قضايا

محمود محمد علي: الفرنكوفونية وأزمة عولمة الثقافة الفرنسية (2)

محمود محمد عليفي أواخر ستينات القرن الماضي، كان حلم "شارل ديجول" أن تكون اللغة والثقافة الفرنسيتين قادرتين على خدمة فكرة " عظمة الدولة الفرنسية"، وربما حدث ذلك بتأثير صديقه ووزيره " أندرية مالرو، وقد بدأت الفكرة بما سمي بـ" منظمة الفرانكوافونية " لتعبر عن الصوت الفرنسي واللغة الفرنسية (11).

وفي عام 1970م ظهر أول تجمع فرانكوفوني في مدينة "نيامي" عاصمة النيجر، عندما اجتمع حوالي ثنتا وعشرون دولة لتكوين نواة لتأسيس الفرانكوافونية بمفهومها الجديد حين أعلنت رسميا في ذلك العام إبان حكم الرئيس "جورج بومبيدو"، وقد حملت اسم "وكالة التعاون الثقافي والفني للتبادل الثقافي مع الحكومات"، في حين اعتبر تاريخ تأسيسها الموافق ليوم 20 مارس بمثابة اليوم العالمي للفرانكوفونية حينما اجتمع لذلك رؤساء ثلاث دول تحت الرعاية الفرنسية، وهم الرئيس التونسي السابق " الحبيب بورقيبة"، والرئيس السنغالي السابق " ليوبولد سنغور"، والرئيس النيجيري السابق " حماني ديوري"، لذا يؤرخ هذا اليوم في العام 1970 م نشأة الفرانكوافونية الدولية بإحداث وكالة التعاون الثقافي والفني، وإثر اعتمادها لميثاق فرانكوافونية جديد سنة 2005م، أصبحت تسمي " المنظمة الدولية للفرانكوفونية" (12).

وتمثل المنظمة الدولية للفرانكوفونية أمنة عامة لمختلف المؤسسات الفرانكوافونية، إذ تضع الخطط والبرامج وتتابع تنفيذها، فهي معنية برسم الخطط وصياغة البرامج والإشراف على تنفيذها، وتنظيم عقد مؤتمرات القمة لرؤساء الدول والحكومات الفرانكوافونية (13).

وهناك عدد كبير من المؤسسات التي يعترف بها ميثاق الفرانكوافونية (الهيئات الرسمية)، وهي مؤتمر رؤساء الدول والحكومات التي يجمع بينها استخدام اللغة الفرنسية، والمؤتمر الوزاري للفرانكوفونية والمجلس الدائم للفرانكوفونية، والجمعية البرلمانية للفرانكوفونية، والأمانة العامة، فضلا عن الهيئات التنفيذية للفرانكوفونية، مثل الوكالة الدولية الحكومية للفرانكوفونية، وجامعة سنغور في الاسكندرية، ومحطة التلفزة " TV 5" والرابطة الدولية لرؤساء البلديات ومسؤولي العواصم والمدن الكبرى الناطقة جزئيا أو كليا باللغة الفرنسية (AIMF) (14).

وتحاول الفرانكوافونية من خلال تلك المؤسسات أن تطرق أبواب وفضاءات متعددة، لكي تجعل منها فرصة لتفعيل تعاون مشترك مع أطراف أخرى على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المتوازنة، ومن مخرجات ذلك، تظهر مصطلحات تعود إلى تجمعات وفضاءات موازية للفكرانكوفونية سواء من حيث اللغة، أو العرف أو الموروث التأريخي، إذ تتجه هذه الفضاءات – مثلا – تجمع الدول الناطقة بالبرتغالية (اللوزيغونية)، والناطقة بالإسبانية (الهند-سبانوفونية)، والناطقة بالإنجليزية (الأنكلوفونية)، التي تتعاون مع المنظمة الدولية للفرانكوفونية؛ أما الفئة الثانية فهي تجمعات عرقية وقومية، مثل الفرانكوفونية العربية، والبربرية، والعربية، والفينيقية، والفرعونية (15).

والسؤال الذي نود أن نطرحه هنا : ما هي أهداف وتوجهات الفرانكوفونية؟

وللإجابة علي هذا السؤال يمكن القول بأن هناك أهدافا تسعى فرنسا إلى تحقيقها من خلال الفرانكوفونية، مستغلة مكانتها ودورها المؤثر في المنظمة الدوللية للفرانكوفونية، تختلف عن الأهداف التي تعلن الفرانكوفونية بأنها تسعى إلى تحقيقها من خلال المؤسسات والوكالات الفرانكوفونية ؛ إذ أن هناك أهداف خفية تحاول من خلال فرنسا تأكيد دورها القيادي (كدولة كبرى) في العالم وإبراز طورها الطليعي علي الصعيد الدولي، وذلك في ظل التنافس بين أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، إذ تحاول فرنسا من خلال الفرانكوفونية أن تخرج من لغة الاستعمار العسكري المباشر إلى علاقات طبيعية، بما يحفظ لها قيادة هذا التجمع الاقتصادي والسياسي والثقافي واللغوي والجغرافي، وذلك لمواجهة تيار العولمة الجارف، يقول مونيك لوثيه، في محاضرة له بعنوان " أهمية الترجمة في الحوار العربي الفرانكوفوني دور الـ " إيزيت" ESIT :" لا يجادل أحد اليوم بشأن ضرورة الحد من العولمة جيث ترتفع المزيد من الأصوات التي تنادي بوقف الانفتاح الاقتصادي الذي يعتبر مهما – بالتأكيد -، لكنه غي كاف بأي حال من الأحوال، ففي الواقع تنشأ في ظل العولمة وتكثيف الاتصالات مشاكل من بينها مشكلة الاتصالات بين الشعوب والثقافات، وتكمن هذه المشكلة في الرغبة في إحداث تبادل على مستوى يتخطى مستوى استهلاك السلع ليحل محله رغبة كل كيان يسعي للحفاظ على الهوية الثقافية القوية وثقافية في أن يعبر عن نفسه وأن يقيم نوعا من الحوار الحقيقي بين الثقافات وبين الشعوب، ولتلبية هذه التطلعات من الضروري أن تبقي على تنوع وخاصيات اللغات المميزة والفكرية والثقافية، وذلك يتطلب بالطريقة نفسها الحد من عولمة استخدام اللغة الإنجليزية ومضاعفة التبادلات السياسية والاقتصادية والثقافية بشكل مباشر بين اللغات دون اللجوء إلى لغة مرجعية واحدة بهدف توسيع نطاق الحدود الجغرافية اللغوية (16).

كذلك فإن فرنسا تهدف في المجال السياسي والدبلوماسي من خلال الفرانكوفونية إلى تأسيس علاقات أكثر متانة مع الدول المنضوية إلى منظمتها، وذلك من أجل الحصول على أكبر قدر من ادلعم السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية، ولا سميا في إطار الأمم المتحدة، مما يوفر لها إمكانية الاحتفاظ بمكانتها في مجلس الأمن الدولي عضوا دائما، ذلك أن منظمة الدول الفرانكوفونية يقارب عددها من ثلث مجموع أعضاء الأمم المتحدة وهي بمثابة كتلة هامة من التصويت (17).

ومن خلال أهداف الفرانكوفونية في المجال الثقافي، فإن فرنسا تحاول الإبقاء على اللغة الفرنسية صامدة بوجه تحدى الإنجليزية لها، كذلك الأمر سيان فيما يتعلق يالثقافة الفرنسية، وذلك من خلال تبني "الفرانكوفونية" لمبدأ " التنوع الثقافي والتعدد اللغوي" الرامي إلى مواجهة العولمة الأمريكية، التي بدأت تطال ليس فقط الدول والحكومات الفرانكوفونية فحسب، بل وفرنسا في عقر دارها، وهذا ما دفع فرنسا إلى المناداة في المحافل الدولية بإنشاء مجتمع عالمي لا يقوم على التماثل الثقافي الذي تفرضه العولمة الأمريكية بغية التخلص من هيمنة الثقافة الأمريكية واعتلائها مرتبة العالمية والأممية، وهكذا فإن الأهداف الأولى للفرانكوفونية قد تمثلت آنذاك بالتطلع نحو تحقيق أهداف لغوية جغرافية، والعمل على توثيق الروابط الثقافية بين أعضائها، وتأكيد أن اللغة الفرنسية تمثل كتلة عالمية كبيرة تستطيع أن تواجه المد الأنكلوفوني في العالم . غير أن تغير الظروف وبزوع الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمي وحيدة جعل فرنسا تضيف إلى البعد القافي للفرانكوفونية أبعادا أخرى سياسية ودبلوماسية (18).

ولكن يعاب علي فرنسا في السياسة التي اتبعتها في تطبيق الفرانكوفونية في العالم العربي، والرامية إلى طمس اللغة العربية وتغليب الفرنسية عليها، فضلا عن انتهاج سياسة تعليمية تجاري النهج التعليمي في فرنسا، كذلك إعمام الثقافة الفرنسية وأفكارها، أن أصبحت الثقافية العربية معرضة إلى المسخ والاستلاب والتهميش، وقد اتضح ذلك جليا من خلال الاستعمار الفرنسي علي دول المغرب العربي، حيث سعي هذا الاستعمار إلى بث روح الفرقة والانفصال القومي والثقافي واللغوي بين صفوف البربر، والذي كان يمثل خير شاهد على مسخ الهوية الثقافية العربية، فهو يدعم الصراع المفتعل بين اللهجات الأمازيغية واللغة العربية (19).

وكذلك إذا ما أخذنا الجزائر ولبنان كنموذجين في المغرب والمشرق العربيين، نري أن المشروع الاستعماري الفرنسي في الجزائر يتلخص بتكريس تبعية الجزائر لفرنسا، وجعل استعمارها واقعا لا يمكن محو آثاره، فقد عملت على محاربة الشعور الديني واللغة العربية وإحياء النعرات والنزعات الإقليمية والميول الجهوية وتوطين العناصر الأوربية لتحل محل الجزائريين وغيرها من الممارسات ؛ أما في لبنان، فإن الحضور الثقافي الفرنسي واحتكاك المثقفين اللبنانيين بفرنسا، وثقافتها ولغتها، تكاد الأصوات المعارضة لذلك فيه لا تُسمع، فالمنتقدون لها هم قلة – على العكس مما هو عليه الحال في دول المغرب العربي – سواء بين المسلمين أم المسيحيين، ولعل أغلب آراء رجال الفكر والسياسة في لبنان تري في سياسة فرنسا وسيلة دعم وإسناد لهذا البلد، فضلا عن الدعم الفرانكوفوني، ولا سيما في الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة عامة، ولبنان خاصة (20).

وإذا كان المغرب عامة والجزائر ولبنان خاصة قد تخلصا من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، إلا أنهما بقيا حبيسا التبعية اللغوية والثقافية بشكل خاص، فضلا الاعتماد علي فرنسا في الجوانب الاقتصادية والتقنية أيضا، ولعل تأثيرات الفرانكوفونية بدت واضحة    فيما بعد لا سيما في هذين البلدين .

وفي النهاية، نري بأنه أعطي لهذا الانتشار اللغوي الثقافي الفرنسي دور سياسي، عجزت العسكرية الفرنسية وسياستها عن القيام به، "أي السيطرة المادية على دول تلك المجموعة التي استنزفتها وحكمتها سابقا، وهو في رأينا غزو واضح لثقافات وحضارات هذه الشعوب، بجعلها تابعة لها، لتقولبها وتغلفها برموز فرنسية الجنسية حضارية المظهر . هذه الدعوة لا نتشار اللغة الفرنسية هي في جوهرها عملية سلب وقحة على الصعيد الفكري، إذ تهدف إلى سلب الأدمغة المفكرة والخلاقة لتلك الدول، لتجعل منها أداة دعاية لمصلحتها اللغوية، لتضمن بذلك بقاءها حية" (21).

ومن هنا نستنتج بأن تلك الطريقة بالتعامل مع المجموعة " الفرانكوفونية" خاصة على الصعيد الثقافي – اللغوي هي أسلوب " غزو" جديد لتلك المجموعة، "يحمل في طياته أبعادا تتخطي الحاضر والماضي . وهي ترمي إلى تثبيت لغتها دوليا على حساب لغات تلك المجموعة، سواء كان ذلك كليا أو جزئيا، أي أن اللغة الأم للبعض منها تبقي متوازية مع اللغة الفرنسية " (22).

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

......................

11- وليد قاصد الزيدي: الفرانكوفونية دراسة في المصطلح والمفهوم والتطور التأريخي، العتبة العباسية المقدسة، ص 33.

12- المرجع نفسه، ص 36.

13- المرجع نفسه، ص 38.

14- المرجع نفسه، ص 39.

15- المرجع نفسه، ص 58.

16- المرجع نفسه، ص 86.

17- المرجع نفسه، ص 87.

18- المرجع نفسه، ص 88.

19- المرجع نفسه، ص 120.

20- المرجع نفسه، ص 123.

21-سعاد شيخاني: الفرانكوفونية أو الغزو الفرنسي الحديث، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الانماء القومي، العدد 58، 59، 1988، ص 128.

22- المرجع نفسه والصحفة نفسها.

 

 

في المثقف اليوم