قضايا

معن زيادة وموقفه من الفكر المصري الحديث والمعاصر (3)

محمود محمد عليتعود ونكمل حديثنا عن موقف معن زيادة من الفكر المصري الحديث والمعاصر ؛ وهنا في هذا المقال ننتقل للحديث عن الاتجاهات الفلسفية التي جاءت بعد ذلك، فقد شهدت الساحة في فكرنا الفلسفي العربي في علاقته بالفكر الفلسفي الغربي ظهور ثلاثة أطراف رئيسية كما يقول معن زيادة وهم : فريق يرفض الفلسفة الآتية من الغرب، وفريق يقبلها، وفريق يقوم بالتوفيق مقدماً مركباً فكريا جديداً وقد يحمل آفاق حل أو أفاق خروج من المأزق (1).

أولاً: الفريق الأول يمثل التيار الذي يضم كل المذاهب والاتجاهات الفكرية التي تعارض الأخذ عن الغرب والتأثر بتجربته إلا في حدود ضيقه، بدءاً من السلفية الوهابية وانتهاء بالحركات الأصولية الجديدة وهذه المجموعة من الاتجاهات تري في الثقافة الغربية خطراً داهماً يتهدد الفكر العربي والفكر الإسلامي عل حد سواء. وتعتبر الحركة الوهابية التي ظهرت في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر الميلادي، الحركة المؤسسة والمرجع الأول الملهم لكافة الحركات السلفية والأصولية التي ظهرت بعدها، بما في ذلك الحركة المهدية في السودان، والحركة السنوسية في ليبيا، وحركة المير عبد القادر الجزائري في الجزائر، إضافة إلي حركات أخري ورجال إصلاح كثيرين من أمثال جمال الدين الأفغاني، ورشيد رضا، وشكيب أرسلان وآخرين (2).

ويجمع بين هؤلاء جميعا كما يؤكد زياه، حركات وأفرادا، وجهة النظر القائلة بأن تخلف العالم الإسلامي، بما فيه الوطن العربي، إنما يعود إلي تخلي المسلمين عن المبادئ الإسلامية . وقد يكون السبب الرئيسي لهذا التخلي تسرب الأفكار والمبادئ الغربية إلي الفكر والحياة في المجتمعات الإسلامية. ومن هنا كانت المهمة الأساسية التي نذر هؤلاء أنفسهم لها إنما هي تطهير العقيدة الإسلامية من العناصر والأفكار الغربية، ومعارضة التأثيرات الغربية التي وجدوا فيها خطرا يهدد مستقبل شعوب العالم الإسلامي (3).

كان هذا الخطر الغربي في نظر زياده هو العامل الأساسي الذي دفع بالمفكرين الأصوليين إلي مناهضة الفكر الغربي الفلسفي علي وجه الخصوص، ومن هنا كان اهتمام المشتغلين بالفلسفة من هؤلاء محاولة تأصيل الفلسفة العربية الإسلامية . وكان من شأن هذه المحاولة أن تذهب في اتجاهين : الأول هو معارضة المستشرقين ودعواهم القائلة أن الفلسفة العربية الإسلامية لم تكن أكثر من شروحات وإضافات قليلة إلي الفلسفة اليونانية، والثاني مواجهة الفقهاء المسلمين علي وجه الخصوص الذين يزعمون أن الفلسفة هي صرب من ضروب الهرطقة لا غير (4) .

كان أول من حمل لواء هذه الدعوة في اتجاهيها ضد المستشرقين ومخالفة للفقهاء كما يقول زياده، الشيخ مصطفي عبد الرازق _1885-1946) المفكر وأستاذ الفلسفة الذي درس في جامعة القاهرة والذي كان شيخاً للأزهر ووزيرا للمعارف في مصر بعد ذلك . وإبان تدريسه في جامعة القاهرة في الثلاثينات من هذا القرن، صاغ مصطفي عبد الرازق ما يمكن تسميته بالموقف الفلسفي الإسلامي الأصولي، وذلك في كتابه الشهير " تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية "، حيث عرض بالشرح لمهمته المزدوجة الاتجاهات . فمن جهة يبين عبد الرازق أن الغرض من كتابه هو الرد علي ادعاءات المستشرقين القائلة بأن الفلسفة الإسلامية ليست أصيلة وأنها مأخوذة من مراجع اجنبية هي المراجع اليونانية بالدرجة الأولي . ومن جهة أخري يبين لنا صاحب التمهيد أنه يرفض وجهة النظر الإسلامية السائدة الرافضة للفلسفة والمزدوجة لمقولة " من تمنطق فقد تزندق" (5).

ولكي يوضح عبد الرازق أن الفلسفة الإسلامية أصيلة من جهة وأنها تشكل جزءا أساسيا من الفكر الإسلامي كما يقول زياده فإنه يلجأ إلي المنهج التاريخي، فهو يحجب عن الدخول في مهاترات كلامية ومجادلات مع أي من الطرفين المذكورين، المستشرقين من جهة والفقهاء من جهة اخري، وينصرف إلي الوقائع التاريخية يبين من خلالها أن المستشرقين عندما تعمقوا في دراسة الفلسفة الإسلامية وفهمها تبدلت مواقفهم وتعدلت، وأخذت غالبيتهم تري في هذه الفلسفة أصالة وفرادة وإبداعا، بعد أن كانوا يعتبرونها نسخة غير أمينة عن الفلسفة اليونانية . وتتميز النظرة الجديدة للفلسفة كما يفهمها عبد الرازق باعتبار علم الكلام وعلم أصول الفقه، إضافة إلي التصوف، الجزء الأهم من الفلسفة العربية الإسلامية، وان الإسلام علي العموم والقرآن علي الخصوص لا يشكلان عائقا أمام التفكير العقلاني والتفكير الفلسفي كما كان يدعي بعض المستشرقين (6).

ويعتمد عبد الرازق غب نظر زياده المنهج التاريخي نفسه في الرد علي الإسلاميين الذين رفضوا الفلسفة وحاربوها، عندما نظروا إليها من وجهة نظر فقهية ضيقة، وليس من خلال تفكير إسلامي واع ومنفتح، ويشير عبد الرازق في هذا الصدد إلي الغزالي الذي لم يرفض ضروب الفلسفة كلها بل بعضها فقط، واعتمد الفلسفة والتكفير الفلسفي سلاحاً يذود به عن عقائده وأفكاره . وهنا يري عبد الرازق أن المستشرقين والإسلاميين علي حد سواء، لم يتمكنوا من فهم الفلسفة الإسلامية علي حقيقتها، لأنهم لم يعتمدوا المنهج التاريخي، وبالتالي لم يتمكنوا من صياغة منهج تاريخي . وهو يري أن هذا المنهج هو المنهج الوحيد الذي يكشف لنا عن أصالة التفكير العقلي في الإسلام ، حتي قبل انفتاحه علي الفكر اليونانب والتأثر به . كما يكشف لنا أن هذا التفكير العقلي الإسلامي تمكن من أن يتطور ليصبح فلسفة حقيقية مبتكرة وفريدة، عمودها الفقري فلسفة الأصوليين من المتكلمين وكبار الفقهاء (7).

وسار علي خطي عبد الرازق كما يقول زياده تلميذه علي سامي النشار الذي اعتبر فلسفة مفكري علم الكلام وأصول الفقه، الفلسفة الإسلامية علي الحقيقية . إلا أن النشار يختلف عن أستاذه في إصراره علي أن علم الكلام وأصول الفقه دون غيرهما هما الفلسفة الإسلامية، فعلم الكلام عنده هو الميتافيزيقا الإسلامية، في حين أن علم أصول الفقه هو علم المنطق الإسلامي والمنهج الإسلامي في البحث، بما في ذلك اكتشاف المنهج التجريبي الذي سبق المسلمون الأوربيين إلي اكتشافه، إلا أن الأوربيين أفادوا منه في مكتشافاتهم العلمية الجديدة فمكنهم ذلك من أن يصبحوا سدنة الحضارة العالمية اليوم (8).

ويستطرد زياده فيقول :" يمضي النشار إلي أبعد من ذلك، زاعما أن روجرز بيكون وفرنسيس بيكون، إضافة إلي جون ستيوارت مل وغيرهم، أخذوا منهجهم التجريبي عن الفقهاء العرب والمسلمين . أولئك الفقهاء الذين رفضوا المنطق الأرسطوطاليسي، والفلسفة اليونانية جملة، لعدم توافقها وتلاؤنها مع التفكير الإسلامي . وهذا يعني في جملة ما يعنيه أن ما تعارف الناس علي تسميته بالفلسفة الإسلامية، أي فلسفة الكندي وابن سينا والفارابي وابن رشد وغيرهم، ليست هي الفلسفة الإسلامية الأصيلة والمبتكرة، وما الفلسفة الإسلامية الحقيقية إلا فلسفة علماء الكلام وأصول الفقه (9) "؛ ويوضح النشار موقفه في كتابيه نشأة التفكير الفلسفي الإسلامي ومناهج البحث البحث عند المفكرين المسلمين واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، مؤكدا أن المسلمين لم يكونوا بحاجة إلي الفلسفة اليونانية في ماضيهم ولن يكونوا بحاجة إليها في حاضرهم ولا في مستقبلهم، وأن الفلسفة التي يحتاجها هؤلاء هي فلسفة الإسلام، فلسفة العلوم الإسلامية ، وكل ما عدا ذلك فهو دخيل وغير ملائم للإسلام والمسلمين (10).

ويعتبر حسن حنفي في نظر زياده، أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة، نفسه رائداً لهذا الاتجاه الأصولي في الفلسفة العربية الإسلامية، وقد أشار إلي ذلك في مقدمة كتابه الجديد من العقيدة إلي الثورة الذي حاول فيه أن يقرأ الحاضر من خلال الماضي، وان يصوغ بناء علم الكلام أو علم اصول الدين القديم علي ضوء الظروف الراهنة، مقدماً بذلك أيديولوجية جديدة للشعوب الإسلامية – بما فيها العرب – تحاول بواسطتها مواجهة التحديات العصرية الأساسية (11).

ثانيا: والفريق الثاني يضم جميع المدارس والمذاهب والاتجاهات التي تمثل تيار التوجه نحو الغرب وتبني أفكاره وأخذ ثقافته ونقلها كما يري زياده ؛ وهو تيار لا يتحاور مع الثقافة العربية ولا يعتبرها الأساس الذي يجب أن نبني عليه ما نقتبسه ونفيده من الغرب . فقد استعار أصحاب هذه المدارس والمذاهب أفكارا غربية وتبنوها وحاولا الترويج لها في البلاد العربية، متناسين الظروف التاريخية التي نشأت فيها هذه الأفكار والبيئات الخاصة التي أنتجتها، ومتجاهلين الحاجات الثقافية الأساسية للمحيط الذي يروجون لأفكارهم الجديدة فيه . لقد دعوا لأفكار ومذاهب، ولم يعنوا أنفسهم بتطويرها حتي تصبح ملائمة للمحيط الجديد الذي يحاولون فيه وللبيئة الجديدة التي يحاولون زرعها فيها (12).

ويصدق هذا علي التيار المادي الذي تبناه شبلي شميل وآخرون غيره، كما يصدق علي وجودية عبد الرحمن بدوي ووضعية زكي نجيب محمود المنطقية كما يري زياده، فما يجمع هؤلاء أنهم حاولوا زرع بذور أفكار جديدة في تربة جديدة دون البحث في الشروط الملائمة لنمو هذا الزرع الجديد . فقد تجاهلوا ظروف المجتمع العربي التاريخية والثقافية، حيث يهيمن التكفير الديني والغيبي، فكانوا بذلك أوفياء لأفكارهم ومذاهبهم الجديدة أكثر مما هم أوفياء لمجتمعهم وثقافته وحاجاته ومتطلباته (13).

ونوضح هذا يقول زياده أن هذه التيارات وغيرها لم تفعل أكثر من نقل بعض الأفكار الغربية والدعوة إليها والتبشير بها، فلم تبحث في السباب التي تجعل الأفكار الدينية والغيبية مسيطرة، ولم تبحث في الشروط الملائمة لقبول الأفكار الجديدة حتي تكون مجدية وفاعلة . ومن هنا فشلت هذه التيارات في تحقيق أي نجاح يذكر، ناهيك عن فشلها في تقديم الحلول الناجعة للمشكلات النظرية والعملية التي يعاني منها الفكر العربي والوطن العربي . ولقد بقيت هذه الاتجاهات والتيارات علي هامش الحياة العربية ولك تترك أي أثر يذكر علي الحياة الفكرية والثقافية، ويكفي أن نشير هنا إلي أن بعض الذين حملوا هذه الأفكار تخلوا عنها أثناء حياتهم وانصرفوا إلي اهتمامات ثقافية أخري تدخل في عداد الموروث الثقافي، دون تكليف أنفسهم عناء محاولة التوفيق بين أفكارهم السابقة واهتماماتهم اللاحقة، وهو ما يصدق علي عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود علي وجه الخصوص (14).

ثالثا: والفريق الثالث والاخير ويضم جميع الاتجاهات والتيارات التوفيقية في الفكر العربي . ويتضح ذلك من خلال الاتجاه العقلاني المزعوم كما يري زياده، موقف يوسف كرم المتوفي سنة 1959، فقد كان موقفا عقلانيا في الظاهر فقط : فتحت ستار العقلانية : قدم لنا يوسف كرم فلسفة أرسطية في ثوب جديد، وهو ما فعله كثيرون من أبناء الرعيل السابق من أساتذة الفلسفة، مثل شارل مالك المتوفي سنة 1987، وغيره ممن هم علي قيد الحياة، فقد قدموا لنا تحت ستار العقلانية تفكيرا دينيا دوغمائيا مختلطا بالأرسطية والديكارتية علي وجه الخصوص (15) .

كذلك يدخل في هذا الاتجاه تيار المثالية كما يري زياده، وهو تيار يضم عدة اتجاهات فلسفية يجمعها تأثرها بالمثالية القديمة بدءا من أفلاطون مرورا بالغزالي وبرغسون وغيرهما . وقد حاول ممثلوا هذا الاتجاهات صياغة مواقف فلسفية توفيقية أحيانا، وتلفيقية غاليا، تضم أفكارا فلسفية مثالية غربية إلي جانب أفكار دينية إسلامية، علي طريقة محمد عبدة وغيره، وتدخل في هذا العداد وجدانية عباس محمود العقاد وجوانية عثمان أمين (16).

تؤكد وجدانية العقاد كما يري زياده أن الحقيقة الكلية لا يمكن أن تدرك إلا عبر الوجدان والشعور الوجداني، فلا الحس ولا العقل يمكنهما إدراك هذه الحقيقة . صحيح أن الحس والعقل هما أداتان ضروريتان لفهم العالم حولنا، إلا أنهما يعجزان عن كشف الحقيقة، ولا سيما الحقيقة الكلية . ومن الواضح هنا تأثير المناهج المثالية السابقة كمنهج الاستبطان الأفلاطوني ومنهج الكشف عند الغزالي علي هذا النمط من التفكير (17).

وتعتبر جوانية عثمان أمين أن الروح هي القوة الأساسية الفاعلة في العالم كما يري زياده؛ ومن هنا فإنها تناشد الإنسان أن يقدم الروح علي الجسد أو أن يعني بالداخل الجواني قبل الخارج البراني، معتبرا أن أزمة عصرنا تكمن في تقديم البراني علي الجواني، وفي عدم إقامة توازن وتناغم يخضع الجسد للروح . وهو موقف عرفناه دائما عند الاتجاهات المثالية التقليدية (18).

كذلك يدرج معن زيادة في هذا الاتجاه التوفيقي المدرسة التكاملية في علم النفس، ولا سيما تكاملية يوسف مراد التي اهتمت بدراسة العلاقة بين الظواهر النفسية والظواهر الفسيولوجية، معطية لهذه العلاقة بعدا فلسفيا، ويمكن تلخيص وجهة نظر هذه المدرسة علي الشكل التالي: هناك أمور مشتركة بين الكائنات الحية جميعها بدءا من النبات مرورا بالحيوان وانتهاء بالإنسان وهو الحيوان العاقل، وأهم هذه الأمور النمو والتطور . ومن هنا فإن درجات النمو والتطور يجب أن تدرس في جميع مراحلها، مع مراعاة الظروف الزمانية والمكانية، إذا ما أردنا فهم الظواهر النفسية، وبالتالي الظواهر الاجتماعية والحياتية عموما، والمنهج الأمثل لدراسة من هذا النوع هو المنهج الديناميكي الذي يعني بالحركة والتقدم . وهذا المنهج هو الذي يبين لنا أن الحركة تسير في خط دائري لولبي وليس في خط مستقيم، وأن تقدم هذه الحركة كثيرا ما تقطعه انتكاسات وردات إلي الوراء وفترات من الكمون، إلا أن التقدم هو المحصلة النهائية لهذه الحركة، وباختصار فإن التكامليين يؤمنون بالتقدم، وأن لهذا التقدم غاية محدودة وهي بلوغ الكائن الحي اكتماله وكماله، حيث يختلط النفسي بالماورائي في كل موحد بعد ان اختلط النفسي بالعضوي في كل موحد قبلا (19).

وثمة نقطة مهمة يؤكد عليها معن زيادة وهو أن التيار القومي العربي، وما تلاه من حديث عن الاشتراكية العربية، يدخل في عداد الفكر التوفيقي

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

..................

1-معن زيادة : الفلسفة العربية الحديثة والمعاصرة بين الابداع والاتباع، الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، مج 10 ,ع 5، 1989،، ص 11.

2- نفس المصدر، ص 11.

3- نفس المصدر، ص 12.

4- نفس المصدر، ص 12.

5- نفس المصدر، ص 12.

6- نفس المصدر، ص 13.

7- نفس المصدر، ص 13.

8- نفس المصدر، ص 14.

9- نفس المصدر، ص 14.

10- نفس المصدر، ص 14.

11- نفس المصدر، ص 15.

12- نفس المصدر، ص 15.

13- نفس المصدر، ص 15.

14- نفس المصدر، ص 17.

15- نفس المصدر، ص 17.

16- نفس المصدر، ص 11.

17- نفس المصدر، ص 10.

18- نفس المصدر، ص 10.

19- نفس المصدر، ص 17.

 

في المثقف اليوم