قضايا

أزمة نقد أم أزمة مجتمع؟

يسري عبد الغني(عن الخصوصية والذاتية نتحدث..)

ـ لقد آمن أستاذنا الأديب الكبير / يحيى حقي بأن مسؤولية الناقد ينبغي أن تؤدى كما تؤدى الفرائض، وعندما تفحص المشهد التعليمي، فقد لاحظ زيادة في التعاليم ونقص في التثقف، لذلك حذر من تعقيدات ومخاطر نظريات النقد المستوردة التي تخنق الفن.

إن نقد يحيى حقي للمشهد التعليمي في مصر أتبعه بالدعوة إلى ضرورة أن نركز كل جهودنا على التعليم لا على التثقيف، مؤكدًا على أننا نبذل أموالا طائلة لخلق إنسان متعلم، ولكن لا نكاد نفعل شيئاً لخلق إنسان مثقف !!.

ـ من الأهمية بمكان أن نقف دائمًا أمام جدل الخصوصية والهوية في نقدنا الحديث، فالهوية والخصوصية من القضايا المثارة الآن بفعل العولمة، وانه لمن حقنا أن نصون هويتنا ونعض بالنواجذ على خصوصيتنا اقتداءً على الأقل بالآخر المعني ـ جداً ـ في وعيه وأهدافه واستشراقاته ومخططاته ومستقبل ثقافته .

إن «الثقافة الموحدة» كانت هاجس الاتحاد الأوربي وقادته الذين وعوا خطر التشرذم الثقافي، وهو ما قاد إلى الاتحاد، وكان الشعار: أوربا لا تحتاج إلى عملة موحدة بقدر حاجتها إلى ثقافة موحدة                               .

أتذكر هنا ما قاله أستاذنا / عباس محمود العقاد  وتحذيره من الأخذ بمذاهب الآخر بأنماطها أخذًا مطلقًا، ودعا إلى ما أسماه الهوية الواقية، لأن الدعوات العالمية خليقة أن تجور على كيان القومية، وأن تؤول بها إلى فناء كفناء الغالب للمغلوب                          .

أقول لكم : اجعلوا الشعار المرفوع دائمًا هو الحرص على الهوية الذي هو  لا يرادف على الإطلاق «الانغلاق»، وان «توحيد الذات» لا ينافي الانفتاح والتفاعل مع الآخر، أي أن الخصوصية هي التي تعبر من منطلق انتمائنا إلى المنظومة الإنسانية، عن هويتنا الأدبية والنقدية بعيداً عن أية بواعث عقدية وعرقية قومية تعصبية ومنطلقات جغرافية سياسية.

وهذا ما يخشاه آخرون وكثيرون ممن يرفضون فكرة أي منظور نقدي ذي خصوصية عربية يؤكد إسهامنا في المنظومة الإنسانية بحجة ماذا يمكن أن نضيف إلى الفكر العالمي في نظرياته ومناهجه ومصطلحاته؟ هل يمكن أن نضيف إليه ونحن نعتبره وليد بيئة لم نشترك في صناعتها؟

إن البنية التي لم نشارك في صياغتها هي التي توجب ما للنص العربي من خصوصية، لأن أي منهج نقدي ظهر في الغرب ظهر لحل مشكلات واقع اجتماعي معين، مما يعني أن له واقعا أدبيا معينا لا بد للناقد من أن يتعامل معه ويستمد منهجه وأدواته منه ويحل مشكلة النص الأدبي في ضوئه.

فإذا ما كان هذا المنهج جزءاً من واقع أدبي معين فكيف يمكن فرضه على واقع أدبي آخر له مشكلاته  كالأدب العربي ؟ أليس في فرضه ظلم؟ .

إذن النص العربي نص مغاير في روحه وفضائه ولغته للنص الغربي الذي تمت إليه المناهج العربية بصلات اللغة والذاكرة والتاريخ، وهو ما يستدعي التعامل والتفاعل معها بحذر وحيطة منهجية ونظرية، كي لا نقع في وهم فكري مزدوج، ينكشف الأول في إغفال التاريخ الثقافي العربي، ويتجلى الآخر في جهل التاريخ الثقافي للآخر.

انه لا مندوحة من اشتقاق المعايير النقدية وتحديد الأدوات من خلال الحركة الإبداعية الأدبية المادة الرئيسية للنقد، أي من السياق الأدبي والثقافي المحلي بالدرجة الأولى.

أنجح خطابنا النقدي في هذا أو شيء منه أم انه كرَّس إشكالية جديدة..؟!!

إن الحرص على الهوية الثقافية والأدبية ليس بدعاً، فالانجليز وصفوا النقد الفرنسي انه «نقد فرنسي» مما حمل المؤمنين منهم بالبنيوية على تقديم اطر نتجت عن التفاعل المثمر بين النقدين الانجليزي والفرنسي.

وفي أميركا اشتكى عدد من الأكاديميين في حقبة الأساليب الجديدة في النقد وازدهار البنيوية وما بعدها مما دعوه «الاستعمار» للأقسام الإنسانية في الجامعات الأميركية حتى أطلق على جامعة «ييل» أنها : القاعدة الإمامية لضفة باريس اليسرى

نقول : في شأن تقاعس النقد العربي عن تناول التجارب الأدبية الجديدة، فهو ليس تقاعساً بل أصبح تقليداً راسخاً تقريباً. فالنقد اليوم وهذه حاله منذ أكثر من عقدين يعاني من إشكاليات عديدة تجعله مقصراً عن مواكبة الإبداع. ولكن علينا هنا أن نميّز بين أنواع من النقد السائد. هناك، أولاً، ما نسميه النقد الأكاديمي، حيث يواجه الناقد النص الأدبي من منطلق قراءته وفق زمنه التاريخي وزمنه الإبداعي، فضلاً عن تبويب هذا النص وتصنيفه مع ما يجاوره من نصوص، ومع ما سبقه وما سيتلوه أيضاً.

إن الناقد الأكاديمي يدرس النص غير غافل عن طبقاته المتعددة وتراكماته التاريخية والتخييلية، وهذا أمرٌ جيد طبعاً، ولكن المشكلة أن هذا النوع من الممارسة النقدية لم يعد يجد مساحة يحضر فيها، فالمجلات الأدبية والثقافية الرصينة والمحكمة في حالة تراجع وانقراض. الزمن تغير، كما يقولون، ولم يعد زمن المجلات الفصلية والشهرية، ويشهد على ذلك توقف عدد كبير ومهم من المجلات العربية كالطريق ومواقف والناقد، أما الدوريات التي لا تزال تقاوم، فيكاد يكون تداولها محصوراً بين أدباء من الأجيال الأقدم أو بين الأكاديميين والدارسين الجامعيين. وهذا يعني أن هذا النوع من النقد حتى لو وجد مكاناً له في مثل هذه المنابر، فإنه سيظل بعيداً عن متناول الجمهور العريض من القراء والمهتمين بالأدب والثقافة عموماً.

المشكلة في صد د المسافة بين النقد والكتابات الجديدة وحتى التي كانت جديدة في السبعينات والثمانينات فإنها مسافة محكومة بانحسار دور المجلات في لعب دور حقيقي وفعّال في هذا السياق. كما أن القارئ العربي اليوم ليس له صبر وجَلَدٌ على قراءة مقالات نقدية محكمة ورصينة وطويلة. هذا القارئ غالباً ما يكتفي بالعروض النقدية السريعة التي تقدمها الصحف اليومية. وهذا يأخذنا إلى نوع ثانٍ من النقد، وهو النقد الصحافي.

ويجب أن نوضح هنا أن هذا النوع من النقد الرائج في الصفحات والأقسام الثقافية للصحف العربية وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي، لا يمكن وضعه بالكامل في خانة ما هو سلبي مقارنة بالنقد الأكاديمي المحكم. إذْ هناك الكثير من الجهود النقدية العربية الأكاديمية ما هي إلا عبارة عن تشريح ميكانيكي مملّ ومتكرر في جثث النصوص الأدبية، حيث نلاحظ غياباً شبه تام لعلاقة النصوص الأدبية بما هو دارج وحقيقي.

نادرون هم النقّاد الذين لا يتواضعون، وعديدون هم الأدباء الذين يرفضون الاعتراف بأي دور للنقد، بل يعتقدون أنهم هم من علّموا الأجيال، ومن أثروا فيهم، وأنهم هم شيوخ الإبداع وصانعو مسيرته بكل تفاصيلها، وما المبدعون الجدد إلا مريدون في حلقاتهم ومجالسهم ومدارسهم.

قد يبدو الأمر مبالغاً به على نحو ما، فالمبدع الحقيقي بالضرورة لديه حصيلة نقدية، لا يستطيع عاقل أن يدعي أن المبدعين لا يكنزون في دواخلهم معرفة نقدية مهمة، بل البعض يزاوج بين النقد والإبداع، وهذا شأن كثير من المبدعين في العالم. ليس هناك أديب لا ينتمي إلى اتجاه أو مدرسة، بل ربما كان الأديب يدعي أحياناً أنه صاحب مدرسة نقدية، وهو إنما يحفر الخطوط العريضة لمدرسته من خلال ما يكتب، وإن من شأن قارئ نصه أن يعرف مضمونه النقدي. بل إن البعض يقول إن النقاد يمشون خلفنا ويقتاتون بالفتات الذي نرميه خلفنا، فنحن نشق الطريق الذي يسلكونه في النقد. قد يكون هذا الكلام صحيحاً إذا ما قسنا الدور الذي لعبه مبدعون كبار، ليس في الأدب وحسب، إنما في العديد من صنوف الإبداع، لكنه لا ينطبق على الجميع.

وإذا ما تساءلنا هل يوجد نقد حقيقي؟ فيكون الجواب بالطبع لا، فوجود القلة لا يعني الواقع، فالنقد الحقيقي كالأدب الحقيقي أساسه الكشف عن المستقبل الذي لا يمكن أن يكون له حدود وهذا كما نرى مع المفهوم السائد والشائع صعب. والحل الوحيد هو أن يخرج النقد العربي وبكل قوة إلى تأصيل التراث العربي فعلاً ولن يكون ذلك إلا بالغوص العميق في أعماق هذا التراث لينطلق منه كركيزة أساسية للإبداع وإلا سيكون مصير هذه الأمة الذبول والشتات.

 

بقلم د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم