قضايا

كورونا وإتاحة التعليم العربي عبر الإنترنت

هاني جرجيس عيادأصبحت ممارسة الأنشطة عن بعد، مثل التعليم، ضمن الأساليب الرئيسية التي لجأت إليها الدول لمواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا، فقد أتاح التقدم التكنولوجي الكبير في مجال الاتصالات إمكانية إدارة دورة تعليمية كاملة دون الحاجة لوجود الطلاب والمعلمين في حيز ضيق من المساحة، والسماح- في الوقت ذاته- باتخاذ التدابير الاحترازية لمنع انتشار كورونا، وعلى الرغم من العوائد الإيجابية المتعددة التي يحققها التعليم عن بعد، إلا أنها تواجه عدة تحديات لا سيما في دولنا العربية التي لا تتوفر بها بنية تكنولوجية قوية. 

رغم انتشار استخدام الإنترنت في المنطقة، إلا أن العديد من الدول لم تختبر سابقا التقنيات التي يتيحها التعليم الإلكتروني، ولا تزال التجارب العربية متواضعة جدا، ولا تتركز الناجحة منها جزئيا إلا في بعض الدول النفطية الغنية، بل لم تستطع دول عربية كثيرة حتى إدخال التعليم عن بعد في النظام الجامعي، رغم أن جامعات عريقة عبر العالم اعتمدت المحاضرات الرقمية منذ أكثر من عقد.

ويبدو للمتأمل في التجربة العربية للتعليم عن بعد أن من شأن الطلبة العرب تقبلها بشكل أفضل إن كان النظام المدرسي قد قدم التكنولوجيا كأداة تعليم فعالة لطلبة المدارس، بدلا من مفاجآتهم بها إن جاز لنا التعبير في النظام الجامعي بدون مقدمات. ومن الملاحظ أيضا أن معظم الطلبة في عالمنا العربي لم يتجهوا للتعليم عن بعد طواعية، بل هو خيار متاح إزاء خيار التعليم الانتظامي، وهو خيار لم يعد مطروحا لبعضهم لأحد تلك الأسباب التي تجاوزت عنها تلك الجامعات التي تقدم التعليم عن بعد كالمعدل، أو سنة التخرج، أو الجنسية بالإضافة إلى التكلفة المالية الباهظة في المؤسسات الخاصة. ومن نتائج بحثنا أيضا، أن الشريحة العمرية التي تتوجه للالتحاق بالجامعات العربية المفتوحة ليست هي ذاتها في العالم الغربي، فمعظم المنتسبين لها في العالم العربي، كانوا من الفئة العمرية المتوسطة والغالبية هم من حديثي التخرج، والعكس تماما بالنسبة للجامعات الأجنبية، فالغالبية العظمى من طلابها أكبر سنا من الطلاب في الجامعة التقليدية ممن تجاوزوا مرحلة الدراسة بعدة سنوات، ولهم وظائف يباشرونها وعائلات يرعونها بالفعل، وقد يشير الفرق بين الشريحتين إلى اختلاف الدوافع التي تدفع الطلبة للالتحاق بهذه الجامعات، فبينما يقبل الطلبة الغربيون على التعليم عن بعد طلبا لنظام تعليمي لا يتعارض مع حياتهم العملية، يقبل الطلبة العرب في هذه المرحلة على التعليم المفتوح كساحة مفتوحة بديلة لساحة أخرى أغلقت أمامهم هي ساحة التعليم النظامي. مظهر آخر من مظاهر التجربة العربية في التعليم عن بعد، وهو إقبال عدد كبير من الدارسين للتسجيل في هذه الجامعات، ثم انسحاب أكثر من نصفهم عند إدراكهم طبيعة التعليم كونه تعلما ذاتيا يغيب عنه المعلم الملقن. فإن كان معظم الطلبة هم من حديثي التخرج ومن أنظمة دراسية قلما تعتمد على البحث والتحليل والاعتماد على النفس واستخدام وسائل التقنية لاكتساب المعرفة، كيف لمثلهم تجاوز الصدمة ومجاراة مثل هذا النوع من التعلم؟! ويجب أن نشير هنا إلى أن جهل الطلبة لم يكن في استخدام وسائل التقنية الحديثة بل العكس هو الصحيح فلقد أثبتت الدراسات أن أغلب الشباب في العالم العربي لديهم مهارات عدة في استخدام الإنترنت ولكن معظمها في برامج الترفيه والتسلية. 

الأمر ليس تحولا اختياريا، أو تفاخرا تقنيا، أو حتى على سبيل التجربة العملية. إنه عصر التحول الرقمي في التعليم، رغم أنف الممسكين بتلابيب اللوح والطباشير، والمتعلقين بقشة القلم والتلقين، والعائمين في بحر ما أكل عليه زمن التعليم وشرب حتى ضربتهم كورونا في مقتل التعطيل والإغلاق. تعطيل وإغلاق المدارس الناجمين عن فيروس كورونا المستجد أو كوفيد-19، وضع بلايين البشر حول العالم وجها لوجه أمام منظومة التعليم عن بعد. جانب من هذه البلايين وجد نفسه مستعدا شاهرا أدواته المجربة والموثقة في وجه قرار التعطيل، وجانب آخر يعافر ويعاني ويصارع ويسارع لعله يلحق بعضا مما فاته. وحتى ساعات قليلة مضت، بلغ عدد الطلاب الذين اضطرتهم كورونا إلى الانقطاع عن المدارس بليون و344 مليون و914 ألف طالب وطالبة في 138 دولة حول العالم بنسبة 82.2% من الطلاب المقيدين في مدارس. منهم نحو 83 مليون طالب مدرسي في الدول العربية (بالإضافة إلى أعداد المتسربين من التعليم والمتوقفين عنه بفعل الحروب والصراعات الدائرة رحاها خلال العقد الماضي)، وذلك بحسب يونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة).   

إثر إغلاق المدارس والجامعات بسبب كورونا، تحاول دول عربية نشر التعليم عن بعد، لكن العملية لا تنتابها العراقيل وحسب، بل عرت أيضا عيوب أنظمة تعليمية لم تنجح أصلا في النموذج التقليدي القائم على الدراسة داخل الفصول. فمنذ أن تم إطلاق برنامج التعليم عن بعد، بدأت تظهر الكثير من الصعوبات والعوائق التي قد تحد من انتشاره وفعاليته: 

– فهل كل الأسر مجهزة بما يكفي من الأجهزة الإلكترونية (أجهزة كومبيوتر– أجهزة لوحية – هواتف ذكية) للاعتماد عليها في التعليم عن بعد.

– هل جميع الأسر لديها اتصال بإنترنت قوي بما فيه الكفاية تمكنهم من الوصول والاستفادة من الدروس والبرامج التي تبثها القنوات الخاصة بالتعليم الرقمي عن بعد.

– هل جميع الأسر في القرى والمناطق النائية تصلها تغطية شبكة الإنترنت القوية وقبل الحديث عن ذلك هل تملك أصلا هذه الأجهزة الرقمية.

– هل تم توفير بنية تكنولوجية تحتية في كل الجامعات والمؤسسات التربوية تسمح لإطلاق شبكة منصة للمحاضرات المرئية والتعليم الرقمي.

– هل تم تكوين وتأهيل المدرسين والتلاميذ وأسر التلاميذ على تقنيات وبرامج التعليم عن بعد: مثلا كيفية الاستعمال والاستخدام (بالنسبة للمدرسين)، وكيفية الاستفادة ( بالنسبة للتلاميذ)، كيفية التتبع (بالنسبة للآباء).  

– هل تم وضع دليل توجيهي لتوحيد الرؤية التربوية وفق منهج تربوي وطني يتناسب مع تعليمنا الإلكتروني عن بعد  ولجميع المستويات.

إن المشكلات والتحديات المفاجئة التي فرضها فيروس كورونا لم تسمح للدول والحكومات بوضع برنامج استعجالي فعال لمواجهة كل الكوارث الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية، وهكذا فرضت هذه الظروف الوبائية المفاجئة على بلادنا إطلاق نظام التعليم عن بعد، وهو نظام تعليمي رقمي قد يحتاج إلى فترة غير قصيرة لتكييف المجتمع المدرسي وشركائه مع هذا النمط الجديد من التعليم، من أساتذة وتلاميذ وآباء على حد سواء، كما أن هذا الظرف الاستثنائي يحتاج إلى توفير بيئات عمل رقمية تتيح للتلميذ باستئناف الدروس عن بعد داخل البيت وبين أفراد أسرته. فهل هي متوفرة؟  يتساءل كل متتبع لهذا التحول الرقمي: هل يمكن التحكم في العملية التربوية داخل البيت؟ وما صورة المدرسة داخل البيت؟

إن اللجوء إلى التعليم عن بعد ومنهج التعليم الرقمي يعني المكوث في البيت للدراسة والقيام بالواجبات، وهذا لاشك فيه موضوع كبير جدا وشائك، خاصة إذا نظرنا إلى الفئات العمرية ومستويات الدراسة، وهذا يعني أن العبء الكبير سيقع على المدرسين من جهة لإيجاد أنسب الطرق لإيصال المعلومات حتى يفهمها التلاميذ، ومن جهة أخرى دور أولياء أمور التلاميذ في مراقبة أبنائهم وتوجيههم ومتابعتهم خلال هذه العملية. ولكن يبقى السؤال إلى أي مدى سيلتزم الآباء بمتابعة أبنائهم؟ وهل سيتعامل التلاميذ بجدية مع هذا النمط الجديد من التعليم عن بعد؟ إن هناك مخاوف من عدم ضبط عملية التلقين الرقمي على مستوى واسع، بالنظر إلى عدد التلاميذ المتمدرسين، كما أن هناك مخاوف من عدم تجاوب والتزام أولياء أمور التلاميذ في تتبع ومراقبة تعليم وتعلم أبنائهم وفق هذا النمط الجديد. لكن في ظل الظروف الاستثنائية الحالية والمفاجئة، ووقاية من الفيروس، لا مخرج إلا التعليم عن بعد، ثم علينا بتتبع ما يمكن أن تفرزه فيما بعد من أثار ايجابية وسلبية، وقد تكون بداية انطلاق لمرحلة جديدة من التعليم. 

على الرغم من إيجابيات نظام التعليم عن بعد؛ إلا أن هناك تحديات تواجه هذا النظام، بعضها يتعلق بتفضيل بعض الأشخاص أن تكون تجربة التعليم وجها لوجه وليس من خلال الفيديوهات أو البث المباشر على الإنترنت، وهذه تفضيلات شخصية تختلف من شخص لآخر، وليست لها علاقة بمدى كفاءة هذا النظام. من جانب آخر، لا تزال هناك بعض التحديات التي تواجه انتشار هذا النظام في بعض دول العالم، خاصة الدول العربية، مثل: عدم وجود بنية تكنولوجية لازمة لدعم نظم التعليم الافتراضي. بالإضافة إلى زيادة أعداد الأمية الإلكترونية، حيث يحتاج التعليم عن بعد إلى وجود معرفة أساسية بالحواسب الآلية والإنترنت، في حين أن هناك دولا عربية لا يزال لديها عدد كبير من المواطنين غير قادرين على استخدام الحواسب الآلية أو الإنترنت بشكل كاف. إن التعليم عن بعد يعد أحد الحلول التي لجأت إليها الدول لمواجهة انتشار فيروس كورونا، وعدم تعطيل العملية التعليمية بشكل كامل في الوقت نفسه، إلا أن هناك تحديات تواجه هذه العملية في بعض الدول العربية بسبب عدم توفر البنية التكنولوجية اللازمة وانتشار الأمية الإلكترونية. ويمكننا القول بصورة عامة أن الأزمة التي يمر بها التعليم في ظل فيروس كورونا تتطلب من كل دولنا العربية أن يكون لها نظاما تعليميا إلكترونيا يتطور مع ما يشهد العالم من تطور تكنولوجي مستمر معتمدا على ما يوفره هذا التطور من امكانات  تفيد العملية التعليمية شأنها في ذلك شأن كل القطاعات الموجودة في المجتمع. هذا النظام تتم إتاحته في الأوقات العادية كأداة مساعدة، وكأداة أساسية في أوقات الأزمات والكوارث المناخية والطبيعية أو الصحية التي يصعب معها الاعتماد على التعليم النظامي التقليدي. وبناء على ما ذلك نقترح ما يلي:    

1- نشر ثقافة التعليم الإلكتروني بين النّاس بشكل أكبر، من خلال عقد ندوات توعوية، ونشر منشورات تحتوي على فوائد التعليم الإلكتروني.

2- عقد دورات لتعلم وسائل التعليم الإلكتروني، والمحاضرات المجانية التي تشرح أهميته.

3- الاستفادة من الخبرات الخارجية، وخاصة تجارب الدول المتقدمة  في مجال التعليم الإلكتروني وأخذ العبرة.

4- تحسين البنية التحتية التي تخدم الاتصالات.

إن نظام التعليم عن بعد من أنجح الأنظمة التعليمية التي أصبح يستخدمها الكثير من الطلاب اللذين لم يتمكنوا من التسجيل في النظام التقليدي للتعليم، ولكن هذا النظام له الكثير من المنافع والمميزات التي تجعل الكثير من الأشخاص أن يقدموا إلى التسجيل في التعليم عن بعد، وهذا الأمر يوفر الكثير من الجهد والوقت للطلاب. كما أنه مر بمراحل تطور كثيرة حتى يطور من البرنامج للوصول إلى نموذج تعليمي مفيد للطلاب الغير قادرين على التسجيل في البرنامج التعليمي التقليدي، كما أن هذا البرنامج يختلف من جامعة لأخرى من حيث النظام المتبع في الدراسة والبرامج التي تقوم كل جامعة على تقديمه للطلاب الذين يقومون بالتسجيل معهم.

والآن تتعامل دولنا العربية مع هذا التحدي غير المتوقع والمتمثل في تفعيل التعليم عن بعد باعتباره وسيلة التعليم الأساسية لأسابيع وربما أكثر في كل المراحل التعليمية، واجبنا كمؤسسات تعليمية، معلمين، أولياء أمور وطلبة، أن نكافح معا، وأن نحاول أن نتجاوز التحديات المتأصلة في التعليم عن بعد في هذه المرحلة الصعبة، جميعنا يدرك أن التحديات كبيرة وأن الأمر لن يكون بهذه السهولة لكن هذا وقت استثنائي، ونحن بحاجة أن نتكاتف معا وأن نركز على أهمية التشاركية في هذه المرحلة على الرغم من نقص مصادر التعليم المتكاملة، علينا أن لا ندع سعينا في الوصول إلى الكمال يعيق مسيرتنا، وعلينا أن نقوم بأفضل ما في وسعنا لمساعدة أبنائنا على مواصلة عملية التعليم رغم هذه الأزمة، وعلينا جميعا التعاون بما يضمن عدم توقف العملية التعليمية، ونرفع الدعاء اليوم جميعا على نية شفاء المصابين بفيروس كورونا ونرفع قلوبنا إلى السماء ضارعين إلى الله أن يحفظ أمتنا العربية والعالم أجمع من هذا الوباء.     

 

د/ هاني جرجس عياد

باحث في علم الاجتماع – جمهورية مصر العربية

 

 

في المثقف اليوم