قضايا

كورونا وبداية عودة الحياة لطبيعتها (1)

محمود محمد عليالصين تعود للحياة ومصابو كورونا يغادرون المستشفيات بعد  تعافيهم، وفي ظل انحسار الفايروس وتراجع الإصابات، السلطات خففت الإغلاق العام في ووهان، ورفعت بعض القيود عن حركة السكان، وسور الصين أُعيد فتحه جزئياً.. أثناء ذلك شددت الدول الأوربية الخناق، وأغلقت الشركات والمصانع للسيطرة علي تفشي الفايروس، بعدما أصبحت أوربا بؤرة تفشي الفايروس، وانتشر الجيش الأمريكي في الولايات الموبوءة لمنع تفشيه، ودول عربية أعلنت حظر التجوال لمواجهة كورونا.. أشهر من المعاناة والقلق والبيات الشتوي في كل مناحي الحياة، تركت آثارها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية العميقة علي الإنسان والشركات والدول والمؤسسات، إلي متي سيستمر ذلك؟ من يتحمل تكاليف شلل النشاط الاقتصادي والتجاري؟.. كثيرة هي الأسئلة الذي يطرحها الواقع الأليم الناجم عن اجتياح فايروس كورونا العالم من أدناه إلي أقصاه .

فألمانيا مثلاً بدأت ترفع القيود من خلال بوابة كرة القدم من خلال ملعب دورتموند الألماني ومباراة دربي أقيمت في اليومين الماضيين بين فريقي بروسيا دورتموند وشالكة في زمن كرونا .. مدرجات خالية من المشاهدين .. لاعبون بدلاء ملزمون بالكمامات .. كرة معقمة .. نحو مليار شخص تابعوا مباريات الدوري الألماني عبر شاشات التلفزيون في مقدمتها أبناء دورتموند، وكما يبدو واضحاً لم تمنع القيود الجديدة التي فرضتها كورونا من الاستمتاع بالمباراة، وبالأهداف التي تخللتها .. هي خطوة أخري جديدة تقوم بها ألمانيا في اتجاه مزيد من التخفيف من الحجر الصحي واستعادة الحياة الاجتماعية والاقتصادية تدريجياً، ورغم مخاوف من مغبة عدم احترام إجراءات السلامة، كانت  المستشارة الألمانية " أنجيلا ميركل " النية قد عبرت عنها فإن الضغط يزداد في ألمانيا للمضي قدماً نحو إنهاء الإغلاق داخل الحكومة، وكذلك في الشارع الألماني الذي يشهد مظاهرات احتجاجية علي القيود .

والمشهد في إيطاليا لا يختلف عن ألمانيا كثيراً،  والتي عاشت الإغلاق المحكم منذ شهرين كاملين وتوفي فيها قرابة اثنين وثلاثين ألفاً تدرك معني أن تتكبد خسائر بشرية واقتصادية فادحة، وها هي ذي تعلن الثالث من يونيو المقبل موعداً، لرفع القيود عن المسافرين إليها من دول الاتحاد الأوربي، كما أقرت الحكومة الإيطالية مرسوماً يسمح بحرية التنقل دون  قيد داخل البلاد، وبفتح  الحدود  أمام  مواطني دول الاتحاد الأوروبي ودول منطقة " شنغن" وحدهم دون الحاجة إلي فرض حظر صحي، وشددت إيطاليا علي ضروة التقيد بإجراءات السلامة، مثل الكمامات واحترام المسافة اللازمة بين الأفراد .

وتري مصادر إعلامية –إيطالية أن قرار فتح  الحدود الأوربية قد يسهم في إعطاء دفع لقطاع السياحة الذي يمثل 13 % من  الدخل القومي الخام، وكذلك في إنقاذ الموسم الزراعي الذي يسمح عملياً بعودة نحو 150 ألفاً من العمال الفلاحيين، ومعظمهم من بولندا ورومانيا وبلغاريا.

والتوجه ذاته عبرت عنه بقية الأوربية وعينها علي موسم سياحي اوربي يفوقه عدد الإنفاق فيه نحو تريليون يورو، هي فرصة لإعادة إحياء السياحة، والاقتصاد في دول الاتحاد الأوروبي الـ 27 وفق المفوضية الأوربية، وقد أوصت خلال الأسبوع الماضي إلي فتح  الحدود  بين الدول الاوربية التي تشهد انحساراً في تفشي فايروس كورونا، لكنها شددت علي أن يكون ذلك بالتنسيق والتشاور دون أي تمييز كما جاء في بيانها، لكن الخطوات الألمانية والإيطالية ما تزال أحادية الجانب، رغم انصهارها في جوهر ما دعا إليه الاتحاد الأوروبي ويقضي بتوفير أكبر مساحة ممكنة من الحرية، مع الحفاظ علي كل القيود الضرورية للسلامة ..  معادلة هي أشبه بالرهان كما يقول المراقبون، حيث يتطلب من الجميع العمل علي إنجاحه، حتي لا تكون إجراءات إنهاء الإغلاق مجرد قفزة في المجهول..

وفي الوقت التي تخفف فيه بعض الدول من القيود علي إجراءات التباعد الاجتماعي لأجل استعادة الحياة، فلا زالت تحذيرات منظمة الصحة العالمية، بضرورة التزام الحذر متنامية، حيث تقول :" الوقت الراهن ليس الأنسب للتراخي .. ينبغي أن نعد أنفسنا لنهج  جديد في المستقبل القريب ".. وثمة شروط وضعها خبراء الصحة لاستئناف حركة الحياة الطبيعية مرة أخري ؛ أولها أن يواصل النظام الصحي دوره بذات الكفاءة لوقف انتقال الفايروس وسرعة التأقلم مع تنامي العدوي، إلي جانب العثور علي لقاح  أو علاجاً فعال للغاية .

بيد أن صدي الحديث عن نهج جديد يتردد بقوة داخل أروقة منظمة الصحة العالمية، نهج  يصفه المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لمنطقة غرب المحيط الهادئ " تاكيشي كاساي " بأن من شأنه تحقيق التوازن الصحيح بين التدابير مكافحة الفايروس، والسماح باستعادة النشاطات الاقتصادية مرة أخري "..

ونحمد الله أنه بعد كل هذا الشهور من إجراءات الحجر المنزلي والصحي في دول العالم مع اجتياح فايروس كورونا هنا كل الحدود أعلنت دول أوربية بدء تقليل هذه الإجراءات واستئناف الحياة الاقتصادية تدريجياً، إلي جانب إعلان خططاً وبرامج انقاذ للقطاعات الاقتصادية .. تأثر القطاعات الاقتصادية في مختلف دول العالم بالتوقف العملي من جراء إجراءات منع انتشار فايروس كورونا كانت متبايناً، وبحسب مدير البنك المركزي الفرنسي، فإن كل الدول الأوربية تأثرت كثيراً، لكن فرنسا تأثرت أكثر من ألمانيا، وقطاع البناء تأثر أقل في إيطاليا، وإسبانيا، من فرنسا .. وزراء مالية منطقة اليورو الـ 19 اتفقوا علي تفاصيل أول استجابة للأزمة الاقتصادية الناجمة عن فايروس كورونا المستجد، من خلال توفير خطو ائتمان احتياطي للدول الأكثر تضرراً من الأزمة، حيث تصل نسبته حتي 2 % من الناتج المحلي الإجمالي للبلد المعني .

صندوق النقد الدولي أكثر تشاؤماً بشأن تراجع الاقتصاد العالمي، حيث يتوقع تراجع النمو بنسبة 3 % في العام الحالي، وذلك في وقت تم رصد بيانات أضعف من توقعاته لعدد من الدول، في حين تتوقع المفوضية الأوربية، ركوداً اقتصادياً – تاريخياً في منطقة اليورو، مع توقعات بانخفاض قياسي من إجمالي الناتج المحلي، بنسبة 7.7 % في منطقة اليورو.

في حين عمقت الأزمة البطالة في مختلف دول العالم، فالولايات المتحدة الأمريكية قد خسرت 26 مليون وظيفة، في حين خسرت " كندا" أكثر من 3 ملايين وظيفة في فترة فصيرة .. أما الدول العربية ولاسيما دول الخليج العربي فقد تضررت اقتصادياً من أزمة  فايروس كورونا مع تراجع أسعار النفط، وأعلنت دول مثل السعودية عن إجراءات لمواجهة التحديات الاقتصادية، فالسعودية قررت رفع نسب ضريبة المضافة إلي 10 %  وإيقاف بدل غلاء المعيشة، فيما قدرت العراق خسائرها بنحو 11 مليار دينار .. الأمل والفرح في استعادة شئ من الحياة الطبيعية والاقتصادية حاضران بقوة، لكن المخاوف من موجة ثانية لا تزال قائمة في وقت سحلت فيه إصابات بفايروس كورونا المستجد في كوريا الجنوبية ووهان الصينية... وللحديث بقية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم