قضايا

قصة الشتات اليهودي الأخير وخراب الهيكل

حاتم السرويلم يكن وجود اليهود في فلسطين قديمًا أكثر من جملة اعتراضية، هذا ما وعيناه منذ الطفولة الباكرة، والتاريخ يشهد بذلك منذ أن وفد الكنعانيون من جزيرة العرب إلى فلسطين، وبنوا فيها  "أور سالم" والتي تعني منشأة سالم، وهو الاسم الذي يظهر في الرسائل الفرعونية المكتشفة في " تل العمارنة " بمحافظة المنيا المصرية، وسالم أو شالم هو اسم الإله الكنعاني حامي المدينة وهو أيضًا إله الغسق، وقيل: بل المعنى  مدينة السلام، وقد ظهرت هذه التسمية مرتين في الوثائق المصرية القديمة: حوالي سنة 2000 ق.م و1330 ق.،  ثم إنه ما لبثت تلك المدينة، وفقًا للتوراة نفسها  وتحديدًا في سفر الملوك الثاني، أن اتخذت اسم "يبوس" نسبة إلى اليبوسيين، وهم فرع من الكنعانيين، وتذكر بعض المصادر التاريخية أن الملك اليبوسي "ملكي صادق" هو أول من بنى يبوس أو القدس، وكان محبًا للسلام، حتى أُطلق عليه "ملك السلام" ومن هنا جاء اسم المدينة.

وكما دخل اليهود فلسطين خرجوا منها، واستمر تاريخها وكأنها لم تعرفهم ذات يوم. وفي خروج اليهود من فلسطين مفارقات لا يجدر بنا أن نمر عليها مرور الكرام، حيث كل الوقائع تشير إلى بطلان الحق المزعوم لشذاذ الآفاق، فقد خرجوا من القدس لأن بقائهم فيها كان ضد الطبيعة، بل وضد إرادة الله جل شأنه، ولأن إرادة الله لا يقف أمامها عائق، ولا تعجزها قدرات البشر، لذا كان خروج هؤلاء الناس آية وعبرة، و خروج المنتسبين إليهم في عصرنا حقيقة يؤيدها العقل ويؤكدها الواقع، فهل من الممكن أن تستمر إسرائيل في هذا المحيط العربي الهادر؟.

 ومهما تسارعت عجلة التطبيع، ومهما نعمت إسرائيل بحماية الكيانات الكبرى، فهي إلى زوال، وزوالها حقيقة علمية حتمية، ويؤمن بها مفكرون وخبراء في الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل نفسها، وبحسب كلامهم فإنه على أقصى تقدير لن تزيد حياة إسرائيل منذ بدايتها عام 1948 أكثر من قرن ونصف، وربما كانت أقل من ذلك، وإنما جاء القرن ونصف على وجه التحديد بافتراض أن الأمور سوف تكون على ما يرام! أما إذا عكر صفوها حادث فإن النهاية سوف تأتي سريعًا، فانظروا إلى هذا الكيان المسخ، كيف أنه ولد ليموت، وما القرن في عمر الزمان؟.

 لقد كان وجود العبرانيين قديمًا في أرضنا لحظة عابرة، وبقاء الصهاينة الآن هل يكون أكثر من تلك اللحظة؟ ربما كان من المناسب أن نرى تاريخ سقوط الهيكل والخروج اليهودي الكبير عام 70م  لنعرف أن قوة اليهود أكذوبة روج لها الثعالب حتى يصدقها الحمير. وهكذا بدأت الحكاية:

في عام 36م تقدم أبناء الطائفة السامرية الساكنون في أرض شكيم أو " نابلس " بشكوى إلى الوالي "مثيلوس" حاكم سوريا من قبل الرومان، يتهمون فيها "بيلاطس البنطي" والي فلسطين بالعنف والقسوة في معاملتهم، وبيلاطس هذا هو الذي صُلِبَ المسيح في عهده حسب رواية الإنجيل، ولما جاءت الشكوى إلى حاكم سوريا عين "مارسيلوس" بدلاً من بيلاطس الذي تم استدعاؤه إلى روما.

ثم إن الإمبراطور تيبريوس قيصر مات سنة 37م، واعتلى العرش الإمبراطور "كاليجولا" الذي أنهى خدمة "مارسيلوس" وعين بدلاً منه "مارولُّوس"، وكان اليهود يتمتعون بما يشبه الحكم الذاتي منذ عهد "المكابيين" أو الأسرة الحشمونية  الذين جاء بعدهم "الهرادسة " والهرادسة جمع "هيرودُس" حيث كان الحاكم اليهودي يتخذ هذا اللقب، على أن حكام اليهود في تلك الفترة لم يكونوا خالصين في (إسرائيليتهم) حيث كان أبوهم هيرودس أنتيباتر أدومي الجنس من ناحية أبية، والأدوميون هم أحفاد العيص بن إسحاق بن إبراهيم، وهو الشقيق التوأم للنبي إسرائيل أو يعقوب، وهنا نرى عن كثب إلى أي درجة وصلت العنصرية عند اليهود، فهم ينقمون على ملكهم أنه من نسل عمهم الذي نزل أبوهم في عقبه فسمي لذلك يعقوب! وكلمة أدوم تعني الأحمر وسمي العيص أدومًا لأنه كان أبيضًا مشربًا بحمرة فكأنه مشتعل البشرة! ثم إن هيرودس المذكور كانت أمه عربية، مما زاد الطين بلة، وأصبح الملك محل غضب من المغضوب عليهم! ولذلك بنى لهم الهيكل في القدس علَّهم يرضون عنه، وكان نبوخذ نصر قد دمر هيكلهم الأول ولما عاد بعضهم من السبي البابلي أعاد بناءه أحد أحبارهم فسمي لذلك بـ "هيكل زروبابل" وكان بناءً متواضعًا لا يضاهي ما بناه الملك سليمان، فأعاد هيرودس بناءه ليقدم رشوة تاريخية كبرى لكهنة اليهود حتى يرضوا عنه، وهذا الهيكل الذي تعب الملك في جمع مواد بناءه على مدار ستة أعوام، وفي تشييده حتى يرضى عنه اليهود، كان علامة النكبة التي حاقت بهم، إذ لم يبق فيه موضع حجر، وتم هدمه من الأساس، ولا يُعرف حتى الآن موقعه، وإمعانًا في مذلتهم بنى الإمبراطور هادريان في موقعه معبدًا للإله الروماني "جوبيتر" ثم تهدم المعبد مع مرور الزمان، وأصبح مستحيلًا أن يعرف اليهود أو غيرهم مكان الهيكل الذي بناه لهم ملكهم بالأحجار والأخشاب والنحاس والحديد بل وأدخل في بناءه الذهب والفضة!.

نعود فنقول أن الإمبراطور كاليجولا لما ولى "مارولُّوس" على فلسطين، تولى في نفس الفترة على اليهود "هيرودس أجريباس الأول" والذي كان له ولد يسمى أجريباس أيضًا، ويحدثنا المؤرخ اليهودي يوسفيوس بن جوريون (يعرف أيضًا باسم يوسفيوس فلافيوس) عن أجريباس الأول فيقول أنه كان محمود السيرة حسن السلوك، وكانت مدة حكمه 23 سنة، وفي عهد ابنه أجريباس الثاني قامت ثورة يهودية كبرى عجلت بزوال دولة بني إسرائيل الصغيرة التي كانت خاضعة لحكم الرومان، بل وبزوال جنسهم الذي قتل أغلب أفراده وذابت بقيتهم في البلاد التي هاجروا إليها، تلك هي الحقيقة التي لا يدركها بعض العرب أو فلنقل أكثرهم مع الأسف، وهي أن اليهود الموجودين حاليًا ليسوا من نسل إبراهيم وإسحاق، ولا يجمعهم باليهودية إلا ما يجمع المسلمين بالإسلام، بمعنى أوضح أن اليهودية الآن ديانة وليست قومية، فإذا كان اليهودي ملحدًا فقد زال أي ارتباط بينه وبين فلسطين، وتصبح إسرائيل "العلمانية" بذلك أكبر أكذوبة عرفها تاريخ البشرية، دجل عظيم لم تنتجه أساطير الشرق هذه المرة، ولكن مع الأسف أنتجته الحضارة الغربية الحديثة!.

وتلك هي قصة دمار الهيكل وشتات اليهود بالتفصيل: يخبرنا يوسفيوس في تاريخه أن "كلاوديوس قيصر" الإمبراطور مات في زمان أجريباس الثاني وحكم بعده على روما الطاغية نيرون، وكثرت الفتن والحروب في أنحاء اليهودية بل وفي الشام كله، وتحرك الخوارج وزادت الشرور وكثر الفسق والظلم والغش والقتل، وانقطعت السبل، وخاف الناس شر الطريق، وعلت كلمة الأشرار، وخفي الحق، ولم يستقم لأجريباس حال. وبعبارة يوسفيوس اليهودي: ولم يزل الشر يزيد والخير ينقص والبلاء يعظم.

وبدأ تمرد اليهود في فلسطين على الرومان بالتزامن مع تمرد اليهود في الإسكندرية، فيما قد يظهر لنا وجود اتفاق بينهم، وفي عين اللحظة الحرجة كانت هناك اضطرابات أخرى قد عمت الإمبراطورية الرومانية بعد مقتل كاليجولا سنة 41 م، وأصل الفتنة أن اليهود كانوا قد تقدموا إلى كاليجولا المذكور بطلبات من ضمنها منحهم الحق في حرية العبادة وفقًا للشريعة الموسوية لأن الإمبراطور أمرهم أن يعبدوه! وطلبوا أيضًا أن يمنح يهود الإسكندرية حق المواطنة فيكونوا هم والروم والإغريق على السواء لا فرق بين الجميع، ولما كانت فكرة الألوهية قد سيطرت على مجامع التفكير عند كاليجولا وهو نفسه صدق أنه إله وانتابته حالة (بارانويا) لا يرجى لها شفاء، لهذا جاء رد الإمبراطور في منتهى القسوة.

وجاء اغتيال كاليجولا نتيجة طبيعية لاضطرابه وقسوته، وتولى بعده نيرون فكان أسوأ منه وأكثر اضطرابًا كما هو معروف، وحدثت في عهده فتنة كبيرة بين اليهود والرومان بسبب الكاهن حنانيا وابنه "أليعازر" وذلك لأن فيلكس الوالي الروماني تعدى على اليهود وبطش بهم، ولهذا قتل اليهود كثيرًا من جنوده، فهرب إلى الإسكندرية، وقابل أجريباس وهو عائد من روما حيث كان قد ذهب إليها لمقابلة نيرون، ولما علم أجريباس بخبر الفتنة سار بجيشٍ كبير من الرومان إلى أورشليم، وحاول في البداية أن يهدئ من غضب اليهود لأنه يعلم قوة روما، وأن العبرانيين مهما فعلوا لن يستطيعوا هزيمة أقوى دولة في العالم وقتئذٍ، وخطب أجريباس في اليهود، فكان من كلامه الذي نقله يوسفيوس اليهودي:

" قد فهمت ما ذكرتم من أذية الروم لكم، ولكن لا حيلة لنا فيهم ولا قدرة لنا عليهم، ولا طاقة لنا بهم، ولابد لنا من مداراتهم لأن الله سلطهم على الدنيا، وأذل لهم الأمم، وأخضع لهم الممالك، حتى أطاعهم جميع من في الشمال إلى حيث جبل الثلج المقيم الذي لا يمكن للناس أن يتجاوزوه (يعني أن أوروبا كانت في أيديهم حتى وصلت حدودهم إلى القطب الشمالي) وأطاعهم من في جهة المشرق، ومن في جهة المغرب إلى البحر المحيط. وما نحن أكثر رجالاً من هذه الأمم ولا أعظم بأسًا من جميع هؤلاء الذين غلبتهم الروم."

ولما فرغ أجريباس من كلامه أطاعه أكثر اليهود، وبقي "إليعازر بن حنانيا" ورفاقه ينفخون في نار الفتنة ويشعلون الصراع قدر جهدهم، وكان الإمبراطور نيرون قد أهدى إلى الهيكل بعض الهدايا حتى يستميل اليهود، فأخرجها إليعازر وقال إنها نجاسة! وللأسف تمكن إليعازر من الانتصار على جيش أجريباس واستولى على أورشليم وأحرق قصر الملك وأيضًا قصر أبيه أجريباس الكبير.

وفي الوقت نفسه وقعت فتنة بين اليهود والسُرْيَان (وكان السريان آنذاك في حلب والغور ودمشق، ولا يزالون موجودين وهم إحدى أكبر الطوائف المسيحية في العالم ولهم لغة خاصة يقيمون بها شعائرهم الدينية) وبحسب رواية المؤرخ يوسفيوس - وهي رواية تحتاج إلى تحقيق لأن صاحبها يهودي- فإن السريان كانوا قد احتالوا على اليهود وقتلوهم في قيصرية ودمشق، ولما علم يهود أورشليم بذلك جمعوا جيشًا واتجهوا به إلى دمشق وقضوا على من كان فيها من السريان ثم عادوا بغنائم كثيرة، ويبدو هنا الاتجاه الدموي لدى اليهود، وكل التاريخ اليهود مكتوب باللون الأحمر مع الأسف.

وفي سنة 66 م صادر حاكم فلسطين الروماني 17 (تالنت) من خزانة الهيكل مقابل ضرائب متأخرة لم يدفعها اليهود، وكان الرومان قد سئموا من تمرد اليهود عليهم بين كل فترة والأخرى، وثوراتهم بسبب أو من غير أسباب، وجاء الرد اليهودي على المصادرة في رفضهم الذبح في الهيكل من أجل سلامة الإمبراطور، وسرعان ما تحول هذا الموقف إلى ثورة كبرى ترأسها الكهنة والأحبار، وسار خلفهم بقية الشعب مثل أغنام القطيع.

ولهذا أرسل نيرون قائده "فسبسيانوس" للقضاء على التمرد اليهودي، وفي أثناء حملة القائد المذكور مات نيرون، ونادى الجيش بالقائد فسبسيانوس ليكون إمبراطورًا، وكان أول من نادى بذلك الجنود والضباط في الفرقة الرومانية بمصر وأيضًا واليها "تبريوس يوليوس" ذو النشأة السكندرية، ولهذا فقد سار الإمبراطور الجديد إلى الإسكندرية وتم استقباله بحفاوة، ثم أوكل مهمة القضاء على التمرد اليهودي إلى ابنه "تيتوس" ليتفرغ هو لترسيخ حكمه مستعينًا برومان الإسكندرية.

وجعل تيتوس والي مصر "تيبريوس يوليوس" رئيسًا لأركان جيشه المتجه إلى أورشليم، كما رافق هذا الجيش المؤرخ اليهودي " الكاهن يوسفيوس بن جوريون" وكان من قادة التمرد فلما رأى قوة الرومان وقع في قلبه رعبٌ عظيم وسلم نفسه لهم وأصبح من أعوانهم! وقدر الله له أن يصبح شاهدًا على نهاية اليهود، وأن يصبح مؤرخًا لينقل إلينا بالتفصيل كل وقائع اللحن الجنائزي وكيف دخلت الأمة اليهودية إلى حظيرة العدم فلم ينج منهم إلا قليل، وكيف جاءت الخاتمة لهذا الشعب الأرعن الذي حارب الله وقتل أنبياءه فكانت نهايته عبرة وقل من يعتبر.

وكان يوسفيوس قائدًا لليهود في طبرية والجليل وهو من البداية مشكوك في ولائه، ولكن لأن الجناح الراديكالي المتعصب في الجيش لم تكن لديه أية خبرة عسكرية أو سياسية، لذا رأيناه يوكل أهم المناصب العسكرية إلى يوسفيوس الذي استسلم للرومان دون مقاومة، ويعترف بذلك فيقول: لما رأى يوسفيوس عسكر الروم خاف منهم لعظمهم، ومضى إلى حصن في جبل الجليل يقال له يوذات، فسار "فسبسيانوس" إلى الحصن بجنوده، وبعث إلى يوسفيوس بن جوريون يدعوه إلى الصلح ويعده بالجميل إن أطاعه ويخوفه من الحرب وعواقبها.

واستسلم يوسفيوس بن جوريون للأمر الواقع، وأدرك أن اليهود يحاربون طواحين الهواء، ورفض القتال، فانهزم اليهود شر هزيمة، وهكذا أسهم "بن جوريون القديم" في إخراج اليهود من فلسطين، كما أسهم "بن جوريون الحديث" في دخول من قيل عنهم أنهم من نسل اليهود إلى فلسطين، مع فارق جوهري لابد من ذكره، وهو أننا نسلم ليوسفيوس بن جوريون بنسبه العبراني، أما دافيد بن جوريون فهو رجل أوروبي لا تجمعه باليهودية أية صلة، لأنه بولندي وعلماني، أما يوسفيوس فكان عبراني وكاهن، تلك هي المسألة.

وأصبح اليهود في خوفٍ عظيم، وجعلوا يقتلون أنفسهم حتى لا يقعوا أسرى أذلاء للرومان، ولما وصل تيتوس إلى أسوار أورشليم، حاول أن يجري مع اليهود صلحًا، وكان معروفًا بحكمته وطيبة قلبه، لكن اليهود أصروا بعنادٍ غبي على مواصلة القتال، ورغم انتصار اليهود في بعض المعارك لكن أوضاعهم إبان الحصار كانت تشير إلى هزيمة لا مفر منها، فقد ألقى الله بين قادتهم الفرقة وانقسموا على أنفسهم، ثم جاءت الإمدادات إلى الجيش الروماني المرابط وهو ما زاد من قوته، بحيث أدى هذا إلى انتصار عسكري مهم على اليهود المحاصرين، وظل تيتوس يميل إلى الصلح لدرجة أنه أوقف القتال خمسة أيام بعد الانتصار مع أن جيشه بالطبع كان في وضع أفضل من الوجهة العسكرية، وأخبرنا يوسفيوس أن تيتوس بالغ في ملاطفة اليهود واجتهد في سياستهم ودعاهم إلى السلام، وذلك لأنه كان يشفق عليهم أن يهلكوا، وعلى مدينتهم أن تخرب، فراسلهم بالحسنى والكلمة الطيبة فما استجابوا، وذاقوا وبال أمرهم.

وفي الأصل كان تيتوس رغم قوته ونبوغه العسكري يكره الحرب والقتل والخراب، ولما اعتلى كرسي الحكم وأصبح الإمبراطور عام 79 م ظهرت رقة طبعه لتلفت أنظار شعبه ورعيته بشكلٍ لم يألفوه ممن سبقوه من الملوك، لذلك خلع عليه الرومان لقب "بهجة الإنسانية".

وحتى يكون تيتوس قد أدى كل ما عليه تجاه اليهود، طلب من يوسفيوس أن ينصح قومه بالرجوع إلى طاعة روما في مقابل الأمن والأمان كعهدٍ خالص من تيتوس ابن الإمبراطور شخصيًا، ولهذا خاطبهم يوسفيوس قائلًا:

" يا معشر إسرائيل اسمعوا ما أخاطبكم به، فإني أحدثكم بما ينفعكم ويصلح امركم إن قبلتموه. اعلموا أن محاربة الأعداء ومقاومتهم كانت تحسن بكم يوم كانت بلادكم عامرة وجنودكم متوافرة وأحوالكم مستقيمة. أما بعد أن بلغتم هذه الحال من خراب البلدان وقتل الرجال، وذهاب النعم واختلاف الأحوال، فكيف تطمعون في مقاومة هذه الأمة العظيمة القوية التي قهرت الممالك واستولت على الأمم..فيجب أن تعلموا أن الله هو الذي سلط عليكم هذه الأمة لقبيح صنعكم ورداءة أفعالكم وكثرة خطاياكم، ارتكبتم المحارم واجترحتم المآثم واستمرأتم الجرائم، وسفكتم الدماء، وأغضبتم إله الأرض والسماء، عاملتم الناس بالغش، وأهلكتم النفوس، ونجستم هيكل الله القدوس، وقتلتم كهنته والصالحين من أمته ظلمًا وعدوانا ".

ولم تجدِ نفعًا كل محاولات تيتوس وبن جوريون، بل كان المتمردون يقتلون كل يهودي يريد أن يستسلم للرومان، لذلك شدد القائد حصاره عليهم، وضيق عليهم الخناق، فأصبحوا يموتون من الجوع والظمأ، وفي الوقت نفسه بدأ الرومان في تدمير أسوار المدينة.

ويذكر بعض المؤرخين أن الحصار امتد إلى ستة عشر شهرًا، واضطر اليهود إلى أكل الحيوانات النافقة والحشرات، فماتوا أيضًا، يعني من لم يمت من الجوع مات مسموما، تعددت الأسباب والهلاك واحدُ، وكان من سلم له اليسير من القمح يخاف أن يطحنه أو يخبزه حتى لا يعلم غيره من صوت الطاحونة أو من الدخان أن لديه طعامًا فيؤخذ منه ويُقْتَل، لهذا كانوا يأكلون القمح وهو حب، وكان الأب يخطف الطعام من ولده، والولد يخطفه من والده، وهكذا حل القحط وانتشر الجوع ومات أكثر الناس، واشتغل الأحياء بأنفسهم فلم يدفنوا موتاهم، وبعضهم كانوا يرمون الموتى على الروابي أو في الآبار ثم يلقون أنفسهم أيضًا ليموتوا ويستريحوا مما هم فيه، وبعضهم كانوا يحفرون قبورهم بأيديهم ويضطجعوا فيها منتظرين الموت، وعمت رائحة الموت وشاع البلاء فشاعت معه البلادة، ولم يعد اليهود يشعرون بالكارثة، وقل البكاء وذهبت الشكوى، ولم يعد أحدٌ يرثي أحدا.

وأصبح هَمَّ عساكر اليهود أن يدخلوا البيوت فينهبوا ما فيها من الحب والدقيق، وكانوا إذا سمعوا صوت رحى أو شموا رائحة الطهي أسرعوا وأخذوا ما تصل إليه أيديهم دون رحمة، ومع كل هذا لم يتوقف أصحاب الفجور عن جرائمهم، فنرى بعضهم يهجمون على الهيكل، ويقتلون الكهنة وهم يقدمون ذبائحهم، لتختلط دماؤهم بدماء الحيوانات، وأحرق الجنود نكاية في بعضهم البعض مخازن الغلال التي كانت تكفي لإطعام الناس في الحصار لسنوات!.

بل يذكر لنا يوسفيوس أن امرأة ثرية كانت تعيش بالقرب من نهر الأردن وكان لها طفل وحيد فلما كثرت الفتن هاجرت به إلى القدس وكانت لها أموال وعبيد، فلما قويت المجاعة ونهب الجنود كل ما في المدينة بما في ذلك منزل المرأة، جاعت وجاع ولدها، فلما استبد بها الجوع ولم تحتمل بكاء ولدها أكثر من ذلك، ذبحت الغلام حتى تأكل هي ويستريح هو، وهكذا صارت كمسلوبة العقل، وذبحت ابنها وقد أدارت عينها عنه حتى لا تراه، ثم شوت لحمه بالنار وجعلت تأكل منه.

وهنا انقض الجيش الروماني على المدينة ودخلها وأعمل في جنودها السيف وحطم أسوارها تمامًا، وفر المتمردون إلى قصر الملك سليمان عليه السلام ودهنوه بالقار والكريت، ثم تركوا فيه رجلًا منهم وقالوا له إذا استولى الرومان على القصر وصعدوا إلى أعلاه فاحرقه واخرج فورًا من بابٍ سري.

وهرب المسيحيون من أورشليم ليلًا طاعةً لأمر (المسيح يسوع) حيث كان قد تنبأ بدمار القدس وخراب الهيكل وقال لهم إذا حاصر الرومان المدينة فاخرجوا منها ليلا تجاه النهر يعني الأردن، أما تيتوس فقد سوى أورشليم بالأرض حتى لكأنها لم تكن موجودة، ولم يبق من الهيكل حجرٌ واحد، وهذا ما يفند مزاعم اليهود حول أحقيتهم بحائط البراق الذي يسمونه حائط المبكى.

وقام تيتوس بحل كل التنظيمات اليهودية سياسيةً كانت أو دينية، وفرض على اليهود ضريبة رأس كل عام ومقدارها ديناران يتم دفعهما لحساب معبد الإله "جوبيتر" إمعانًا في إذلال اليهود، ثم أخذ معه كنوز الهيكل إلى روما حتى يعرضها على شعبه أثناء الاحتفال بالنصر، وحرم على اليهود أن يقتربوا من القدس وأطلال الهيكل، ودام هذا الحظر مدة 60 سنة، وكان بعض اليهود يتسللون إلى مكان الهيكل ليبكوا عليه!.

وبدأ اليهود في هجرات كبيرة باتجاه البلدان المجاورة لا سيما المدن السورية ومصر، كما عمل الرومان على طردهم اتقاءً لشرهم حيث كانوا كثيري التمرد والثورات، وبذلك بدأ الشتات أو "الدياسبورا" وفشل اليهود في العودة إلى القدس حتى جاء العصر الحديث، وبعد حوالي 60 سنة جدد الامبراطور هادريان بناء المدينة وجعلها سكنية للرومان، ورغب اليهود في العودة إليها، فمنعهم الإمبراطور وهددهم بالموت، لأنه كان يخشى من توحدهم مرة أخرى.

وفي سنة 135 م حاول بقايا اليهود أن يعيدوا الكرة في التمرد على الرومان، ومع أنهم مُنِعُوا من العودة إلى القدس، لكنهم تسللوا وكان من السهل أن يخفوا دينهم، ولم يكن لهم شكل أو ملامح تميزهم عن غيرهم من الأمم الشرقية، وهذا ينفي تمامًا فكرة أن اليهود لهم أنفٌ طويل وهالات سوداء تحت الأعين ووجوه مسحوبة، فقد كانت سحنتهم شرق أوسطية، بحيث لا يمكن تمييزهم عن العرب أو الكنعانيين، وهذه الملامح النمطية التي استقرت في وعي البعض لتكون فكرتهم عن اليهود إنما هي ملامح يهود الجيتو في الأحياء الأوروبية، إنها ملامح تفشو بين الأشكيناز وهم من نسل متهودين وليسوا يهودًا أصلاء، وأما الحزن والغضب والهيئة البغيضة فهذا ليس من أصل خلقتهم ولكن لأن حياتهم كلها خوف وحقد وحسبهم تلك الكراهية التي لاحقهم بها الناس أينما حلوا.

ثم جاءت الخاتمة التي لم يعد لليهود بعدها ذكر في أرض فلسطين حيث أمر هادريان بفرض الصبغة الهلينية على يهود فلسطين، وكلمة هلينية تعني يونانية وكانت الثقافة اليونانية محل احترام كبير عند الرومان، وطبعًا كان لليهود شريعة وتعاليم تختلف عن بعض مفردات الثقافة الهلينية، كما أن الإمبراطور أمر بإبطال الختان، وشيد مدينة جديدة على أنقاض أورشليم سماها "إيليا كابيتولينا" وبنى في مكان الهيكل معبدًا للرب الروماني "جوبيتر" وأدى كل هذا لاندلاع التمرد بين فقراء اليهود أما الأغنياء فإنهم لم يكترثوا!.

 وجاءت الثورة هذه المرة بقيادة "بركوخبا" الذي كان مرشده الروحي عمه "إيليعازر" والذي قاد إحدى الثورات بدوره في السابق، ودعم الرابي "عقيبة بن يوسف" ثورة باركوخبا وقال إنه المسيح المخلص الذي أشارت إليه الكتب والنبوات، وكلمة "بركوخبا" مكونة من مقطعين، وهما (بر) يعني ابن، و(كوخبا) أي النجم، فهو (ابن النجم) ولهذا الاسم دلالات مسيحانية لا تخفى على الأريب، لكن المسيح المرتقب لم يصل إلى شيء، فقد أخذ الإمبراطور الأمر بجدية منذ البداية وقاد جيشًا كبيرًا سار نحو القدس وقتل بركوخبا، ثم قمع التمرد بعنف ودموية وقسوة، وبلغ القتلى حسبما ذكره بعض المؤرخين 580 ألف نسمة، ودمرت مدن عديدة وأمر هادريان بقتل كل يهودي يتم العثور عليه في فلسطين، وهدم كل بناء يحمل شارةً يهودية، ثم غير أسماء المدن والقرى من العبرية إلى اللاتينية، وكان قد سمى القدس "إيليا" لأن اسمه "إيليوس".

بقي أن نذكر حقيقة في غاية الأهمية وهي أن هذه الأحداث الفاجعة بالنسبة لبني إسرائيل لم تنهِ وجودهم في فلسطين فحسب، ولكنها كانت إسهامًا في تحويلهم إلى ذكرى، فلم يبقَ منهم إلا أقليات قزمية مبعثرة في أكثر من دولة، وأي شخص يدعي الآن أنه من نسل يعقوب النبي فكلامه لا يحمل من الصدق إلا بمقدار ما يحمله من الكذب، وهذا يعني بوضوح أنه لا يوجد الآن من يستطيع الجزم بأنه من بني إسرائيل، أما دولة إسرائيل فهي دولة معدومة الصلة بالأديان والتاريخ، وهي في الأصل مشروع إمبريالي غربي، ودولة وظيفية مهمتها حراسة مصالح الذين استحدثوها من العدم، وتدمير أي محاولة جادة للوحدة العربية، وهي دولة فاشلة رغم نجاحها وضعيفة رغم قوتها، وتحمل في داخلها عوامل انهيارها، ويكفي أن ترى مواطنيها وهم على كل لون ومن كل جنس لتدرك أنك أمام نكتة سخيفة اخترعها خيال أوروبي سكران.

 

حاتم السروي

...........................

* تم الاعتماد في هذه المقالة على كتابين هما:

1- تاريخ اليهود للكاتب إسماعيل حامد.. الطبعة الأولى/ مكتبة النافذة/ 2011م.

2- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.. للدكتور عبد الوهاب المسيري. . طبعة مختصرة عن دار الشروق/2006.

3- كتاب التجانس اليهودي والشخصية اليهودية للدكتور عبد الوهاب المسيري. طبعة دار الهلال/ 2004، وهو من أكثر الكتب التي تأثر بها كاتب هذا المقال.

 

في المثقف اليوم