قضايا

الاستبداد الصغير

لقد اعتاد معظمنا، وكجزء من ثقافة متوارثة، على التعامل مع النهايات الكبيرة والواضحة بدون الاهتمام كثيراً بالتفاصيل الصغيرة التي تجمعت وانتجت تلك النهايات (الظواهر) .

رفض الطاغية وسلوكه وسياساته مثلاً، يأتي في الغالب بدون مراجعة العناصر التي خلقته من الناحية الشخصية وخلقت لديه كل ذلك الاستعداد الدموي  اللانساني، وكذلك الظروف المحيطة التي جعلته قادراً على ممارسة طغيانه.

وفي نظري فان عدم دراسة وتتبع التفاصيل لن يجعلنا قادرين على معالجة الظواهر التي نواجهها في حياتنا لكي نمنع ونوقف ظهورها.

 ويعتبرتحمل المسؤولة عن كثير من الامور شرط اساسي لمواجهتها وربما علاجها والتخلص منها.

بالرغم من الوضع الحر المستقل للشخص، لكن الآخرين، لاسيما الاهل والاصدقاء، يحلو لهم العبث بهذه الاستقلالية والتدخل السافر في شؤوننا ومحاولة تغيير قراراتنا وانتقادها علناً او ضمنياً!!

قبل سنوات وعند انتقالي للعمل في دولة جديدة، استأجرت شقة اعجبتني مع ان ايجارها مرتفع. وهنا ثارت ثائرة المخلصين من الاصدقاء وحتى غير الاصدقاء وانهالت الاتصالات التي تحذرني من الكارثة ومن الخداع الذي تعرضت له وان بامكانهم الحصول على شقة لي بسعر ارخص كثيراً .. حاولت عبثاً ان اشرح لهم اني اجريت مسحا للاسعار واني اعرف ماذا افعل ولست قاصراً وان لدي حسابات واعتبارات خاصة بي وبعائلتي في اختيار المنزل..

لم يفهموا ان لكل انسان تفضيلات في اختيار الاشياء وانه ليس مضطرا للتطابق معهم .لكنها ثقافة اللون الواحد، ثقافة الزي الموحد (the uniform).

لم ينتبه هؤلاء السادة الى انهم بذلك يتعدون على استقلاليتي، بل انهم اعتبروا ذلك حرصاً على مصلحتي .. شعرت بالضيق فعلاً من تلك التصرفات ولكن الادب منعني من التعامل معهم بجفاء. لقد كانوا شخصيات استبدادية حقاً حتى وان لم يدركوا ذلك.

بعد ايام اتصل بي احد المسؤولين في السفارة العراقية وطلب تحديد موعد لكي نلتقي. وفعلا تم ذلك وكنت اتصور ان لديه أمرا هاما خاصة وانه ممثل جهة امنية في السفارة، لكني فوجئت بانه ينصحني حول موضوع استئجار الشقة من جديد وقال ان بعض الاخوان كلفوه بالحديث معي حول الموضوع !!!!!

ادركت ان الرجل لايعتبر ذلك تدخلا وقلة احترام لانه اعتاد على ذلك ربما..

الانسان الفرد قاصر في نظر المجتمع وانه بحاجة الى توجيه مستمر حتى لو بلغ من العمر عتيا ..

تقرر شراء سيارة جديدة وتتفاجأ بعشرات الاعتراضات والاقتراحات التي تدعوك لشراء سيارة غير التي قررت شراءها . بل ان احد اصدقائي اشترى سيارة فخمة وجديدة من الوكالة وكنت معه في احد الاماكن عندما داهمنا شخص اعرفه معرفة سطحية لكن صاحب السيارة لايعرفه اطلاقا ولم يلتق به من قبل. وفوراً سألني هذه المتطفل عن هذه السيارة وهل هي سيارتي؟ قلت له انها سيارة صديقي فلان الذي تراه معي .

وهنا هاجم هذا الشخص السيارة وقال لصاحبها : ألم ينصحك أحد؟ كيف تسمح لهم ان يضحكوا عليك ويبيعوك هذه السيارة التافهة؟

صاحبي كان رجلا عاقلا فلم يكترث بكلام المتطفل ووعده بالتخلص منها بسرعة بناء على نصيحته. المحرج في الأمر، انه اعتقد ان المتطفل صديقي وهذا شيء مخزي بالنسبة لي. .. وحلفت باغلض الأيمان ان معرفتي به سطحية ووعدته بان اقطع علاقتي به بسبب المخازي التي قدد يسببها لي . وفعلا اوفيت بوعدي.

