قضايا

محمود محمد علي: حوار الحضارات في فكر أحمد زويل (1)

محمود محمد عليعندما يترنح الحوار وتغيب ثقافته فلا محل لقبول الآخر آياً كان، فيوماً بعد يوم، وفي منطقتنا العربية والإسلامية تتكاثر أفكار جماعات التخلف، والانغلاق، واقصاء الآخر، ورفض التحاور، زادها المتاجرة بالدين، لإعمال آلة القتل داخل الديار وخارج الأوطان.. تصدع مخزوننا الفكري وتطلخ دما وأضحت الصورة القاتمة بعبعاً مخيفا لأمم لم يصلها من الإسلام سوي أشلاء حضارة، أو مسخاً حضارياً ذميم، في ظل هذا علا صوت العقل داعياً إلى استئناف حضارتنا الميتة سريرياً منذ أمد بعيد أملاً في الالتحاق بركب الحضارات من جديد.. قراءات تري أن ما نشهده ساحتنا من حراك ومن ارهاصات وعي متجدداً كفيلان ببلوغ المرام، وبوقوف حضارتنا علي الأقدام، وأخري تجزم أن في أعناق النخب المشرئبة لتفعيل حوار الحضارات وللفعل فيه بإرادة لا تلين.. بشري بآمال واستعادة بريق ثقافة وحضارة ولو بعد حين ؛ وأخص بالذكر هنا حضاراتنا المصرية القديمة.

فلا أحد يدرك الزمن.. رحابة وضيفاَ مثلما يدركه المصريون، ولا أحد يحمل التاريخ علي كاهله ويمضي مثلما يفعل المصريون، وملايين المصريين يدركون أن حضارة بلادهم عمرها سبعة آلاف عام.. والمصريون لديهم قناعة واسعة بأن مصر هي العالم، لدرجة أنهم يطلقون عليها " أم الدنيا".. سطعت نجوم في القرن التاسع عشر وأخرى في القرن العشرين، فمن "رفاعة الطهطاوي"، إلى "جمال حمدان".. ومن "أحمد عرابي" إلى "النحاس".. ومن "الخديوي إسماعيل" إلى "أنور السادات".. توالت أفكار وسياسات . وفي الطريق ذاته مرت قامة بحجم الإمام "محمد عبده" وثانية بوزن طه حسين، وثالثة بضخامة نجيب محفوظ.. ولكن التحديد الديني الذي بدأه "محمد عبده"، والتجديد الفكري الذي أطلقه "طه حسين" والنقلة الإبداعية التي حققها "نجيب محفوظ" انتهت كلها إلي مشهد مأساوي بائس؛ فقد جاء عقد التسعينات ليشهد غياب "توفيق الحكيم"، و"زكي نجيب محمود"، و"يوسف إدريس"، ومن حولهم.. ثم ساد ظلام كان يقطعه بين حين وآخر صوت العنف والإرهاب؛ كالرعد وطالت يد الإرهاب المفكرين!! (1).

وهنا سطعت شمس العالم " أحمد زويل "، جاء ليملآ المسرح بأكمله.. وعاد المصريون إلى سابق ثقتهم بأنفسهم (2)؛ ففي الوقت الذي يرى فيه أهل الرؤية التاريخية والمستقبلية أن ما نعيشه حاضراً من تقد عملي وتكنولوجيا راقية هو مجرد بوادر لما سوف يعيشه الإنسان من أحداث كبار خلال القرن القادم، وكثير منها أحداث بيولوجية تعتمد على التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية – فإن الاكتشاف العلمي : " كاميرا الفيمتو ثانية"، الذي حصل به العالم المصري أحمد وزيل علي جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1999م، ومن قبله "أبو الهول"، والوثائق المصرية الممثلة في البرديات، كلها تشهد على الدور الرائد للمصر في مجال التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية (3).

و"زويل" قد حفر اسمه بأحرف من نور أضاء به الظلام... رفع سقف طموحات الشباب إلى أبعد مدى ليصبح رمزاً من رموز العلم في مصر والعالم كله؛ وقد وصفه الدكتور "مصطفي الفقي" بأنه :" رحمه الله : "كان ومضة ضوء في حياتنا القاتمة، إذ فاز عالم مصرى الأصل والمولد بجائزة "نوبل" فى العلوم، وتلك الجائزة قفزة كبيرة ينال منها التعليم المصرى والبحث العلمى معًا، خصوصًا أن الجائزة فى الفرع الذى حصل فيه "زويل" هي جائزة مستحقة بكل المعانى لا تخضع لاعتبارات سياسية ولا أهواء قومية، فلا بد أن يأتي العالم الذي يحصل على"نوبل" فى العلوم بجديد يخدم البشرية ويمثل قفزة لها إلى الأمام، فهي ليست مثل "نوبل" في الأدب التي تخضع للتوزيع الجغرافى بين الحضارات المختلفة، وليست هي جائزة "نوبل" في السلام التى تخضع للمواقف السياسية ولا تبرأ من شبهة الإنحياز عند الاختيار" (4).

وقد لفت نظرنا فيلسوف العلم الأمريكي الشهير "توماس كون" في كتابه الذائع الصيت "بنية الثورات العلمية" أن بعض الاكتشافات العلمية تعد ثورة علمية لأنها - بحكم تفردها - تغير ممارسة العلم نظرية وممارسة. وهكذا اعتبر انجاز "جاليليو" ثورة علمية، وكذلك نظرية النسبية التي صاغها "ألبرت أينشتين"، ويضاف إليهم أحمد زويل الذى اكتشف لأول مرة في تاريخ الإنسانية زمناً جديداً هو "الفمتو ثانية". وقد قرر ذلك بكل وضوح البروفيسور بنجنت نوردن رئيس لجنة جائزة نوبل للكيمياء بالأكاديمية السويدية للعلوم في عبارة بالغة الدلالة "أن استخدام زويل لتقنية الليزر فائقة السرعة "فمتوسكوب" يمكن وضعه في سياقه التاريخي جنباً إلى جنب مع استخدام جاليليو للتليسكوب. الذى صوبه شطر كل شئ مضئ فى القبة السماوية الزرقاء. أما زويل فقد صوب ليزر الفيمتوثانية على كل شئ يتحرك في عالم الجزئيات. لقد انتقل زويل بتيلسكوبه هذا إلى آفاق العلم. ويمكننا الآن أن ندرس التحركات الحقيقية للذرات في الجزئيات، ويمكننا أن نتحدث عنها في الزمان والمكان بنفس الطريقة التي نتصور بها تلك الذرات والجزئيات.. فلم تعد الجسيمات أشياء غير مرئية". وأضاف "روبرت برادوسكي" مؤرخ العلوم والأستاذ بمعهد روشستر للتكنولوجيا "وباختراع هذه الطرق العلمية أصبح زويل كريستوفر كولمبس لعالم الفمتو وأول شاهد عيان للأحداث الكيميائية التي تقع في جزء من مليون بليون جزء من الثانية" (5).

ولهذا السبب قيل عن زويل بأنه ذلك العالم الذي استطاع أن يمتطى الزمن، وأن يكشف حركته السرية الخفية، وأن يصور ويسجل ما يحدث في واحد على بليون من البليون من الثانية،،حقا كما يقال عنه أنه" يمتلئ بالفكرة.. امتلاء الإناء بالسائل" (6).

واحتفلت المؤسسات الثقافية والسياسية في مصر احتفالاً مهيباً بالدكتور " أحمد زويل" عند حصوله على جائزة نوبل في علم الليزر، تقديراً لأبحاث أجراها في الولايات المتحدة الأمريكية، ووصل فيها إلى نتائج جديدة التي ذهب إليها مبعوثاً واستقر فيها، وأشار الكثيرون إلى حقيقة أن " قدرات" العلمية تطورت عندما عاش في بيئة ملائمة تقدر العلم، بل تقدسه، ولا تفرض عليه أية قيود، والأكثر من ذلك تخصص له الدولة والمشروعات الصناعية الكبرى ميزانيات سخية تتزايد كل عام، بل ويجرى تنظيم الحياة الاجتماعية عامة علي أسس علمية، وحين يخرج الباحث إلى الحياة خارج الأكاديمية يحصل على أجر ملائم، ولا يكون مضطراً للهاث وراء لقمة العيش وتبديد طاقته العصبية والذهنية (5)؛ ولذلك يقول "زويل" عبر كتابه "الغربيون عباقرة.. ونحن لسنا أغبياء.. لكن الغرب يساعد الفاشل حتى ينجح.. ونحن نحارب الناجح حتى يفشل" (7). هكذا وصّف " زويل" واقعنا العربي المتردي، الذي يدفع الشباب فيه ضريبته الأكبر، وهو توصيف يحمل في جوهره مقارنة ثقافية عميقة بين عقليتين متناقضتين في التفكير والتخطيط والتنفيذ، واحدة مبتكرة وبناءة، وأخرى مثبطة وهدامة (8).

وكان " زويل" يعيش في سان مارينو بولاية كاليفورنيا، وهو أستاذ كرسي لينوس باولينج في الكيمياء الفيزيائية، وأستاذ الفيزياء في كالتيك. وتم تعيينه أخيراً مبعوثاً علمياً للولايات المتحدة لدى دول الشرق الأوسط؛ نظرا لما يتمتع به من موهبة تساعده في إيصال المعلومات للآخرين (9).

ولد "أحمد حسن زويل" في 26 فبراير 1946 بمدينة دمنهور بمحافظة البحيرة، ثم إنتقل مع أسرته إلى مدينة دسوق بكفر الشيخ. إلتحق بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية وحصل على بكالوريوس العلوم في الكيمياء عام 1967 بدرجة إمتياز مع مرتبة الشرف، وعمل معيدا بالكلية، ثم حصل على درجة الماجستير عن بحث في علم الضوء. سافر "زويل" بعد ذلك إلى الولايات المتحدة في منحة دراسية وحصل على درجة الدكتوراه من "جامعة بنسلفانيا" في علوم الليزر، ثم عمل باحثاً في جامعة كاليفورنيا خلال الفترة بين عامي 1974 و1976م، قبل أن ينتقل إلى العمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك) (10).

تدرج "زويل" في المناصب العلمية الدراسية داخل جامعة (كالتك) إلى أن أصبح أستاذاً رئيسياً لعلم الكيمياء بها وقف أمام ملك السويد في قلب مدينة "ستكهولم" عام 1999 ليمنحه جائزة نوبل في الكيمياء، عن أبحاثه في مجال "كيمياء الفيمتو"، وهي تكنولوجيا لتصوير التفاعلات بين الجزيئات باستخدام أشعة الليزر، ليصبح أول عالم مصري وعربي يفوز بجائزة نوبل في الكيمياء. وفي نفس العام، منحه الرئيس الأسبق حسني مبارك قلادة النيل، وهي أرفع وسام مصري (11).

مسيرة وأهداف "زويل" العملية لم تنته بحصوله على نوبل فدائمًا ما كان يقول أن "نوبل نقطة في بحر العلم"، ليستمر في مسيرته العلمية، لينجح بعدها في إختراع ميكروسكوب رباعي الأبعاد الذي لا يوجد في العالم منه سوى جهازين، " إحداهما في أمريكا بالجامعة التي عمل بها، والآخر في مصر بمدينة زويل، ورد اسمه في قائمة الشرف بالولايات المتحدة التى تضم أهم الشخصيات التى ساهمت فى النهضة الأمريكية، وجاء اسمه رقم 9 من بين 29 شخصية بارزة بإعتباره أهم علماء الليزر فى الولايات المتحدة، وفى أبريل 2009، أعلن البيت الأبيض عن إختيار زويل ضمن مجلس مستشارى الرئيس الأمريكي للعلوم والتكنولوجيا، والذي يضم 20 عالمًا مرموقًا في عدد من المجالات. وفي نوفمبر من العام نفسه، عين كأول مبعوث علمي للولايات المتحدة إلى دول الشرق الأوسط ودعا زويل إلى تكوين قاعدة علمية متكاملة في مصر لتطوير البحث العملي والتعليم، وأطلق مشروع المدينة التكنولوجية التي تحمل اسمه.

نشر "زويل" أكثر من 350 بحثًا علميًا فى المجلات العلمية العالمية المتخصصة و16 كتاباً، من بينها "رحلة عبر الزمن.. الطريق إلى نوبل"، و"عصر العلم" عام 2005، و"حوار الحضارات"، وانتخبته الأكاديمية البابوية، ليصبح عضوا بها، وقد حصل على وسامها الذهبي سنة 2000. كما حصل على جائزة وزارة الطاقة الأميركية السنوية في الكيمياء. وجائزة كارس من جامعة زيورخ، في الكيمياء والطبيعة، وهي أكبر جائزة علمية سويسرية. وانتخب بالإجماع عضواً بالأكاديمية الأميركية للعلوم. كما وضع اسمه في قائمة الشرف في الولايات المتحدة. وقد كرمته مصر، وحصل على عدة جوائز منها، أبرزها قلادة النيل العظمى وهي أعلى وسام مصري، وأطلق اسمه على بعض الشوارع والميادين (12).. وللحديث بقية..

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .

..............

مراجع المقال وهوامشه

(1) مجلة الاقتصاد والمحاسبة. قسم التحقيقات الصحفية(معد): أحمد زويل.. درة في جبين مصر، الاقتصاد والمحاسبة، نادي التجارة، ع 616، 2006، ص 14.

(2) المرجع نفسه.

(3) المرجع نفسه.

(4) المرجع نفسه.

(5) السيد يسن: أحمد زويل عالما وفيلسوفا، جريدة الأهرام الصادر بتاريخ الخميس 8 من ذي القعدة 1437 هــ 11 أغسطس 2016 السنة 141 العدد 47365.

(6) زينب عبد الرزاق: حوار نادر بين زويل ونجيب محفوظ منذ ١٦ عاما، الأهرام بتاريخ الخميس 1 من ذي القعدة 1437 هــ 4 أغسطس 2016 السنة 140 العدد 47358.

(7) أحمد البهنساوى : أحمد زويل.. ذكرى ميلاد عالم مصري تحول إلى أيقونة علمية رغم رحيله، 06:31 ص | الأربعاء 26 فبراير 2020.

(8) أحمد المسلماني : عشرون عامًا مع الدكتور أحمد زويل.. ما قبل نوبل وما بعدها، مقال منشور بتاريخ 6 أغسطس 2016.

(9) أحمد زويل : ويكبيديا.

(10) المرجع نفسه.

(11) المرجع نفسه.

(12) المرجع نفسه.

 

 

في المثقف اليوم