قضايا

من عولمة وباء الكوليرا إلي عولمة وباء كورونا!

محمود محمد علييقول البرفسور الأمريكي، جوزيف ناي، الذي يعد أهمّ منظري "الليبرالية الجديدة" في العلاقات الدولية، في كتابه "مفارقة القوة الأمريكية" 2003: إنّ أقدم أشكال العولمة هو "الاعتماد البيئي المتبادل"، ويضرب مثالاً على ذلك انتشار وباء الجدري في مصر القديمة، عام 135 قبل الميلاد، ثم وصول المرض إلى الصين عام 49 للميلاد، وإلى أوروبا عام 700 للميلاد، ثم إلى الأمريكيتين عام 1520، ليصل في النهاية إلى أستراليا عام 1789 للميلاد وذلك كما قال سعود الشرفات في مقاله فيروس كورونا: عولمة الأمراض والهلع.

وكلام جوزيف ناي يؤكده هنا كثير من المؤرخين والأنثربولوجيين، حيث أثبتوا أنه على مدار التاريخ ظل البشر حول العالم يتعرضون للأوبئة، فعانوا وباء الكوليرا وغيره من الأوبئة الفتاكة. ووفق الموقع الرسمي لـ"منظمة الصحة العالمية" على شبكة الإنترنت، فإن عصر أبوقراط (460-377 ق.م) وعصر جالينوس (129-216 م) شهدا تفشيًا واسعًا لوباء قد يكون هو الكوليرا، كما أن مرضًا يشبه الكوليرا أيضًا كان معروفًا في سهول نهر الغانج (في شمال الهند) منذ القدم.

وقد شهد التاريخ حالات كثيرة لأوبئة الكوليرا والطاعون والحصبة والإنفلونزا والسارس وأنفلونزا الطيور وأنفلونزا الخنازير وغيرها، والتي تسببت بجانب الحروب في هلاك مئات الملايين على مر التاريخ.. ففي عام 165 ميلادية شهد العالم ما يسمى "الطاعون الأنطوني" أو "طاعون الأباطرة الأنطونيين" الذي ظهر في الإمبراطورية الرومانية، وتظهر السجلات التاريخية أن هذا الوباء تسبب في وفاة ما لا يقل عن ألفي شخص يوميًّا. وفي بدايات القرن التاسع عشر، انتشر وباء الكوليرا حول العالم، وكانت بدايته من منطقة جنوب شرق آسيا، حيث أصاب 100 ألف شخص في الصين وإندونيسيا، ثم انتقل تباعًا إلى مناطق أخرى من العالم؛ حيث انتشر المرض في وقت لاحق وتعولم على طول طرق التجارة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، كما تم توثيق أوصاف لا لبس فيها لهذا المرض في الصين، خلال القرن الرابع، وفي الهند ومنطقة البحر الأبيض المتوسط خلال القرن السابع الميلادي، فضلاً عن جنوب غرب آسيا خلال القرن العاشر..

وتشير التقديرات إلى أنّ الجدري دخل أوروبا بين القرنين الخامس والسابع مع انتشار الأوبئة خلال العصور الوسطى، وأدخل المستعمرون الأوروبيون الجدري إلى الأمريكيتين (وأيضاً أفريقيا وأستراليا) بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، مع معدلات إصابة بلغت 90%، ويعتقد أنّ الجدري كان السبب وراء سقوط إمبراطوريات الأزتيك والإنكا في أمريكا الجنوبية وذلك كما قال سعود الشرفات في مقاله سالف الذكر.

وبرغم التقدم الكبير الذي أحرزه العالم في الرعاية الصحية في العصر الحديث، ما زال وباء الكوليرا يُصيب ما يتراوح بين 1.3 مليون شخص و4 ملايين شخص سنويًّا، ويقتل ما يتراوح بين 21 ألف شخصٍ و143 ألف شخصٍ حول العالم كل عام، محدثًا خسائرَ كبيرةً في الأرواح، ومحملًا الاقتصاد العالمي أعباء ثقيلةً.

المقصود من هذا الاستشهاد من نوع "التأريخ بالعدد" هو الإشارة إلى قضية رئيسة وحاسمة في سيرورة العولمة؛ ألا وهي قضية تطور آليات العولمة التكنولوجية وتحديداً المواصلات والاتصالات وعملية الرابط والتشبيك الواسع والعميق لكافة البنى الاجتماعية في العالم القديم والمعاصر، ثم خطورة الأمراض والجراثيم والفيروسات، وانتشارها المتسارع وقدرتها الهائلة على نشر الهلع عالمياً وتأثيرها السلبي على شلّ الحياة الاجتماعية للبشر والاقتصاد العالمي بكلمات أخرى، فإن ما يستفيده الاقتصاد العالمي من انفتاح في ظل العولمة، من خلال جعل انتقال البشر والأيدي العاملة أكثر سهولة ويسرًا، فهو يُعد في الوقت ذاته قناة لنقل الفيروسات بين الدول، وتحولها إلى أوبئة عالمية في أيام معدودة، وهذا ما يمكن وصفه بـ"عولمة الأوبئة".

في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر 2019، أعلنت الصين أول إصابة بفيروس مجهول في مدينة ووهان، بمقاطعة هوبي الوسطى.. لم يكترث الكثيرون له ولم يعيرونه أي اهتمام.. في العاشر من ديسمبر 2019 تعرض 7 أشخاص للعدوي بالفيروس في أحد مدارس ووهان.. لم يخطر ببال أي أحد أبداً أن يحدث هذا كله.. وبعد أسبوعين وبالأخص في 31 ديسمبر 2019 من إصابة الـ 7 أشخاص، انتقل المرض بالعدوي إلي 104 حالة مرضية.. حصرها المركز الصيني للسيطرة للأمراض والوقاية منها، لكنه لم يصنفها مصابة بفيروس كورونا.

وفي 11 يناير 2020 وصلت العدوي إلي 284 حالة مرضية، وقد صُنفت علي أنها مصابة بنوع غير معروف للالتهاب الرئوي، ومن بين المصابين 7 عاملين في مجال الرعاية الطبية، وذلك في دلالة أن هذا الفيروس ينتقل بالعدوي بين البشر.. لم توجه الصين أي تحذيرات للمواطنين ووصل الأمر ببعضهم إلي تنظيم مأدبة طعام حضرها عشرات الآلاف من الأشخاص، بينما كان الفيروس يتفشي بين الناس.. لم يتخذ سكان ووهان الاحتياطات اللازمة ضد الفيروس.. فلم يكونوا علي علم بوباء منتشر بين أرجاء المدينة .

إلا أنه وبوتيرة سريعة ارتفعت أعداد من يشعرون بأعراض مرضية في ووهان، إلا أن تلقي العلاج كان يزداد صعوبة.. منعت حكومة ووهان المواطنين للمغادرة من تجمعاتهم السكنية.. في 30 من ديسمبر 2019م فجر الطبيب الصيني "لي وينليانغ "-طبيب عيون في ووهان الحقيقة عبر تطبيق المراسلة الصيني "واي شات"- بأن الفيروس المنتشر مميت، وطلب من سكان ووهان توخي الحذر.. اعتبرت السلطات الصينية أن الطبيب مروج للشائعات، وأنه قد يواجه تهماً بالإرهاب.. إلا أن العدوي قد أصابت الطبيب ليفارق الحياة.. وقد دوت وفاة الطبيب وسائل التواصل الاجتماعي، وأثارت ردود فعل غاضبة بين أوساط الصينيين.. كانت حياته الثمن الذي أثبت أنه لم يكن مروج شائعات، فحظي بتعاطف واسع بين الناس، لأنهم قد أدركوا أنهم قد يواجهون المصير ذاته، وهذا ما يفسر ردة الفعل السريعة من عامة الشعب الصيني إزاء موته .

إن تحكم وسيطرة الحكومة الصينية علي وسائل الاجتماعي لمحاولة منع تلك المعلومات من الوصول إلي شق واسع من الشعب؛ أدي في حقيقة الأمر إلي تأخير التدخل الحكومي الفاعل طبقاً لتصريحات بعض خبراء الرعاية الصحية الذين قالوا بأن أسبوعين علي الأقل قد تم إهدارهما.. وبالفعل كانت العدوي سريعة الانتشار..

ومع توالي إعلان الإصابات وحالات الوفاة، فقد أعلنت الصين الحجر الصحي في 13 مدينة بمقاطعة هوبي، بإجمالي سكان يبلغ 41 مليون نسمة، كما وضعت السلطات قيودًا مشدَّدة على السفر الداخلي، في محاولة للحد من انتشار الفيروس. وبحلول يوم 2 فبراير 2020 حدثت السلطات الصينية، أرقام الإصابات بفيروس كورونا الجديد حتى الأربعاء الثاني من مايو الجاري ليصبح عدد الإصابات المؤكدة حول العالم ٤٫٣٧ مليون ألف حالة منها ٢٩٨ ألف حالة وفاة .. وبجانب ذلك فقد ظهرت حالات إصابة بالفيروس في 26 دولة أخرى إلى جانب الصين، كاليابان وكوريا الجنوبية وهونج كونج وسنغافورة، ودول أوروبية، ووصل الفيروس إلى الولايات المتحدة وكندا ودول أمريكا الجنوبية.

وبعد بضعة أسابيع من تفشي فيروس كورونا المخيف حول العالم، يكاد الناظر للمشهد العالمي أن يشعر أننا لم نعد نعيش في "قرية صغيرة" أفرزتها العولمة؛ إذ ثبت أنّ العولمة لا تزال غير مكتملة الأسس، لحين انضواء كل الدول والمجتمعات تحت لواء القيم المشتركة للإنسان الحافظة لكرامته وحقوقه الإنسانية بالعيش بصحة جيدة خالية من السموم ومخاطر الأوبئة.. وبالتالي تبقي العولمة وسهولة التنقل والانفتاح بين الدول التي تتباين أنظمتها السياسية والصحية وتعاملها مع "الإنسان" ومواطنيها نقمة دولية تحتاج إعادة النظر بها، وليكن كما قال بديع يونس) في مقاله بعنوان كورونا والعولمة و"المؤامرة") " كورونا درساً مهما في العلاقات الدولية" .

إن انتشار جائحة ال كورونا أثبت أن النموذج النيوليبرالي المعولم المنفلت من كل ضوابط لا يشكل ظلمًا على الملايين من البشر، بل يمثل خطرًا على وجودهم نفسه، ففى لحظة الحقيقة اختفى التصدر الزائف الذى تمحورت حوله اهتمامات الناس وتشكلت كبرى الاقتصادات لعوالم صناعة الترفيه الطاغية من لاعبى كرة القدم والفنانين حتى السياسيين وغيرهم . فى لحظة الحقيقة تحولت إيطاليا، صاحبة الاقتصاد الثامن عالميًا من تقرير “من يحيا ومن يُترك لمصيره” إلى “أتركوهم يموتون.. ليس لدينا إمكانات”!. وتحول السويد، البلد الذي يفترض أنه يملك تاريخًا طويلًا من الاشتراكية الديمقراطية ودولة الرفاه إلى “ابقَ في البيت وتناول براسيتامول.. ليس لدينا إمكانات لاستيعاب المزيد وذلك كما قال إسلام جادالله في مقاله عولمة الأوبئة": اختبار الكفاءة فى زمن الـ"كورونا".

إن فيروس «كورونا» كشف لنا أنه لم يعد قضية محاصرة فيروس ما زال مستعصياً على التشخيص والعلاج، وإنما ما واكبه من انهيار في البورصات العالمية بما فيها البورصة الأمريكية، ومن بعدها أسعار النفط، ونشب خلاف بين روسيا والسعودية بعد انسجام، أصبح الأمر كما لو كانت هناك «سلسلة» من الأحداث الخطرة التي يعقبها أحداث أكثر خطورة، أصبحت الولايات المتحدة المزدهرة على حافة انكماش اقتصادي، وبدا العالم على شفا " الكساد " .. الفيروس عرض قلب العالم الصناعي في الصين إلى اختبار كبير فقد تراجعت معدلات النمو الصينية، وأصبحت صناعات العالم التي تعتمد على الصناعة الصينية في حالة شلل.. انهيار الصناعة العالمية قلل الطلب على النفط، وعلى التجارة العالمية .. فيروس «كورونا» أصبح نوعاً من «نوبة الصحيان» الضرورية للعالم أنه مهما نجحت الدول في بناء الأسوار فإنه لم يعد ممكناً للدول وحدها التعامل مع سلسلة الأحداث الخطرة الممثلة في «الاحتباس الحراري»، والتي أدت إلى كوارث زراعية في العديد من الدول نتج عنها وفق تقارير دولية إلى وفاة 815 مليون مواطن نتيجة ضعف أو قلة الغذاء، وذلك كما قال د. عبد المنعم سعيد في مقاله فيروس كورونا والعولمة وأشياء أخرى.

وفي الختام، لا بد من التأكيد على أن انتشار مثل هذه الفيروسات وتحولها إلى أوبئة على هذا النحو، هو شيء ليس بالغريب أو الاستثنائي في عصر العولمة، فمنظّمة الصحة العالمية تستقبل سنويًّا أكثر من 5 آلاف بلاغ مبكر عن أوبئة متفشية حول العالم. كما أن الاقتصاد العالمي يتحمل تكلفة سنوية تتراوح بين 500 مليار دولار و570 مليار دولار بسبب الأوبئة، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي، وهي القيمة التي تُمثّل نحو 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما أنها تعادل التكلفة التي يتحملها العالم بسبب أزمة التغير المناخي كل عام. ومن ثمّ فإن وباء كورونا الجديد ليس إلا وباءً جديدًا يُضاف إلى سجل الأوبئة العالمية لدى منظمة الصحة العالمية، ويُرجّح أن تنحسر مخاطره على الاقتصاد العالمي قريبًا، وذلك كما قال علي صلاح في مقاله عولمة الأوبئة : انعكاسات فيروس "كورونا" على الاقتصاد العالمي..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم