قضايا

مصعب قاسم عزاوي: بصدد حرية التعبير

مصعب قاسم عزاويفي نسق التساؤل عن كون حرية التعبير حرية مطلقة، أم أنها حرية نسبية لا بد من تقنينها بشكل ما لضمان عدم تحولها إلى فوضى، لا بد من الانطلاق من مسلمة مبسطة غير قابلة للتغاير أو التفاوت زمانياً أو مكانياً فحواها الوجوبية اعتبار حرية التفكير والاعتقاد والتعبير والكتابة والتلميح والتصريح بكل أشكالها وتلاوينها وإخراجاتها حقوقاً أساسية من حقوق الإنسان الأساسية، كما هو الحال بالنسبة لحق الإنسان في الحياة الحرة الكريمة، وحقه في العلاج من المرض، وحقه في الحصول على العلم والمعرفة.

والواقع العياني المشخص يشي بأن كل أشكال الرقابة والتقنين ما هي إلا شكل من أشكال الضوابط التي تضعها فئة في المجتمع لتضمن وتوطد هيمنتها على فئة أخرى قليلاً أو كثيراً بحسب طبيعة المجتمع ومرحلته التاريخية. وبشكل أكثر تبئيراً فإن كل أشكال الرقابة والتقنين لحرية التعبير في تاريخ البشرية لم تكن لتخدم المجتمعات التي استدمجت فيها، وإنما مصالح المتحكمين بمصائر المظلومين المستضعفين المُسْتَغَلِّين فيها، ومنعهم من التعبير عن توقهم وحقهم في تغيير واقعهم البائس الذين يعيشون فيه. والأمثلة التاريخية على ذلك عصية على الحصر، وتحفل بها كل مرحلة تاريخية بشكل يتسق مع طبيعة تلك المرحلة التاريخية أو تلك.

ولا بد دائماً من التأكيد على أن حرية التعبير والتفكير والتصريح لا بد أن تتوازى مع اعتراف ويقين جمعي بحق كل الأفرقاء الفكريين في الاشتباك فكرياً، بحيث تصبح الحجة والمنطق وسيلة الرد على مجادلة الفريق الآخر المُخْتَلَف معه، وبحيث يصبح الفكر المتحرر الأصيل وسيلة إظهار ذلك العري والهزال والخطل الذي قد يتسم به نتاج فكري آخر؛ ولكن دون الانزلاق في مهاوي التحريم والاتكاء على مبضع الرقيب و مقصلته لاجتثاث ذلك «الفكر الخبيث»، إذ أنه في الميدان الفكري لا يوجد «فكر خبيث»، وآخر «صحيح قويم منزه عن الخطل والزلل»، حيث أن الحقيقة المطلقة لا يمكن لأحد احتكارها في الميدان الفكري أو غيره، وهو ما يعني التسليم بأن هناك حقاً فردياً وجمعياً مقدساً لجميع  الغرماء في «الجدال الفكري» يبرز فيها كل فريق حجته ورؤيته وسنده، ويترك حق الحكم من بعد ذلك للمتلقي عبر التفكر العقلي المتحرر لفرز «الغث عن السمين» من نتائج تلك المجادلة، دون أن يكون هناك رقيب أو حسيب على ما يرد إلى ذاك المتلقي من حقائق تلك المجادلة ونتائجها سوى محاكمته العقلية المتحررة؛ في نسق ينطوي عضوياً على إعادة اعتبار للحقيقة العلمية الراسخة بأن البشر يتمتعون عموماً بقدرات عقلية متكافئة، وأن أصعب الحقائق والمناظرات والأطروحات الفكرية يمكن تبسيطها بشكل ميسر يجعلها في متناول أكثر البشر بساطة في نمط حياتهم، بما يمكنهم من اتخاذ «قرار عرفاني عاقل» يحترم عقولهم وكينونتهم المتكافئة مع أقرانهم الآخرين من بني البشر..

 

دكتور مصعب قاسم عزاوي

في المثقف اليوم