نأتي الآن الى الجانب الاكثر كوميدية في الموضوع وهي قضية الطعام والذوق في تناول الطعام وماذا تحب وماذا تكره من طعام وكم تاكل ومتى تأكل وكيف تأكل؟

في مجتمعنا احياناً لايحق لك ان تشبع بسرعة ولايحق لك ان تقول لا احب الطعام الفلاني

ولا ان تقول باني لا اتناول العشاء مثلاً . حيث ستجد الجميع اطباء مختصين في علم التغذية وتنهال عليك النصائح التي تحذرك من هذا السلوك السيء الضار بالصحة .

احيانا اكون مدعوا في بيت احد الاصدقاء الى جانب عدد آخر لا اعرف بعضهم، وتحصل الكارثة عندما اتوقف عن تناول الطعام، حيث يقفز صاحب الدعوة ويضع امامي كتلة لحم تثير اشمئزازي وهو يقسم بأنه لن يسمح لي بالقيام قبل اكلها والّا فإنه سوف يزعل. تصوروا انه سوف يزعل اذا لم اتناول هذه الكتلة من الطعام !!

اعتذر عن تناول الحلوى والتمر مثلا، وتنطلق الحناجر للاشادة باهمية ذلك وان الرجل يجب ان يأكل الكثير من التمور الخ.....

احدهم قال لي ذات مرة : انتم لستم مثل رجال قبل للأسف !! يقصد ان رجال قبل يأكلون كالبهائم ونحن ناكل بطريقة غير رجولية ولاتدل على خشونة وفحولة ..

اما ضرورة الاشادة بالطعام بشكل احتفالي راقص وموسيقي فهذه حتمية يجب عدم إغفالها اطلاقاً . لايكفي ان تقول شكرا والحمد لله !!

اليس هذا شكلا من اشكال الاستبداد الصغير؟

وهذا لايسري على الدعوات الاجتماعية فقط بل حتى داخل البيت ..احياناً تأتيك اشارة تنبهك الى انك لم تعلن عن البهجة كما ينبغي، لان سيدة البيت سوف تغضب وتزعل لهذا الاهمال المقصود ..

مشكلتي الشخصية هي عدم قدرتي على التعبير المباشر والاحتفالي كما تقتضي الاعراف، لذلك اواجه حرجاً مستمراً. وهذا استبداد صغير فعلاً .. يقول لي الاهل احيانا بعد الوجبة : يبدو ان الطعام لم يعجبك؟؟ وأردُ مستغربا : كلا لقد اعجبني بدليل اني تناولته بشهية !! فيقال لي : لو اعجبك فعلا لصرحت واعلنت ذلك عن طريق الاشادة والتعظيم ..

أنا شخصيا لا أحب الفطر (mushroom) ولا أطيق رائحته وهذا حق طبيعي .. ولكن هذه الخصلة السيئة سببت لي من الازعاج ما لايمكن وصفه : الكل يصرخ في وجهي عندما يعلم بأني لاآكل الفطر: بالعكس انه عظيم ولذيذ ..لا اصدق ان شخصا مثلك لايحبه.

يقترحون عليَ بقوة ان اجربه ولو مرة واحدة !! اصبحت القضية كأنها عقيدة ومبدأ :من لا يأكل الفطر فانه مشكوك بولائه ..

بحثت عن حديث نبوي يدعو الى تناول الفطر لكني لم أجد ذلك .. تصورت انه ربما محبوب دينيا وان الصلاة لاتقبل بدونه !!

ختاما، ولكي لا أطيل الرواية نذهب الى قضية الملابس ...

بداية عهدي بالاستبداد الصغير المتعلق بالملابس، كانت عندما كنت في الصف الاول الابتدائي وكنت اسير مع والدي رحمه الله في الباب الشرقي وقلت له ان ذلك القميص اعجبني .

 كان القميص فاتح اللون لسوء الحظ حيث انطلق الوالد بالقاء محاضرة اخلاقية حول سيئات اللون الفاتح للرجل، وقال لي بالحرف الواحد : انت رجل، والرجل عيب يلبس لون فاتح .. الوان الرجل هي الاسود والازرق الداكن والاخضر الداكن والقهوائي فقط !!

( يعني لازم البس الوان منيلة بنيلة على حد تعبير اخواننا المصريين).

تصوروا انه عاملني كرجل بالغ وانا في الاول الابتدائي !!! لقد سلب طفولتي ببساطة ووضع اطارا لونياً رمزياً تتحدد من خلاله رجولتي!!

لقد تعودت والى الآن ان لا ألبس الالوان الفاتحة .. التعليم في الصغر كالنقش في الحجر.

هذه الممارسات التربوية التي نتلقاها في الطفولة وعند الكبر لايمكن ان تمر مرَ الكرام بل تترك تراكمات ثقافية تجعلنا مستعدين لاعادة ممارستها مع اولادنا وتلاميذنا وزوجاتنا وزملائنا في العمل . وهكذا تنمو جذور الاستبداد الصغير لكي تخلق طغاةً كباراً في المستقبل.

 

د. صلاح حزام

 

 

في المثقف اليوم