحسنت بنسبة تتجاوز 21.5% وذلك مع توقف المصانع والملاحة الجوية.. في الصين ووفقاً لتحليل أجراه عالم في جامعة ستانفورد قام فيه بقياس مستويات PM2.5 وهي مادة دقيقة تعتبر السبب الرئيسي للوفاة بسبب تلوث الهواء وجد إن إجراءات الحجر الصحي خلال شهرين فقط في الصين من شأنها "إنقاذ حياة 4 آلاف طفل تحت سن الخامسة و73 ألفا فوف سن الـ 70".. وقال علماء إن " عدد الأرواح التي سيتم إنقاذها جراء انخفاض معدلات التلوث في الصين أكثر 20 مرة من عدد الأرواح التي فُقدت نتيجة كورونا ".. حتي في كوريا الجنوبية والتي وضعت قيوداً أقل حدة علي حركة مواطنيها ، قال علماء إن معدلات التلوث فيها تنخفض بقوة.

وأما بالنسبة للمستوى الإنساني فقد ساهم فيروس كورونا فى لم شمل سكان العالم تحت مسمى إنقاذ البشرية، فلأول مرة تتحد الشعوب العربية والغربية وتجتمع على هدف واحد وهو محاربة هذا الوباء، فنسى العالم الحروب والصراعات المذهبية والطائفية والدينية والعرقية وانشغل بمحاربة هذا الوباء باكتشاف الدواء من خلال البحث العلمي.. أما على المستوى الديني أو الروحي فأصبح كل إنسان يفكر فى الموت حتى وهو آمن فى منزله خوفاً من إصابته بهذا الوباء القاتل، ولم يعد أمام الجميع إلا العودة إلى الله.. شكراً لفيروس كورونا لأنه رغم خطورته أعاد الأمور إلى نصابها وضبط سلوك الإنسان وطهر البيئة من فساده، ولعل وجوده على الأرض عبرة لمن يعتبر وموعظة يتعظ بها الإنسان المتأمل وذلك كما قال كريم خالد (في مقاله بعنوان شكراً كورونا).

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم