قضايا

القرآن والمسؤولية

سليم جواد الفهدتأملات في الفكر السياسي الإسلامي (9)

تعد المسؤولية الاساس الرابع من أسس النظام السياسي الإسلامي وهذا التأمل الخاص بالمسؤولية تأمل طويل نسبيا وسنقسمه الى عدة تأملات لأن الموضوع معقد ويتداخل في بنيته المفهومية الفهم الفلسفي والسياسي والديني والاجتماعي.

 تعني المسؤولية على العموم أن كل فرد يجب أن يكون مسئولا عن عمله وفعله الخاص وعمن في كنفه. ولابد من العلم بأن الإنسان مسؤول عن أعماله مسؤولية فردية فلا يسأل عن أعمال غيره ولا يجازى عليها.

وقد ورد في القرآن: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى} (النجم: 36 -41).

وقال: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام: 164).

 كما قال: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} (فاطر: 18).

 ويتجلى مبدأ المسؤولية الفردية يوم القيامة كما قال: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طائره فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً. مَّنِ اهْتَدَى فإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 13 -15).

ومبدأ المسؤولية الفردية يشمل الأفراد كما يشمل الأمم فكل فرد يسأل عن عمله الذاتي قال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُم مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} (النور: 11). وقال: {كُلُّ امْرِئِ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور: 21).

وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر: 38)،

وقال: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} (طه: 112).

وقال: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا} (الجن: 13).

  ويؤكد القرآن هذا المبدأ ولو مع الكفار: {قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون} (سبأ: 25).

وكذلك من آثار مبدأ المسؤولية الفردية ألا تسأل أمة عن أعمال أمة أخرى قال: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} (البقرة: 134).

الحرية والمسؤولية

ماهي الحرية؟:

للحرية عشرات بل مئات التعاريف لان معاني الحرية تختلف حسب المغزى أو الدافع من استعمالها وهي أكثر الكلمات استعمالًا في القاموس السياسي. ونجد في القاموس الفلسفي الحرية باعتبارها مفهوم يتحدد سلباً بانعدام الإكراه، وايجاباً بحالة من يستطيع القيام بما يشاء.

والحرية لغة: في لسان العرب (لابن منظور) هي نقيض العبودية فالحر نقيض العبد والجمع أحرار. والحرة نقيض الأمَة والجمع حرائر.

أما فلسفيا فالحرية هي جوهر وجود الإنسان العاقل وقيد العقل هنا يعني النظام فالفعل الإنساني الخالص من كل قيد وحد فوضى تدمر حياة الإنسان والعقل هو قانون الوجود وبدونه تعم الفوضى وتعدم حياة الإنسان اذن العقل يسبق الحرية منطقيا فلم يتحرر الإنسان من قيد الحيوانية إلا بعد أن امتلك عقلا تدريجيا ميزه عن باقي الحيوانات التي كانت تعيش في قيد الغريزة والفوضى. نظريا وعمليا الإنسان لا تستمر حياته في الفوضى وبغير نظام فالعقل هو أساس الحرية وبدونه الإنسان كالحيوان أسير الغريزة وفاقد للخيار الحر. وبهذا التعريف نخرج كل غير عاقل من أن يكون حرا فالمجنون ليس حرا لأنه أسير الجنون وهو الغياب عن وعي إدامة الوجود وفقدان الإرادة والخيار الحر ولذلك تجد دور القضاء لا تجرم المجنون لأن فعله فعل الحيوان غير العاقل الفاقد لإرادة الفعل والقصد. والخلاصة هي: كما يقول الفيلسوف (كانط) "أن الحرية الحقيقية ليست الحرية الطبيعية (القدرة على فعل ما يحلو لنا) إنما الحرية الأخلاقية والحرية المدنية. فالحرية الحقيقية هي الاستقلالية الذاتية بمعنى أن نعطي لذاتنا قانونًا يمليه علينا عقلنا ويجعلنا أسياد ذواتنا فالقانون الأخلاقي الذاتي يخرجنا من سطوة غرائزنا "

ما هي المسؤولية؟:

مفهوم المسؤولية ودلالته اللغوية هي إمكانية توجيه السؤال الى المسؤول فتقول له: ماذا فعلت ولماذا فعلت أو ماذا قلت ولماذا قلت؟ على سبيل التحقيق حتى يجد لفعله أو قوله تبريرا أذا ظننت أن فعل أو قول المسؤول جانب الصواب. "وتُعرّف المسؤولية بأنّها قدرة الشخص على تحمّل نتائج أفعاله التي يقوم بها باختياره، مع علمه المسبق بنتائجها، كما تُعرّف المسؤولية بأنّها شعور أخلاقي يجعل الإنسان يتحمّل نتائج أفعاله، سواء كانت أفعالاً جيّدة، أم أفعالاً سيّئة" (معجم المعاني الجامع).

ترتبط المسؤولية وجودا وفعلا بمفهوم الحرية ولا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يدرك معنى المسؤولية ويرتب عليها الآثار ثوابا وعقابا ما لم يرتبط أدراكه للمسؤولية بالحرية وكون الفعل -أي فعل- لا يصدق عليه وصف المسؤولية حتى ينال مرتبة الحرية ونستطيع أن نقول تبسيطا أن العلاقة بين الحرية والمسؤولية هي علاقة عضوية ونقصد بالعلاقة العضوية العلاقة التكاملية التبادلية المنفعة في الوجود والفعل كعلاقة القلب بالجسد فالقلب يحي الجسد والجسد يديم القلب ولو انتزعنا القلب من الجسد مات الجسد ومات القلب هذا هو التكامل اعتماد منفعة متبادل حتى يحين فناء احداهما فيفنى الآخر.

ومن هذا المنطلق تتبرعم قضيتان هما:

1- لمن الأولوية للحرية أم للمسؤولية؟

2- أيهما يعتبر شرطا للآخر؟

أولا: الأولوية:

ليس المقصود بالأولوية هنا أولوية ترتيبية تقدم هذا وتؤخر ذاك اعتمادا على قرائن معينة وليس المقصود أولوية تفاضلية مطلقة صالحة لكل زمان ومكان من جهة ولا أولوية تفاضلية تقدم هذا وتؤخر الآخر وإنما المقصود هو الأولوية الوجودية أي أن الإنسان يجب أن يكون عاقلا حرا أولا لكي يكون مسؤولا فالعقل يسبق الحرية والحرية تسبق المسؤولية سبقا منطقيا فهي أولوية تكامل وتوازن ورجحان وليست أولوية تناقض أو تضاد أو تناف أو تخاصم.

ثانيا: الشرط والمشروط

صار من الواضح أن من الخطأ المنهجي أن نطرح قضية المسؤولية دون أن نربطها بقضية الحرية فالمسؤولية مشروطة بالحرية ولا معنى لها في غيابها أي أنها تثبت بثبوت شرطها وترفع برفعه وكذلك الحرية تستوجب قيام المسؤولية. فالحرية لوحدها بدون مسؤولية فوضى لا تليق بالإنسان العاقل والمسؤولية بدون حرية عبث صريح كمن يحمل المجنون تبعية فعله. إنهما إذن متلازمان في الوجود والفعل تلازما منطقيا لا ينفك ولا يمكن الفصل بينهما مفهوما ومصداقا.

 أعتقد جازما أن الحرية هي المبدأ وهي الشرط وان الحديث عن المسؤولية لا يستقيم إلا بوجود الحرية ويترتب عن هذا الطرح انه يجب البحث أولا في الحرية والنتائج التي يخلص إليها البحث هي التي تحدد ثبوت المسؤولية أو عدم ثبوتها.

هل الإنسان حر وإذا كان حرا هل هناك حدود لحريته؟

منذ لحظة الولادة يفرض على المولود الانساني المواقف التي لا تقبل التغيير نسميها المواقف النهائية. كموقف الولادة نفسها فالمولود لم يختر أن يولد أي لم يطلب أن يوهب هذه الحياة فهو يولد رغماً عنه ثم جنس المولود من ذكر أو أنثى فهو لم يختر ان يكون ذكراً أو أنثى ثم اسمه فالواحد منا لا يختار اسمه ثم هوية الابوين فلو قدر للمولود أن يختار أبويه لاختار أن يكون والده من الملوك حتماً ثم المكان ثم الزمان فهو سيولد حتماً في زمان ومكان معينين قد لا يرغب فيهما ويود لو أنه ولد في زمان آخر أو مكان آخر. ثم هو مجبور على العيش في مجتمع معين له دين وعادات واعراف وتقاليد وقيم وقوانين وسيكون ملزما بهذا كله ولا يسمح له بالخروج على قوانين المجتمع ودينه وعاداته وقيمه وإلا سينبذ وتطارده اللعنات حتى الموت. هذا نسميه الجبرية الاجتماعية التي تكون أقسى من الجبرية البيولوجية وأمر.

انواع الجبرية الاجتماعية

 1- الدين: من غير شك أن للدين تحديداته وتقييداته لحرية الإنسان. ومن تقييدات الدين ما هي تقييدات مشتركة مع غيره من عوامل التقييد. كالعرف والعادة والتقليد فأنت لا تستطيع أن تنسجم روحيا مع الإنسان الذي يتدين بدين يختلف عن دينك وتعده ضالا كافرا يستحق جهنم أو حتى بمذهب يختلف عن مذهبك وتراه منحرفا عن المذهب الحق وهذا أكثر وضوح وقوة ونسميه المذهبية أو الطائفية.

2- العرف: للعرف تقييداته لحرية الفرد وغالبا ما يكون هذا التقييد حتى في حالة تقابل وتعارض مع الدين أو في تعارض مع القانون أو مع أسس العقلانية أو مبادئ الإنسانية. وبعض التقييدات العرفية قد تكون مقبولة ويمكن التعايش معها حتى لو لم يجر الاقتناع بمبررات تلك التقييدات بشرط ألا يتخذ إجراء قمعي تجاه مخالف العرف الذي لا ينفع الالتزام به ولا يضر تركه.

3- القانون: القانون الصالح غالبا ما يكون فيه بعد أخلاقي وإنساني، لأن القانون أصلا إنما يوجد لحفظ الصالح العام وحريات وحقوق الأفراد. ولذا فحتى عند الدينيين، أو بشكل أخص عند فقهاء الدين، لاسيما الفقهاء الذين يدركون وجوب أن تكون الشريعة ذات ديناميكية تمكنها من مواكبة العصر، يكون الالتزام بالقانون واجبا شرعيا، أي دينيا، ولو بالعنوان الثانوي.

هذه الانواع من الجبرية الاجتماعية تزاول عملها من الخارج على الإنسان فهي جبرية خارجية يفرضها المجتمع على الفرد شاء أم ابى. ثم يأتي التقييد الذاتي للحرية أو ما يسمى (بالضمير) والضمير هو رقابة من الداخل على الذات لمنعها من الوقوع في الخطأ والرذيلة -حسب متبنيات الفرد لقيم مجتمعه-لأن تحديد معيار هذه القيم في النهاية يعود -بشكل خفي-الى مجال التربية والنشأة الاجتماعية فكأن الجبرية الاجتماعية الخارجية تلبس قناع (وهم الإقناع) لتتحول الى قناعة داخلية بدهاء ومكر مخفية أصلها الصريح وتحمل اسم مستعارا هو الضمير.

 

سليم جواد الفهد

 

في المثقف اليوم