قضايا

قاسم أمين.. حرية محافظة وعقلٌ رشيد

حاتم السرويلم يكن قاسم أمين كما يراه كثيرون حتى اليوم (داعية الانحلال والهادي إلى الضلال)! بل كان مجددًا فكريًا وكاتبًا عقلانيًا ومصلحًا اجتماعيًا، دعا إلى حرية المرأة وإلى عفتها أيضًا؛ إنها الطبيعة ولا شيء غيرها؛ أن يكون المرء والمرأة والشاب والشيخ أحرارًا ومقيدين؛ فالحرية لا تمتد إلى ما لا نهاية؛ وإنما يقيدها ضابط الخلق والشرع والقانون، وإلا كانت همجية.

والآن.. هل تعرفون كتاب " المصريون " الذي وضعه قاسم أمين عام 1894م؟ لقد كان قاسم بك حينها مقيمًا في باريس، وفي الكتاب ومن كل سطرٍ فيه سوف تدرك أنه كتبه انطلاقًا من وازع الوطنية، وحَمِيَّةً لدينه وبلاده، وقد جاء هذا المصنف ردًا على النبيل الفرنسي (الدوق دراكور) الذي وضع كتابًا عن مصر وأهلها نظر فيه من علٍ إلى المجتمع المصري وهاجم الإسلام كدأب الكتاب الغربيين من قبله.

وإذا تأملنا تلك الروح السارية في عبارات قاسم، وهذه العاطفة الحارة التي ظهرت بوضوحٍ تام وهو يدافع عن وطنه ومواطنيه وعقيدته ندرك أنه كان صادقًا مرهف الحس، وإلى ذلك فنحن واجدون في هذا الكتاب عمق التأثر بالبيئة المصرية رغم الأصول التركية التي ينحدر منها المؤلف، وإن شئت فقل أنها أصول كردية، غير أنه في ذلك الوقت لم يكن أحدٌ من الناس يفرق بين الأتراك والأكراد الذين عاشوا في الأناضول، والذين كان منهم أمين ذاك الضابط القوي الذي أتحفنا برجلٍ أنصف النساء، وشارك في تأسيس أول جامعة مصرية.. إنها الجامعة الأهلية التي أصبحت جامعة فؤاد الأول، وهي الآن جامعة القاهرة.

وتبدو لنا في الكتاب إضافةً إلى ما سبق ذكره قوة إيمان المؤلف، وهو في دفاعه المخلص عن بلاده لم يكن يغفل عن مواطن الضعف داخل بنية المجتمع، وهذا الوعي هو الذي قاده فيما بعد إلى كتابة " تحرير المرأة " والذي أوضح لنا أننا بإزاء مصلح اجتماعي يحمل هم أمته وليس مجرد مثقف نخبوي يقرأ حتى يستفيد ويتسلى ويبقى الجهال سادرون في جهالتهم ويبقى الشعب ضائعًا وأعمى لا يعرف الخطأ من الصواب وحسبه لقمة عيشه فليبحث عنها ثم يموت!.

لقد خلط قاسم أمين همومه الشخصية بالهم العام، وقيل أنه أصدر كتابه عن تحرير المرأة عام 1899 بعد عودته من فرنسا بدافع من انبهاره بالغرب، والحق أن الرجل لم يخرج من جلده ولا انبهر بالغرب ولا احترم عاداته أصلاً حتى يدعو إليها، لقد دعا إلى تحرير المرأة لأنه كان لابد أن تتحرر، هذا كل ما في الأمر.

ونحن إذا توخينا دقة البحث وتحلينا بالأمانة العلمية فإنه من الضروري أن نوضح ذلك التطور الفكري الذي وصل إليه قاسم أمين في " تحرير المرأة " وما فيه من آراء جلبت على صاحبها النقد والهجوم واستهلكت جزءًا كبيرًا من طاقته في معارك عدة وعلى أكثر من جبهة.

غير أن الروح المحافظة والتي بدت قوية في " المصريون " لم تضعف ولم يخبُ ضوؤها في " تحرير المرأة " وهناك سمةٌ عامة في الكتابين وهي الاستناد إلى العقل والصدور عنه في الحكم على الأمور؛ فهو مثلاً في كتابه الأول لم يرَ أي تمييز بين الرجل والمرأة في مجتمنا الشرقي من ناحية الاختلاط؛ لأنه كما يُحْظَر على المرأة أن تختلط بالرجال؛ فإنه يُحْظَر على الرجل أن يختلط بالنساء، فهل أخطأ قاسم أمين؟! لم يقل شيئًا بخلاف الواقع أو ما كان واقعًا وقتها.

وعندما يدافع قاسم أمين في " المصريون " عن (الفضيلة الزاهرة) ويرفع أسهم مبادئ وأساسيات الحياة الزوجية عندنا على حساب الحياة الأسرية المفككة في الغرب؛ فهل قال إلا الصواب؟؟ وعندما يقارن بين الزواج الغربي الذي هو نهاية العلاقة الجنسية وبين الزواج الشرقي الذي هو بدايتها؛ فهل من التنوير والتقدم أن نصفه بالتطرف والجمود؟!.

ومن حسن الحظ أن (التنويريين) عندنا لم يقرأوا كتب قاسم أمين لأنهم لا يقرأون عادةً وإلا لما دافعوا عنه ولما اعتبروه المفكر الكبير والمصلح العظيم، ولو قرأوه فعلاً لجعلوا منه عدو المرأة وداعية الرجعية وشيخًا في ثيابٍ أوروبية!.

لقد أخبرنا قاسم بك أمين في كتابه الذي ألفه منذ 126 سنة عن خيبة الأمل التي تسكن الفتاة الأوروبية بعد الزواج حين تكتشف أن بعلها المصون غير مستعد للاستقرار، وفي المقابل أشار إلى السعادة الحقيقية التي تبديها الفتاة المسلمة عند الزواج وبعده، لأن بيتها مصدر أكيد للراحة والسكن، وتظل هي وزوجها يكرسان حياتهما للأبناء وتربيتهم.

يا دعاة المدنية والتنوير هل أخطأ قاسم أمين وهو ينتقد حضارة الغرب دونما هوادة ويشمئز من مظاهر تحللها الأخلاقي؟؟ هل أخطأ وهو يقارن بين النجاح الكبير في إنتاج المخترعات والفشل العظيم في إنتاج الرجال؟ تلك هي عبارته ولا نزايد عليه، فالغرب – كما يخبرنا- نجح في اختراع السيارة وفشل في تربية الإنسان!.

أبدًا لم يخطئ قاسم أمين وهو ينكر على حضارة أوروبا إهمالها لتوعية القلوب، وهدمها للمعتقدات، وإغفالها للنشاط الروحي، وتأكيدها المطلق على المادة، وإنكارها للفردوس الأعلى؛ حيث الجنة الوحيدة الممكنة عندها هي على الأرض كما يزعمون.

ولم يجانب كاتبنا الصواب وهو يصرح بغضبه من نظرية التطور، والتي حاصلها دون ثرثرة ولا جدال أن الإنسان أصله قرد، وأي التفاف على هذا المعنى هو نوع من السفسطة، ولم يكن قاسم أمين متطرفًا حين هاجم النفعية ومقولة " إن عين الحكمة أن يشبع المرء كل رغباته ".

وأكثر من كل ما سبق نقول أن قاسم بك أوضح أن الغربيين ينشرون الرذائل أينما حلوا، وأنه ليس في مجتمعهم محبة ولا ترابط، ثم جعل يذكر أوروبا بفضل الشرق عليها وأنه الصانع الحقيقي لحضارتها.

والسؤال الآن: هل غير قاسم أمين وجهته ونكص على عقبيه؟ هل أصابه التناقض؟ أبدًا أبدًا، إن قاسم أمين في " المصريون " هو قاسم أمين في " تحرير المرأة " وما دعا إلى تحرير المرأة إلا بدافع الحرص على بلاده وحب الخير لها، ولم يخرج من عباءته المصرية ولم يتنكر لتعاليم شريعته؛ بل كان قوي الإيمان إلى درجة أنه أصيب بالحمى بعد أن قرأ كتاب الدوق دراكور وما فيه من الهجوم المقذع على مصر والإسلام.

لقد عارض قاسم أمين وانتقد أوجه الخلل والقصور عندنا بدافع من حبه لنا، ودافع بشراسة عن وطنه ودينه أيضًا لحبه لنا، وعندما تحمس في الرد على دراكور لم ينسَ أن بلادنا لا حرية فيها ليس للمرأة فقط بل للرجل أيضًا، ولم ينس أن الحرية هي قاعدة الترقي للنوع الإنساني ومعراجه الأبدي إلى السعادة.

وأكثر من هذا فإن قاسم بك رحمه الله كان يعلم أن الدوق على صواب في بعض ما ذهب إليه؛ خصوصًا في موضوع علاقة المواطن بالحكام وأوضاع الفلاح والتعليم والمرأة والفقر والجهل والمرض والبلاء المبين الذي يبدو أن مصر كانت على موعدٍ معه، ومع هذا فإن المصلح الاجتماعي لم يشأ أن يساير النبيل الفرنسي في هجومه على وطنه حتى فيما رآه ولا زلنا نراه صوابًا؛ بل وقف موقف الرجال ودافع عن أمته ببسالة ثم انتقدها في كتابٍ آخر، وجاء هذا النقد بعد تفكيرٍ سليم وتبصر بمواضع العجز والفشل، لذلك نقول أن قاسم أمين تطور ولم نقل أنه تغير.

والخلاصة أن كتاب الدوق دراكور كان صدمة قوية لقاسم أمين؛ صدمة جعلته يهاجم الكتاب ومؤلفه، وجعلته أيضًا يفكر فيما جاء به، لقد دافع كرجل عن وطنه ودينه، ثم نصح لوطنه وأحبابه كرجلٍ أيضًا، ولعمري فإن هذا هو التنوير الحقيقي.

 

حاتم السروي

 

 

في المثقف اليوم