قضايا

فهمي جدعان ومحنة خلق القرآن (2)

محمود محمد عليعندما قام الدكتور فهمي جدعان حقيقة بدراسة قضية خلق القرآن دراسة نوعية، استطاع حقيقة أن يفكك كثيراً من الصور النمطية والنماذج النمطية التي تسود حول هذه المرحلة التاريخية  والقضايا المحيطة بها، ولا سيما في حقيقة في عصر رواجان روايات تاريخية ودينية معينة ذات منظور ديني خاص، واتجاه ديني معين.

كان جدعان يري أن المعتزلة هم المتهمون حقيقة بهذه المحنة، وكانوا في تواطؤ مع السلطة، وهنا نجد جدعان يقول: لقد رد البحث المعاصر إلي المعتزلة قدراً عظيما  من " الاعتبار" الذي يليق بهم . لا بل إن بعض الكتاب المفعمين بروح " العقلانية"  قد أسرفوا في إسباغ الثناء والمديح عليهم حتي لقد تصور بعضهم ان النكبة  التي لحقت بهم قريبا من منتصف القرن الثالث الهجري، وبعد ذلك، إنما كانت نكبة للإسلام نفسه آذنت بأفول العصر الذهبي له ..

وأنا أؤيد ما قاله فهمي جدعان؛ لا سيما وأن للمعتزلة لهم أصول خمسة، وهي التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. فأصل التوحيد لا شئ يشبه الله، فالله لا نظير له وهو الواحد الأحد بلا نظير ولا شريك..  والذين يقولون إن القرآن قديم  والقرآن غير مخلوق .. هذا يعني أن القرآن يشترك مع الله في صفة معينة، وهي صفة القدم، فعندما تقول إن القرآن قديم، فقد أشركت بالله، والإشراك بالله عند المعتزلة معناه الكفر؛ وهنا نجد فهمي جدعان يقول:" ومن الثابت أن القول بالقرآن مخلوق يرجع إلي عهد بعيد جدا عن مبدأ "الامتحان" الذي شهره المأمون في عام 218 هـ، وأن القضية في مبدئها قضية " جهمية"، تجد أصداء قوية لها في بعض الأقوال المنسوبة إلي الإمام الشيعي  جعفر الصادق (ت 148/765م) الذي يعزي إليه أنه أجاب عن السؤال: القرآن خالق أم مخلوق؟ بالقول ليس خالقا ولا مخلوقا، يل هو كلام الله .

إذن المعتزلة لم يكونوا أول من قال بقضية خلق القرآن ولم يكونوا وحدهم، هنا حقيقة اتجاهات ومذاهب وأشخاص كان لهم حضور قالوا بأن القرآن مخلوق، فالمعتزلة هم جزء من مجموعة ومنظومة قالت بذلك، ولكن المعتزلة حقيقة هي التي قدمت الاستدلالات والحجج المتينة القوية والجدالات لتأسيس هذه القضية، مقارنة بالمذاهب أو الاتجاهات الأخري التي كانت تتعرض للتضييق والمحاربة ؛ وهنا يقول الدكتور عبد الكريم الوريكات (الأستاذ بقسم أصول الدين بالجامعة الأردنية): إن فهمي جدعان يحاول ما استطاع أن يبعد هذه النهمة عن المعتزلة، لكن للأسف الشديد المحنة أكبر دليل علي قول المعتزلة وتبني المعتزلة  وتأصيل المعتزلة بل وممارسة المعتزلة لهذه العقيدة بالقول والفعل؛ كما يقول حسن حنفي: إن قضية خلق القرآن ليس رأي المعتزلة وحدهم ولكنه رأي جميع فرق المعارضة حتي تسمح لنفسها بأن تعارض وأن تفسر وأن تفهم وأن تواجه السلطان بعلماء السلطان ومن ثم فهو رأي سياسي بالأصالة ...

وهنا نجد فهمي جدعان يقول:" وحياة المأمون ملحمة من الملاحم مبدؤها الصراع علي الملك الذي كان بينه وبين أخيه محمد الأمين، وقد تفجر هذا الصراع حين أقدم المأمون وهو بخرسان علي خلع الأمين والدعوة إلي نفسه في عام 195هـ . ونجح طاهر بن الحسين ذو اليمنيين، في قتل الأمين ـ وحمل رأسه إلي أخيه بخراسان ، فبايعه الناس بالخلافة وتم ذلك في سنة 198هـ .

من الملاحظ هنا جعل فهمي جدعان  القسم الثاني من الفصل الأول مختصاً بتفسير العلاقة بين المعتزلة والخلفاء العباسيين الثلاثة المأمون والمعتصم والواثق. والمعتزلة الذين ثبت اتصالهم بهؤلاء الخلفاء أو بالمأمون على وجه التخصيص هم أهل الطبقة السادسة والسابعة من المعتزلة يأتي علي رأس هؤلاء ثمامة بن الأشرس (ت 213 هـ) ويليه أبو الهذيل محمد العلاف (ت 235 هـ) ثم أبو أسحق إبراهيم بن سيار النظام (ت 231 هـ) وأبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم (ت 225 هـ) وكذلك أبو موسى عيسى بن صبيح المردار راهب المعتزلة ت (226 هـ) وأستاذ الجعفرين:جعفر بن حرب وجعفر بن مبشر ولاستكمال صورة الروابط بين المعتزلة والمأمون لا بد من الإشارة إلى صلة هذا الخليفة بثلاثة رجال ينسبون كلهم،أو بعضهم إلى المعتزلة هم الجاحظ (ت 255 هـ) وبشر المريسي (ت 218 هـ) وأحمد بن أبي دؤاد (ت 240 هـ) وكتاب طبقات المعتزلة جعل أحمد بن دؤاد والجاحظ من الطبقتين السادسة والسابعة باستثناء بشر المريسي فلا علاقة له بالمعتزلة يقينا مع أن الدكتور جدعان لم يشر إلى ذلك . وكتاب المحنة يبين علاقة هؤلاء بالتفصيل مع المأمون من (ص 65- ص 98) من خلال العرض يتبين وخاصة العرض من خلال علاقة ثمامة والمأمون أن المأمون ليس معتزليا وهذا ما أكده الكتاب انظر (ص 65 – 69) وذلك حسب قول أمين نايف ذياب .

أما القسم الثالث من الفصل الأول وهو آخر قسم في هذا الفصل فأنه مكرس لفحص علاقة أحمد بن أبي دؤاد في المحنة فأحمد بن داؤد متقلدٌ أسمى مناصب الدولة منصب قاضي القضاة ومهام قاضي القضاة جسيمة أولها اختيار القضاة وعزلهم وبالتالي الإشراف على عملية فصل الخصومة سواء بين طرفين مشخصين أو بين طرف مشخص وآخر هو حق الطاعة أو حق الإسلام أو حق الأمة الإسلامية ولا بد من أن ينهض بأعباء وظيفة ولهذا كان لا بد من أن يكون المرجع في الامتحان، وإذ يقوم بذلك فإنما يقوم به حسب مذهبه.

ويذهب الدكتور جدعان إلى أن ابن أبي دؤاد لم يكن متعطشاً للدم والسلطة والقسر، ولا شك انه كان ذا عرق نبيل أبي النفس كريماً، وليس أدل على ذلك من موقفه من أهل الكرخ حين رقق المعتصم حتى أطلق له مالاً قسمه على الناس، فضلاً عن مال عنده،ويخرج الدكتور جدعان في كتابه المحنة قائلاً " والمدقق في وقائع المحنة يتبين بوضوح أن أحمد بن أبي دؤاد كان يحاول دوماً التخفيف من حدتها والبحث عن الوسائل المجدية من أجل ذلك " وينفي الدكتور جدعان أية علاقة لأبي جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي (ت 240 هـ) والذي أعجب به المعتصم إعجابا شديداً فقدمه وأوسع عليه، ومع هذا فلا علاقة له بالمحنة ومع رحيل المعتصم سنة (227 هـ) وتولي الواثق (227- 232 هـ) لا يشك الدكتور جدعان أن علاقة احمد بن أبي دؤاد بالواثق هي نفس علاقته بالمعتصم أي علاقة الوظيفة لا غير، فلماذا يتحمل المعتزلة ولم يكونوا خلفاء الدولة، بل أن أكثرهم على عدم ولاء للدولة إلى حد القطيعة، والذين اتصلوا بخلفاء الدولة إنما اتصلوا بحكم الوظيفة، أو بحكم الإعجاب بهم . أو بحكم حضور جلسات الجدال في أيام المأمون، ولم يكن ما أصاب ابن أبي دؤاد وأهله من محن على يدي المتوكل، راجع إلا لأنهم كلهم سواء بالاهتمام بالحفاظ على سلطتهم السياسية وفي سبيلها ولا جلها يكون ما يظهر من مواقف عقدية، وذلك حسب قول أمين نايف ذياب ..

ويعنون فهمي جدعان الفصل الثاني ويستغرق الصفحات من (111- 187) وهو هنا يؤرخ للمحن كواقع تاريخي (المقصود بالمحنة امتحان الفقهاء والقضاء وأهل الحديث بل والشهود بمقولتهم في القرآن) ومن تعرض لمثل هذا الامتحان من الكثرة منهم من يذكر التاريخ ومنهم من لا يذكره فعلام ارتباط المحنة بأحمد بن حنبل دون غيره ؟ مع أن المصادر التاريخية تجمع على أنه لم يجلد أكثر من (68) سوطاً على ثلاث فترات لقد استطاع الأعلام الحنبلي الميكا فيلي أن يضخم صورة تلك المحنة بحيث ارتبطت بأحمد بن حنبل، والقارئ للمحنة (كما جمعها ابن عمه وتلميذة حنبل بن اسحق) يدرك الفجوات الواضحة والكثير في سياق هذه المحنة، وهذا وحده كاف كدعوة للدخول إلى دراسة دواعي المحنة ورجالها الفصل الثالث في كتاب المحنة الذي يستغرق الصفحات من (187 – 263) وهي دراسة تركز على رسائل المأمون في محاولة لاكتشاف الدواعي من خلال الوعي على المعطى التي تقدمه تلك الرسائل ولاكتمال الصورة، وجه الكتاب النظر إلى الممتْحَنين من حيثُ واقعهم العقدي وواقعهم العملي، ولقد ركز المأمون في رسائله على بيان الصور القاتمة في واقعهم العملي، وقد بلغ عدد من توجهت الدراسة إليهم أربعون شخصاً يتوزعون على العراق والشام ومصر ويتوزعون من ناحية أخرى على أهل الحديث وأهل الرأي والفقهاء وواحد منهم هو عم الخليفة المدعو إبراهيم بن المهدي ليس من هؤلاء .

وفي آخر الفصل الثالث يحاول الكتاب بناء صورة لفكر المأمون وعقيدته مع أن المادة المتيسرة لمثل هذه الدراسة قليلة ولا تفي بالغرض، ويتعرض من خلال الهامش ص (233- 235) لنظريات تفسر الدواعي التي أدت إلى قيام المأمون بجعل الإمام الثامن للشيعة الاثنا عشرية وليا لعهده، ويخرج الكتاب بصورة عقدية وفكرية وواقعية تخالف ما استقر في الأذهان عن المأمون وليس من وجاهة نقل صورة عن الممتحنين من مصادر تعد في موقع التحيز لهم .

أما الفصل الرابع وهو أهم فصول الكتاب بل تعتبر الفصول السابقة مقدمة له والذي يعنونه الدكتور باسم تسويات لحساب التاريخ ص (267 – 290) فهو يكشف عن واقع دور المعتزلة في المحنة، معلناً أن لا علاقة للمعتزلة في هذه المحنة، ويكشف حقيقة أهل الحديث ـ وخاصة أبو مسهر الدمشقي وأحمد بن حنبل ـ وقيام سلطة لهم من خلال العامة موازية للسلطة، بل والتهديد الفعلي لها، وأنهم أصحاب هوى أموي، وقد شارك أبو مسهر بالذات في الثورة مع السفياني (195- 198 هـ) ورغم القضاء على ثورة السفياني ومرور عقدين عليها إلا أن المأمون يكشف عام (217 هـ) أثناء زيارة لدمشق استمرار الهوى الأموي فيها مما جعله يدرك الخطر، خطر أهل الحديث إدراكاً واقعياً ويشعر قارئ هذا الفصل بمقدار كبير من الإثارة، وذلك حسب قول أمين نايف ذياب .

ويختم الكتاب في الفصل الخامس بعنوان جدلية الديني والسياسي ص (293 – 359) ليرى أن قضية المحنة محكومة بالصراع على سلطة، وهي هنا بالتأكيد الصراع بين الديني والسياسي، ولكن الدكتور لا يبين لنا الفروق الواضحة بين ما هو سياسي وبين ما هو ديني، وهل من الحكمة أن تتكون حدوداً فاصلة بين ما هو ديني وبين ما هو سياسي؟! ؛ وذلك حسب قول أمين نايف ذياب .

إذ لا شك أن أحدهما يؤثر في الآخر على وجه ما، وإذا كانت غاية الديني الآخرة من خلال الالتزام بالدين، فإن غاية السياسي الإسلامي السلطوي الآخرة من خلال إحسان العمل السياسي، طبعا المقصود السياسي الراشد، لقد نقلنا الدكتور في كتابه القيم ضمن رحلة شيقة في التاريخ من خلال المراجعة للمحنة ومحاولة الوصول للأسباب المختفية وراءها وهذا ما يحاول الكتاب إبرازه وبيانه جلياً واضحاً لحساب التاريخ كما قرر الدكتور في مدخله والكتاب بعد ذلك ملئ بالحوادث المتشابكة والمعقدة ويحوي قائمة طويلة من أسماء الإعلام بلغت (718) اسماً منها ما يذكر عشرات المرات، أما المراجع العربية فقد بلغت 164 مرجعا وبلغت المراجع غير العربية 27 مرجعا وقام بفهرسة لأسماء الفرق وأهل المقالات والمذاهب الإسلامية أو غير إسلامية وبلغت (45) فرقة منها ما ذكر عشرات المرات ولم يفهرس للاماكن وللآيات والأحاديث والأشعار .

والفكرة المحورية التي أرادها فهمي جدعان في دراسته القيمة هذه هي بيان صراع السلطة السياسية مع سلطة موازية تعتمد على العامة هي سلطة الديني أي سلطة أهل الحديث خاصة. فهما أي السلطة السياسية والسلطة الدينية طرفاً المحنة ومع الإشارة للعلاقة ما بين ثورة السفياني (195- 198) وسلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للوقوف أمام الفوضى في بغداد أثناء صراع الخليفتين الأمين والمأمون، وإذ تتوجت أعمال أهل الحديث بثورة أحمد بن نصر الخزاعي ومقتله بيد الواثق على تلك الصورة سنة (231 هـ) انتهي خطر أهل الحديث، ولهذا أصبحت الأجواء مهيأة لإعلان الانقلاب والعودة لرأي أهل الحديث في المسائل العقدية التي آثارها المعتزلة وخاصة مسألة خلق القرآن ولهذا ما أن توفي الواثق حتى أعلن أخوه المتوكل قراره بمنع المناقشة والمجادلة في تلك المسألة وغيرها، مع إبقاء أحمد بن حنبل وهو من أهم مراكز الخطر على الدولة العباسية في حالة سجن شرف في سامراء دون تمكينه من العودة لتحديث العامة تلك التي شكلت قلقا دائماً للمأمون .

والختام اللائق بهذا العرض القاصر عبارة أوردها الدكتور جدعان في بداية مدخله للكتاب إذ قال " وليس يخفى على أحد أن مسألة محنة خلق القرآن قد احتلت مكاناً فسيحاً في مصادرنا العربية وفي حياتنا الثقافية الاتباعية والحقيقة أن الذي بتابع الوقائع وينظر إليها من أجل الفهم فإن عليه أن يعد نفسه لحالة من الإعياء الشديدة.

وأخيراً هل في فتح هذه المسألة من جدوى أو نفع لأحد والجواب؟ إن الضرورة تحتم فتح هذه المسألة ليس لإشكاليتها العقدية في موضوع العدل، ولأهميتها في موضوع التوحيد وليس لحساب التاريخ أيضاً بل لضرورتها كمشكلة لا تزال تثير الشقاق بين الفرق الإسلامية المتواجدة والموزعة على العالم العربي ولقد كانت هذه المشكلة محوراً من محاور التكفير للإباضية في رسالة من ابن باز لطالب عربي يدرس في الولايات المتحدة مما حدا بالشيخ أحمد الخليلي أن يقوم بإصدار كتاب يعالج المسائل الثلاث: الرؤية وخلق القرآن وخلود العصاة من زاوية خلافية.

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

المراجع

1- أمين نايف ذياب: قراءة عجلى في كتاب المحنة " للدكتور فهمي جدعان " (مقال).

2- محمد يسري: محنة "خلق القرآن"... الخلاف العقائدي الذي استغله العباسيون لتعزيز سلطتهم (مقال).

3- محمد العبدالكريم: جدلية الديني والسياسي (مقال).

 

في المثقف اليوم