قضايا

احمد الكناني: حوار المتألهين

احمد الكنانيهكذا تكلم زرادشت او ابن عربي او الحلاَج او ايّ شخص يقع موضوعاً لمثل هذه العناوين لا يكون الا نافذة يطل من خلالها المؤلف ليَرى ويُري متلقيه أفكار زرادشت او ابن عربي او الحلاج، او غيرهم ممن تشكل أفكاره رؤىً جديدة قد يراها المؤلف جديرة بالاهتمام.. احياناً يكون رمزا خياليا يلعب دور البطل في رواية، او نصا يُضئ لمراحل سوداء، او رمزاً للمعاناة والوفاء والتضحية .

بعض من هؤلاء شكّل منعطفاً فكرياً ومرحلة من مراحل رقيً المجتمع وهو زرادشت حينما اختاره نيتشيه بطلاَ لملحمته الأدبية الفلسفية " هكذا تكلم زرادشت " حيث اعلن موت الاله وبداية الانسان المتفوق في سلسلة تطوره كباقٍ وراسخ مادام اقوى واصلح ومتكرر تكرار ابدي وقائم مقام الله .

وهناك من غادر العقل وارتمى في حضن الروح الدافئ كما فعل نصر حامد أبو زيد مع محي الدين بن عربي .

وهناك من قارن بين تضحية الحسين بن علي والحسين الحلاج كما جسًمها قاسم محمد عباس …

هكذا تكلموا ...

رغم سير نصرحامد أبو زيد على خطى نيتشيه في كتابه " هكذا تكلم ابن عربي " او قاسم عباس في "هكذا تكلم الحلاج" الا ان الفارق كبير جدا بينهم ولا يجمعهم سوى العنوان فقط وكأنها تسمية لا اكثر، ولا دخل لها في المنهجية والمضمون، لان زرادشت لا يمثل عند نيتشيه سوى بطل للرواية وشخصية جرت أفكاره الفلسفية من خلاله وعلى لسانه ومن بُنى مخياله، كما ان الخطب والمواقف في رواية نيتشيه مثّلتها تأملات زرادشت كشخصية مستوحاة من مؤسس الديانة الزرادشتية، لكن الامر مختلف عند البقية الباقية حيث كانت قراءات ودراسات في أفكارهم ونهجهم .

براعة الاستهلال والبداية ستكون بنيتشه، وختامها بأبي زيد، ووقوف تأمل عند قاسم عباس لسبب ما يتعلق بالراحل بعيدا كطائر يمضي ولا يترك من وراءه اثر .

حوار زرادشت ...

يتكلم نيتشه عن بطل القصة زرادشت ورحلته وهو في سن الثلاثين إلى الجبل للتأمل حيث وجد ضالته في عزلته عن الشمس، فارتقت روحه واصبح كنحلة امتلأ جوفها عسلا، فقرر النزول من الجبل بعد عشرة أعوام ليروى العطاشى من شرابه المصفى، نزل ليحدث الناس عما توصل اليه رغم علمه بسخريتهم منه وسيلهون عنه بالمهرج البهلوان، لكن ذلك لن يثنيه عن عزيمته، نزل ليحدث الشمس حديث معاتبٍ:

" ايّتها الشمس، إذا لم يكن هناك من يأخذ الدفء من نورك فما هي سعادتك ؟ .. عشر سنوات انرت فيها كهفي، ولولاي … لأصابك الملل من هذه الرحلة، وها أنا الآن أصابني الملل من حكمتي، مثل نحلة جمعت الكثير من العسل، احتاج لمن يمد يده ويأخذ مني ... "

الانسان كما يراه نيتشه هو من يعطي الأشياء جمالها والشمس حتى الشمس لولا الانسان لما كان لنورها معنى ...

حوار زرادشت مع الشمس فيه من العمق الشئ الكثير، محور الحوارية الانسان ذو القيمة العليا، وهو من يمنح الجمال للشمس، وهو من يعطي القدسية لدين او كتاب، وتصور لو ان الاناجيل او القران لم يجدوا من يقرأهم فأي قدسية سيتصفون بها .

في سن الأربعين ارتأى زرادشت النزول من كهفه ويشارك البشر حكمته، وان الوقت قد حان .

رفع رأسه مخاطباً الشمس:

" علي أن أهبط إلى أسفل، مثلما تفعلين أنت عندما تغربين وراء البحار .. علي أن أنير للبشر ظلمتهم .. هذه الكأس تريد أن تفرغ"

نزل ليقول:

" انكم تنظرون إلى ما فوقكم عندما تتشوقون إلى الاعتلاء، أما أنا فقد علوت حتى أصبحت اتطلع إلى ما تحت أقدامى، فهل فيكم من يمكنه أن يضحك وهو واقف على الذُرى "

اختيار نيتشه لزرادشت بطلاً لروايته اختياراً موفقاً وفي محله وهو نبي للدين الذي اعلن عن نهاية فصوله او لنقل ان المجتمع الأوربي تغافل عنه شيئاً فشيئاً فاندثر … لان زرادشت الفيلسوف كان منبعاً للتعاليم السماوية تأثيراً وتأثراً في حضارات المشرق، ونيتشه في كتابه مبشراً بكتاب جديد يتخذ من العقل والانسان محوراً له كما هو زرادشت … مع المبالغة في الانسان عند نيتشه وجعله في قمة سامقة يجلس بدلاً من الاله .

حوار ابن عربي

نصر حامد أبو زيد كان يلتجئ لابن عربي ليستضئ بروحانيته في الظلام الحالك، المرة الأولى كانت في رسالة الدكتوراه وتأويل ابن عربي للقرآن حينما حاول أبو زيد قراءة التراث العربي والاسلامي فكانت الروحانية ملجأ له، كان هذا في السبعينيات،  ثم عاد اليه في كتابه " هكذا تكلم ابن عربي في مطلع الالفية الثانية للجواب عن سؤال لِمَ لا نغادر العقل ونذهب الى الروح؟

كان ذلك في خضم صراع الحضارات والقطيعة بين الإسلام والغرب وما تلتها من احداث ١١ سبتمبر …وكأن أبا زيد يتنبأ بما ستؤول اليه الاحداث، وغلبة الديناميكية المحركة في التراث الإسلامي على التفكير الواعي، وحيث لا مناص من الخلاص من تلك السطوة يأتي الجانب الروحي وخطاب الحب ليقابل خطاب الكراهية وهو ما تفوح به نصوص ابن عربي عطرا وعلى السواء شعره ونثره .

وكان يعود اليه ثالثة ورابعة في محاضراته كلما اصطاد فرصة الارتماء الى حضن الروح هروباً من واقع إسلامي مرير، يغفو تارة ويصحو أخرى، يخفت مرة ويعلو مرات، والملجأ هو الملجأ والمبلس الصوفي الخشن هو الحصن المنيع ولا شي سواه .

لقد أصاب الحقيقة وأجاب عن تساؤل كان يراوده طوال حياته ... لقد غادر العقل الى الروح بالفعل، وتخطى فجوة هائلة في الدين، حفرة من نار اكتوى بنارها العرفاء ممن عاش التجربة، ظهرت جلية في قصائد جلال الدين الرومي، ونصوص ابن عربي والحلاج، وما تركه لنا نصر حامد أبو زيد من اثار أواخر أيامه ...

حوار الحلاج

" لولا ان الله تعالى قال: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لكنت ابصق في النار حتى تصير ريحاناَ على أهلها . "

" يمكنني ان أتكلم بمثل هذا القرآن " ...

هكذا تكلم الحلاج ... هي النافذة التي اتخذها قاسم عباس ليطل من خلالها عشاق الفكر الصوفي على ديوان الحلاج وتفسيره للقرآن، ولتكون مقدمة لتحقيق ما وقع بيديه من نصوص الحلاج في التفسير والشعر وغيرها، لان المتعارف عند القراء هو شعر الحلاج ومن خلاله تستنبط أفكاره في الاتحاد والحلول ووحدة الوجود والموجود، ولم يكن تفسيره معروفا على مدى بعيد وهو على غاية في الأهمية لا تقل عن ديوانه، تلك النصوص وضعها قاسم عباس محققة ومصححة ومترجمة عن الفارسية في بعض النصوص في جهد كبير بذله الراحل وابتدأه بعبارة:

سلام للطير يمضي ولا يترك أثرا وراءه

وكأنه ينعى نفسه حيث رحل بهدوء تاركا وراءه تراث المتصوفة بعد سنين قضاها في جمعه ودراسته وتحقيقه دون ان يثر غبارا ...

هكذا تكلم الحلاج مهد له قاسم بمقدمة قارب فيها بين الامام الحسين بن علي والحسين الحلاج وفهمهما للحياة والموت .

يبدو الموت للحلاج وكأنه يمنح الحياة معناها وهو حديث الفلاسفة أيضا وسبينوزا تحديدا، الا ان الحلاج لا يفرق بين الحياة والموت الا في الاطار الذي يسمح بتسمية الحياة بالحرية في مقابل السجن الذي هو نموذج الحياة.

اقتلوني يا ثقـــــــــاتي

ان في قتلي حيـــــاتي

 

ومماتي في حيـــــــــاتي

وحياتي في ممــــــــاتي

***

احمد الكناني

.................

- فريدريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل

- قاسم محمد عباس، هكذا تكلم الحلاج، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق

- مجموعة محاضرات نصر حامد أبو زيد حول ابن عربي على اليوتيوب

 

 

في المثقف اليوم